الأربعاء، 11 يناير 2012

العفة وكيف نحققها؟


العفة وكيف نحققها؟
د / أحمد عرفة
عناصر الخطبة:
1-    معنى العفة.
2-    فضل العفة والاستعفاف في القرآن والسنة.
3-    سلفنا الصالح والعفة.
الموضوع وأدلته
معنى العفة:
قال الراغب الأصفهاني:
 العفة حصول حالة للنفس تمتنع بها عن غلبة الشهوة والمتعفف هو المتعاطي لذلك بضرب من الممارسة والقهر.
وقال أيضاً: العفة هي ضبط النفس عن الملاذ الحيوانية وهي حالة متوسطة من إفراط هو الشره وتفريط وهو جمود الشهوة.
وقال الكفوي: العفة هي الكف عما لا يحل.
وقال الجاحظ: هي ضبط النفس عن الشهوات وقصرها على الاكتفاء بما يقيم أود الجسد ويحفظ صحته فقط واجتناب السرف في جميع الملذات. وقصد الاعتدال وأن يكون ما يقتصر عليه من الشهوات على الوجه المستحب المتفق على ارتضائه وفي أوقات الحاجة التي لا غنى عنها وعلى القدر الذي لا يحتاج إلى أكثر منه ولا يحرس النفس والقوة أقل منه وهذه الحال هي غاية العفة.
وقال الجرجاني:
العفة هي هيئة للقوة الشهوية متوسطة بين الفجور الذي هو إفراط هذه القوة والخمود الذي هو تفريطه فالعفيف من يباشر الأمور على وفق الشرع والمروءة [نضرة النعيم في أخلاق الرسول الكريم ج7، ص2872 وما بعدها].
العفة في القرآن الكريم:
1- آيات تحث على العفة عن الأجر أو السؤال للحاجة:
قال تعالى: (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم) [سورة البقرة: 273].
وقال تعالى: (ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف) [النساء: 6].
2- آيات العفة فيها عن شهوة النكاح أو أسبابه:
قال تعالى: (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله) [النور: 33].
وقال تعالى: (والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم) [النور: 60].
وقال تعالى: (والذين هم لفروجهم حافظون. إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين. فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) [المؤمنون: 6، 7].
وقال عز وجل: (والذين هم لفروجهم حافظون. إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين) [المعارج: 29، 39].
وكذلك الآيات الكريمات التي تحض على الحجاب فإنها تحض على العفة والطهارة وزكاة النفس وزكاة المجتمع
كقوله تعالى: (وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن) [الأحزاب: 53].
وقوله عز وجل: (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين) [الأحزاب: 59].
وقوله تعالى: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) [النور: 31].
فضل العفة والاستعفاف في السنة المطهرة:
أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه).
وأخرج البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن ناساً من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم ثم سألوه فأعطاهم حتى إذا نفذ ما عنده قال: ما يكن عندي من خير فلن أدخره عنكم ومن يستعفف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله ومن يتصبر يصبره الله وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر).
وأخرج أحمد والنسائي والترمذي وابن ماجة بسند حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة حق على الله عونهم: الناكح الذي يريد العفاف، والمكاتب الذي يريد الأداء- أي العبد الذي يريد أن يحرر رقبته ببذل مقدار من المال يكاتب عليه سيده- والغازي في سبيل الله).
وأخرج البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة).

وأخرج الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة في طعمة) [صحيح الجامع 886].
وأخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بروا آباءكم تبركم أبناءكم وعفوا تعف نساؤكم).
وفي الحديث الصحيح أن هرقل ملك الروم سأل أبا سفيان بن حرب قائلاً له بما يأمركم هذا النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: (يأمرنا بالصلاة والصدقة والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة).
وأخرج الترمذي في سننه بسند حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عرض علي أول ثلاثة يدخلون الجنة: شهيد، وعفيف متعفف، وعبد أحسن عبادة الله ونصح لمواليه).
أنواع العفة
قال الإمام الماوردي رحمه الله تعالى: (العفة والنزاهة والصيانة من شروط المروءة والعفة نوعان: أحدهما العفة عن المحارم، والثاني العفة عن المآثم، فأما العفة عن المحارم فنوعان: أحدهما: ضبط الفرج عن الحرام، والثاني: كف اللسان عن الأعراض. وأما العفة عن المآثم فنوعان أيضاً: أحدهما: الكف عن المجاهرة بالظلم والثاني: زجر النفس عن الإسرار بخيانة) [السلسلة الذهبية ج1، ص35].
آثار عن السلف الصالح في فضل العفة والاستعفاف:
قال لقمان الحكيم رحمه الله: حقيقة الورع العفاف.
وقال محمد بن الحنفية رحمه الله: الكمال في ثلاثة: العفة في الدين، والصبر على النوائب، وحسن التدبير في المعيشة.
وقال سفيان الثوري رحمه الله لأصحابه وقد خرجوا يوم عيد: إن أول ما نبدأ به في يومنا عفة أبصارنا.
(نضرة النعيم ج7، ص28 وما بعدها)
وقال مالك بن دينار: من غلب شهوات الدنيا فذلك الذي يفرق الشيطان من ظله.
وقال بعض العباد: أشرف العلماء من هرب بدينه من الدنيا واستصعب قيادة على الهوى.
وقال يحيى بن معاذ الرازي: من أرض الجوارح في اللذات فقد غرس لنفسه شجر الندامات.
وقال أبو علي الدقاق: من ملك شهوته في حال شبيبته خيره الله ملكاً في حال كهولته كيوسف عليه السلام (إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) [يوسف: 90].
وقال أبو محمد الجريري: من استولت عليه النفس صار أسيراً في حكم الشهوات محصوراً في سجن الهوى وحرم الله على قلبه الفوائد فلا يستلذ كلامه ولا يستحليه وإن كثر ترداده على لسانه.
سلفنا الصالح ومواقف إيمانية في العفة والاستعفاف
رجل لا يبيع جنة عرضها السموات والأرض:
قال المعتبي: علق أعرابي امرأة فطال به وبها الأمر فلما التقيا وتمكن منها وصار بين شعبيتها ذكر الله الآخرة وجاءته العصمة فقال: والله إن امرءاً باع جنة عرضها السموات والأرض بفتربين رجليك لقليل البصر بالمساحة.
فأين مكوكبها؟:
قال أعرابي: خرجت في بعض ليالي الظلمة فإذا أنا بجارية كأنها علم فأردتها على نفسها فقالت: ويلك! أمالك زاجر من عقل إذا لم يكن لك ناد من دين! فقلت: إيها! والله ما يرانا إلا الكواكب قالت: فأين مكوكبها؟.
الربيع بن خيثم وامرأة على باب المسجد:
روي أن جماعة من الشباب أرادوا أن يختبروا الربيع فأرصدوا له امرأة جميلة على باب المسجد وكان ذلك وهو شاب فلما خرج من المسجد أسفرت عن وجه كأنه دارة قمر متظاهرة بأنها ستسأله ولشد ما كانت دهشتها إذ رأته يبكي حين رأى وجهها فقالت له: ما يبكيك؟ فقال: أبكي لهذا الجمال، يسلك به سبيل الضلال فيرى في جهنم هذا الوجه وهو جمجمة متفحمة ولقد شوهدت تلك المرأة وهي من ملازمات الصلاة قلبها معلق بالمساجد.
تمام العفة
لا يكون الإنسان تام العفة حتى يكون عفيف اليد واللسان والسمع والبصر فمن عدمها في اللسان: السخرية والتجسس والغيبة والهمز والنميمة والتنابذ بالألقاب، ومن عدمها في البصر: مد العين إلى المحارم وزينة الحياة الدنيا المولدة للشهوات الرديئة، ومن عدمها في السمع: الإصغاء إلى المسموعات القبيحة، وعماد عفة الجوارح كلها أن لا يطلقها صاحبها في شيء مما يختص بكل واحد منها إلا فيما يسوغه العقل والشرع دون الشهوة والهوى. (السلسلة الذهبية، ج1، ص35).
ثمرات العفة والاستعفاف
1- النجاة من عقوبات المعاصي في الدنيا والبرزخ، فللمعاصي عقوبات دنيوية كالوحشة في القلب وحرمان نور العلم، وحرمان الرزق، وذهاب الغيرة والحياء والذل وضيق الصدر وظلمة القبر وحرمان الطاعة ونسيان العبد لنفسه والتعرض للعنة الله عز وجل ولعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2- الفوز بثمرات التقوى العاجلة والآجلة، فلا شك في أن العفة من تقوى الله عز وجل وقد وعد الله عز وجل المتقين بثمرات طيبة..
فمن الثمرات العاجلة: المخرج من كل ضيق والرزق من حيث لا يحتسب والسهولة واليسر في كل أمر وتيسير تعلم العلم النافع وإطلاق نور البصيرة ومحبة الله عز وجل ومحبة ملائكته والقبول في الأرض وغير ذلك.
وأما الثمرات الآجلة فمن ذلك: تكفير السيئات وعز الفوقية فوق الخلق يوم القيامة وميراث الجنة والفوز بأعلى الدرجات والسعادة بالصحبة والمحبة مع أحبائهم في الله وهم يساقون إلى الجنة زمراً.
3- ومن ثمرات العفة طهارة الفرد ونقاء المجتمع فالعفيف يحيا حياة اجتماعية مستقرة يتمتع بالسمعة الطيبة والذكر الحسن والزواج السعيد.
4- ومن ثمرات العفة النجاة من الإصابة بالأمراض الخبيثة التي تلاحق أصحاب الشهوات والنزوات كالإيدز والزهري والسيلان.
5- ومن ثمرات العفة التدرب على مخالفة الهوى والله عز وجل لم يجعل للجنة طريقاً إلا في مخالفة الهوى فقال تعالى: (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى. فإن الجنة هي المأوى) [النازعات: 40-41]. وقد حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات.
6- ومن ثمرات العفة أنها برهان على الصبر بل هي من الصبر فالصبر ثلاثة أنواع: صبر على الطاعات حتى يؤديها وصبر على المعاصي حتى لا يقع فيها وصبر على الأقدار حتى لا يتسخطها. وقد قال الله تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) [الزمر: 10]. وقال تعالى: (والله يحب الصابرين) [آل عمران: 12].
وقال صلى الله عليه وسلم: (ومن يتصبر يصبره الله وما أعطى أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر).
7- ومن ثمرات العفة أن يصون العبد عرضه فمن حافظ على أعراض الناس حفظ الله عرضه ومن عبث بأعراض الناس عبث الناس بعرضه والجزاء من جنس العمل. وقد قيل: من كان يحرص على عرضه فليحرص على أعراض الناس. [مواقف إيمانية / أحمد فريد، ص86-91].
والله من وراء القصد
وهو حسبنا ونعم الوكيل

 للتواصل مع الكاتب
0119133367
Ahmedarafa11@yahoo.com

الحياء من الإيمان


 الحياء من الإيمان
د / أحمد عرفة
عناصر الخطبة:
1-    حقيقة الحياء.
2-    منزلة الحياء في السنة المطهرة.
3-    فوائد الحياء وحال السلف الصالح.
الموضوع وأدلته
حقيقة الحياء:
قال الإمام النووي رحمه الله: قال العلماء: حقيقة الحياء خلق يبعث على ترك القبيح ويمنع من التقصير في حق ذي الحق.
وقال أبو القاسم الجنيد رحمه الله: الحياء رؤية الآلاء أي: النعم ورؤية التقصير فيتولد منهما حالة تسمى الحياء.
وقال ذو النون: الحياء وجود الهيبة في القلب مع وحشة ما سبق منك إلى ربك والحب ينطق والحياء يسكت والخوف يقلق.
وقال الفضيل بن عياض: خمس من علامات الشقوة: القسوة في القلب، وجمود العين، وقلة الحياء، والرغبة في الدنيا، وطول الأمل.
وفي الأثر يقول الله تعالى: (ابن آدم إنك ما استحييت مني أنسيت الناس عيوبك وأنسيت بقاع الأرض ذنوبك ومحوت من أم الكتاب زلاتك وإلا ناقشتك الحساب يوم القيامة).
وفي أثر آخر: (أوحى الله عز وجل إلى عيسى عليه السلام: عظ نفسك فإن اتعظت وإلا فاستحي مني أن تعظ الناس).
وقال يحيى بن معاذ: من استحيى من الله مطيعاً استحيى الله منه وهو مذنب.
منزلة الحياء في السنة المطهرة:
أخرج الإمام مسلم وأبو داود عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحياء خير كله) أو قال: (الحياء كله خير).
وأخرج البخاري ومسلم عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحياء لا يأتي إلا بخير).
وأخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان).
وأخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان).
وأخرج أحمد في مسنده والترمذي في سننه بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار).
البذاء: فحش الكلام أو عدم الحياء.
الجفاء: التباعد من الناس والغلظة عليهم.
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الحياء والإيمان قرنا جميعاً، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر) رواه الحاكم في المستدرك وصححه الألباني في صحيح الجامع (3201).
وقال صلى الله عليه وسلم: (ما كان الفحش في شيء إلا شانه، ولا كان الحياء في شيء قط إلا زانه) رواه الترمذي وابن ماجة وصححه الألباني في صحيح الجامع (5655).
 قال القاضي عياض رحمه الله وغيره: (إنما جعل الحياء من الإيمان وإن كان غريزة لأنه قد يكون تخلقاً واكتساباً كسائر أعمال البر وقد يكون غريزة ولكن استعماله على قانون الشرع يحتاج إلى اكتساب ونية وعلم فهو من الإيمان بهذا ولكونه باعثاً على أفعال البر ومانعاً من المعاصي) [شرح صحيح مسلم: ج2، ص205] ط دار المنارة.
وأخرج الإمام أحمد في الزهد عن سعيد بن يزيد أن رجلاً قال يا رسول الله: أوصني؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (أوصيك أن تستحيي من الله كما تستحي من الرجل الصالح من قومك) قال الألباني إسناده جيد [السلسلة الصحيحة 741].
وقال بعض السلف: (من عمل في السر عملاً يستحيي منه في العلانية فليس لنفسه عنده قدراً).
وأخرج أحمد في مسنده والترمذي في سننه عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم لأصحابه: (استحيوا من الله حق الحياء، قالوا: إنا نستحيي يا رسول الله، قال: ليس ذاكم، ولكن من استحيى من الله حق الحياء: فليحفظ الرأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيى من الله حق الحياء) [حسنه الألباني في صحيح الجامع (2/299)].
وأخرج الإمام مالك في الموطأ وابن ماجة بسند صحيح عن يزيد بن طلحة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لكل دين خلقاً وخلق الإسلام الحياء) [صححه الألباني في صحيح ابن ماجة (2/406)].
وأخرج البخاري عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت).
كلام من ذهب
قال إياس بن قرة: كنت عند عمر بن عبدالعزيز فذكر عنده الحياء، فقالوا: الحياء من الدين. فقال عمر: (بل هو الدين كله).
وقال الحسن البصري: (الحياء والتكرم خصلتان من خصال الخير، لم يكونا في عبدٍ إلا رفعه الله بهما).
وقال أيضاً رحمه الله: (أربع من كن فيه كان كاملاً ومن تعلق بواحدة منهن كان من صالحي قومه: دين يرشده، وعقل يسدده، وحسب يصونه، وحياء يقوده).
وقال الأصمعي: (سمعت أعرابياً يقول: من كساه الحياء ثوبه لم ير الناس عيبه).
وقال كعب الأحبار: (لم يكن الحياء في رجل قط فتطعمه النار أبداً).
صور من الحياء عند سلفنا الصالح
عائشة رضي الله عنها وحياء يعجز القلم عن وصفه:
أخرج أحمد في مسنده بسند صحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قال: كنت أدخل البيت الذي دفن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي رضي الله عنه واضعة ثوبي، وأقول: "إنما هو زوجي وأبي"، فلما دفن عمر رضي الله عنه والله ما دخلته إلا مشدودةً عليَّ ثيابي حياءً من عمر رضي الله عنه.
وهذا هو صديق الأمة الأكبر رضي الله عنه:
قال أبو بكر رضي الله عنه وهو يخطب الناس: (يا معشر المسلمين: استحيوا من الله فوالذى نفسي بيده إني لأظل حين أذهب الغائط في الفضاء متقنعاً بثوبي استحياء من ربي عز وجل).
وهذا فاروق الأمة عمر رضي الله عنه:
قال الفاروق رضي الله عنه: (من قل حياؤه، قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه).
أين هؤلاء الرجال الأطهار: وها هو الصحابي الجليل أبو موسى الأشعري رضي الله عنه يسطر على جبين التاريخ صفحة ناصعة البياض من الحياء.. عن أنس رضي الله عنه قال: (كان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه إذا نام لبس ثياباً عند النوم مخافة أن تنكشف عورته).
ملائكة الرحمن تستحي من عثمان رضي الله عنه:
أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعاً في بيتي كاشفاً عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر فأذن له، وهو على تلك الحال. فتحدث ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك، فتحدث ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوى ثيابه فدخل فتحدث، فلما خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهتش له ولم تباله ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تبال، ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك! فقال: ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة.
وقال صلى الله عليه وسلم: (عثمان أحيى أمتي)، يعني أكثرها حياءً.
رواه أبو نعيم في الحلية وصححه الألباني في صحيح الجامع (3977).
فلا والله ما في العيش خير              ولا في الدنيا إذا ذهب الحياءُ
يعيش المرء ما استحيا بخير            ويبقى العود ما بقي اللحاءُ
من فوائد الحياء
1- الحياء خلق يحبه الله عز وجل: أخرج أبو داود والنسائي بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى حيي ستير يحب الحياء والستر). صححه الألباني في صحيح الجامع (1756).
2- الحياء من صفات الله عز وجل: ومن صفات الله سبحانه وتعالى (الحي) روى أبو داود والترمذي وابن ماجة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله حيي كريم يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفراً خائبتين).
صححه الألباني في صحيح الجامع (1757).
3- الحياء خلق مشترك بين الأنبياء: أخرج البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت).
فقوله صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى) يشير إلى أن هذا مأثور عن الأنبياء المتقدمين وأن الناس تداولوه وتوارثوه عنهم قرناً بعد قرن، وهذا يدل على أن النبوة المتقدمة جاءت بهذا الكلام واشتهر بين الناس حتى وصل إلى أول هذه الأمة.
4- الحياء أبهى زينة: أخرج الترمذي وابن ماجة وأحمد بسند صحيح عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما كان الفحش في شيء قط إلا شانه، ولا كان الحياء في شيء قط إلا زانه) صححه الألباني في صحيح الجامع (5655).
5- الحياء إيمان: أخرج البخاري في الأدب المفرد والحاكم في المستدرك بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحياء والإيمان قرناً جميعاً فإذا رفع أحدهما رفع الآخر) صححه الألباني في صحيح الجامع (1603).
كيف تحقق الحياء؟
أولاً: تجديد الإيمان بالله سبحانه وتعالى في القلب أن الحياء ثمرة الإيمان والحياء شعبة من الإيمان فتجديد الإيمان في القلب يقوي الحياء من الرب سبحانه وتعالى والإيمان يقوى ويضعف ويزيد وينقص، ويقوى بالطاعة ويضعف بالمعصية، قال تعالى: (هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم) [سورة الفتح: 4].
وأخرج الحاكم في المستدرك بسند حسن عن عبدالله بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب- أي كما يبلى الثوب- فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم).
وتجديد الإيمان يحتاج إلى الطاعة إلى ذكر وقراءة قرآن واستغفار وأمر بمعروف ونهي عن منكر.
ثانياً: المحافظة على الصلوات الخمس من أعظم الوسائل التي تقوي الحياء في القلب من الله سبحانه وتعالى.. قال تعالى: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) [العنكبوت: 45].
ثالثاً: الإكثار من النظر دوماً إلى القدوة الطيبة والمثل الأعلى في الحياء إنه المصطفى صلى الله عليه وسلم فأدم النظر في سيرته وأقواله وأفعاله فلقد كان في القمة من الحياء.
رابعاً: مصاحبة الصالحين ورؤيتهم والسماع منهم والاستمداد من حياتهم.
قال بعض السلف: (أحيي حياءك بمجالسة من يستحى منه).
وقال قتادة: (لو لم يستفد المسلم من أخيه الصالح أن جلوسه معه يمنعه من الوقوع في المعاصي لكان خيراً كثيراً).
خامساً: التعبد بالتفكر في أسماء الله الحسنى التي تستوجب المراقبة والإحسان كأسمائه: الشهيد والرقيب والعليم والسميع والبصير والمحيط والحفيظ.
قال حاتم الأصم: (تعاهد نفسك في ثلاث: إذا عملت فاذكر نظر الله إليك، وإذا تكلمت فاذكر سمع الله منك، وإذا سكتّ فاذكر علم الله فيك).
سادساً: اعتزال البيئة الفاسدة والموبوءة التي تصد عن الخلق الحسن والتنزه عن معاشرة قليلي الحياء والتحول إلى الصحبة الصالحة.
أسأل الله تعالى أن يرزقنا الحياء وأن يحشرنا في زمرة الأتقياء إنه ولي ذلك والقادر عليه.




والله من وراء القصد
وهو حسبنا ونعم الوكيل

 للتواصل مع الكاتب
0119133367
Ahmedarafa11@yahoo.com


فضل التواضــع


فضل التواضــع
د / أحمد عرفة
عناصر الخطبة:
1-    معنى التواضع.
2-    التواضع في القرآن والسنة.
3-    مع سيد المتواضعين المصطفى صلى الله عليه وسلم.
4-    سلفنا الصالح ونعمة التواضع.
الموضوع وأدلته
معنى التواضع:
 قال الإمام الجنيد رحمه الله: التواضع هو خفض الجناح ولين الجانب.
وسئل الحسن البصري رحمه الله عن التواضع فقال:
التواضع: أن تخرج من منزلك ولا تلقى مسلماً إلا رأيت له عليك فضلاً.
وسئل الفضيل بن عياض عن التواضع فقال:
يخضع للحق، وينقاد له، ويقبله ممن قاله، ولو سمعه من صبي قبله، ولو سمعه من أجهل الناس قبله.
التواضع في القرآن والسنة:
قال تعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً) [الفرقان: 63].
وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم) [المائدة: 54].
وقال عز وجل: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً. واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً) [الإسراء: 23-24].
وقال تعالى: (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين) [الشعراء: 215].
وقال تعالى: (ولا تمش في الأرض مرحاً إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً) [الإسراء: 37].
وقال تعالى: (ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور) [لقمان: 18].
وأخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أوحي إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد).
وأخرج مسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله).
وأخرج الطبراني في الكبير بسند حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من آدمي إلا في رأسه حكمة بيد ملكٍ فإذا تواضع قيل للملك: ارفع حكمته وإذا تكبر قيل للملك: دع حكمته) [حسنه الألباني في صحيح الجامع (5675)].
وأخرج الإمام أحمد في مسنده والحاكم في المستدرك بسند حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ترك اللباس تواضعاً لله وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي دلل الإيمان شاء يلبسها) [حسنه الألباني في صحيح الجامع (6145)].
وأخرج الإمام مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله).
وقال الشاعر: تواضع تكن كالنجم لاح لناظرٍ
على صفحات الماء وهو رفيعُ
ولا تك كالدخان يعلو بنفسه
إلى طبقات الجو وهو وضيعُ.
ووصف الله عز وجل عباده الذين هداهم للإيمان فقال سبحانه: (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) [المائدة: 54].
قال ابن الحاج رحمه الله: (من أراد الرفعة فليتواضع لله تعالى؛ فإن العزة لا تقع إلا بقدر النزول، ألا ترى أن الماء لما نزل إلى أصل الشجرة صعد إلى أعلاها فكأن سائلاً سأله: ما صعد بك هنا أعني في رأس الشجرة، وأنت تحت أصلها؟ فكأن لسان حاله يقول: من تواضع لله رفعه) [من أخلاق الرسول المصري 694].
مع سيد المتواضعين المصطفى صلى الله عليه وسلم
أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت إذا أكل طعاماً لعق أصابعه الثلاث وقال: (إذا سقطت لقمة أحدكم فليمط عنها الأذى وليأكلها ولا يدعها للشيطان، وأمر أن تسلت القصعة قال: فإنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة).
وأخرج ابن ماجة في سننه بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (أحبوا المساكين فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: (اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة) [حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (308)].
وأخرج البخاري عن أنس رضي الله عنه أنه مر على صبيان فسلم عليهم وقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله.
وأخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم، فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة).
وأخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع عمر رضي الله عنه يقول على المنبر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله).
وأخرج مسلم عن أنس قال: جاء رجل إلى رسول الله فقال: (يا خير البرية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك إبراهيم عليه السلام).
وأخرج النسائي في سننه بسند صحيح عن عبدالله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر الذكر ويقل اللغو ويطيل الصلاة ويقصر الخطبة ولا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي له الحاجة).
سلفنا الصالح والتواضع
قال كعب الأحبار: ما أنعم الله على عبد من نعمة في الدنيا شكرها لله وتواضع به لله إلا أعطاه الله نفعها في الدنيا ورفعه بها درجة في الآخرة.
وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: من تواضع لله تخشعاً رفعه الله يوم القيامة، ومن تطاول تعظماً وضعه الله يوم القيامة.
وقيل لعبدالله بن مروان: أي الرجال أفضل؟ قال: من تواضع من قدرة وزهد عن رغبة.
وقال عبدالله بن المبارك رحمه الله: رأس التواضع أن تضع نفسك عند من دونك في نعمة الدنيا حتى تعلمه أنه ليس لك بدنياك عليه فضل وأن ترفع نفسك عمن هو فوقك في الدنيا حتى تعلمه أنه ليس بدنياه عليك فضل.
وقال بعض الحكماء: وجدنا التواضع مع الجهل والبخل أحمد عند الحكماء من الكبر مع الأدب والسخاء فأنبل بحسنة غطت على سيئتين وأقبح بسيئة غطت على حسنتين.
قال ابن السماك للرشيد: تواضعك في شرفك؛ أشرف من شرفك.
وقال بكر بن عبدالله المزني: ما رأيت امرأ رأيت له الفضل علي، لأني من نفسي على يقين وأنا من الناس على شك.

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ثلاث هن رأس التواضع: أن يبدأ بالسلام على من لقيه، ويرضى بالدون من شرف المجلس، ويكره الرياء والسمعة.
ثمرات التواضع
التواضع خلق كريم من أخلاق المؤمنين ودليل محبة رب العالمين عز وجل.
وهو الطريق الذي يوصل إلى مرضاة الله وإلى جنته.
وهو عنوان سعادة العبد في الدنيا والآخرة.
وهو السبيل الذي يقربك من الله تعالى ويقربك من الناس.
وهو السبيل للفوز بحفظ الله ورعايته وعنايته.
وهو الطريق لحصول النضر والبركة في المال والعمر.
وهو السبيل للأمن من عذاب الله يوم الفزع الأكبر.
وهو دليل على حسن الخلق وقائد إلى حسن الخاتمة.


والله من وراء القصد
وهو حسبنا ونعم الوكيل

 للتواصل مع الكاتب
0119133367
Ahmedarafa11@yahoo.com


الأحد، 8 يناير 2012

فضل الشكر ومنزلة الشاكرين عند رب العالمين


فضل الشكر ومنزلة الشاكرين عند رب العالمين
د / أحمد عرفة
عناصر الخطبة:
1-    فضل الشكر في القرآن والسنة.
2-    أنبياء الله عز وجل والشكر.
3-    مع سلفنا الصالح والشكر.
الموضوع وأدلته
فضل الشكر في القرآن والسنة:
قال تعالى: (فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون) [البقرة: 152].
وقال سبحانه وتعالى: (وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد) [إبراهيم: 7].
وقال عز وجل: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون) [النحل: 78].
وأخبر سبحانه أن رضاه تبارك وتعالى في شكره فقال تعالى: (إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم) [الزمر: 7].
وأخبر سبحانه وتعالى إنما يعبده من شكره فمن لم يشكره لم يكن من أهل عبادته فقال تعالى: (واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون) [البقرة: 172].
وأثنى الله سبحانه وتعالى على أول رسول بعثه إلى أهل الأرض بالشكر فقال: (ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكوراً) [الإسراء: 3].
ووصف الله تعالى الشاكرين بأنهم قليل من عباده فقال تعالى: (وقليل من عبادي الشكور) [سبأ: 13].
وأخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قام من الليل حتى تفطرت قدماه فقيل له أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: (أفلا أكون عبداً شكوراً؟).
وأخرج الإمام أحمد في مسنده والترمذي في سننه بسند صحيح عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: (والله إني لأحبك فلا تنس أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) [صحيح الجامع (7969)].
وورد في الأثر أن الله عز وجل يقول: (أهل ذكري أهل مجالستي وأهل شكري أهل زيادتي وأهل طاعتي أهل كرامتي وأهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي إن تابوا إلي فأنا حبيبهم وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب).
وأخبرنا المصطفى صلى الله عليه وسلم أن الشكر يحفظ النعم وذلك لما رواه الإمام مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها).
وقال صلى الله عليه وسلم: (ما أنعم الله على عبد نعمة فحمد الله عليها، إلا كان ذلك الحمد أفضل من تلك النعمة) [رواه ابن السني عن أنس وحسنه الألباني في صحيح الجامع (5562)].
وأخرج أحمد والترمذي عن ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليتخذ أحدكم قلباً شاكراً ولساناً ذاكراً وزوجة مؤمنة تعينه على أمر الآخرة).
وأخرج الترمذي بسند حسن عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد).
وأخرج مسلم في صحيحه عن صهيب بن سنان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له).
وحقيقة الشكر ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده: ثناء واعترافاً وعلى قلبه: شهوداً ومحبة، وعلى جوارحه: انقياداً وطاعة.
الحمد لله كلمة كل شاكر
قال سيدنا عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: الحمد لله كلمة كل شاكر وأن آدم عليه السلام قال حين عطس: الحمد لله.
وقال الله لنوح عليه السلام: (فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين).
وقال إبراهيم عليه السلام: (الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق).
وقال سليمان وداود عليهما السلام: (وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين).
وقال لنبيه عليه الصلاة والسلام: (وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً).
 وقال أهل الجنة: (الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن).
الشكر بالقلب واللسان والجوارح
أما الشكر بالقلب فهو أن يقصد الخير ويضمره للخلق كافة وأما باللسان: فهو إظهار الشكر لله بالتحميد.
وأما بالجوارح: فهو استعمال نعم الله عز وجل في طاعته والتوقي من الاستعانة بها على معصيته فمن شكر العينين أن تستر كل عيب تراه لمسلم ومن شكر الأذنين أن تستر كل عيب تسمعه فهذا يدخل في جملة شكر هذه الأعضاء.
أنبياء الله عز وجل والشكر
ها هو نبي الله نوح عليه السلام قال الله تعالى عنه: (إنه كان عبداً شكوراً) [الإسراء: 3].
قال محمد بن كعب: كان نوح إذا أكل قال: الحمد لله، وإذا شرب قال: الحمد لله، وإذا لبس قال: الحمد لله، وإذا ركب قال: الحمد لله فسماه الله عبداً شكوراً).
وعن مجاهد في قوله تعالى: (إنه كان عبداً شكوراً) قال: لم يأكل شيئاً إلا حمد الله عليه، ولم يشرب شراباً قط إلا حمد الله عليه، ولم يبطش بشيء قط إلا حمد الله عليه؛ فأثنى الله عليه أنه كان عبداً شكوراً.
وها هو خليل الرحمن سيدنا إبراهيم عليه السلام:
قال تعالى: (إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين. شاكراً لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم) [النحل: 120-121].
وهذا نبي الله موسى عليه السلام:
قال تعالى: (يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين) [الأعراف: 144].
أي اخترتك على أهل زمانك بالرسالة الإلهية وبتكلمي إياك بدون واسطة (فخذ ما آتيتك) أي: خذ ما أعطيتك من شرف النبوة والحكمة (وكن من الشاكرين): واشكر ربك على ما أعطاك من جلائل النعم.
اعملوا آل داود شكراً
قال تعالى: (ولقد آتينا داود منا فضلاً يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد. أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحاً إني بما تعملون بصير. ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير. يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفانٍ كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكراً وقليل من عبادي الشكور) [سبأ: 10-13].
ورد في الأثر: لما قيل لآل داود (اعملوا آل داود شكراً) لم يأت على القوم ساعة إلا وفيهم مصلى.
وقال داود عليه السلام: (يا رب كيف لي أن أشكر وأنا لا أصل إلى شكرك إلا بنعمك قال: فأتاه الوحي: يا داود أليس تعلم أن الذي بك من النعم مني؟ قال: بلى يا رب. قال: فإني أرضى بذلك منك شكراً).
وقال سليمان بن داود عليه السلام: (رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين) [النمل: 16، 19].
وقال لما جيء بالعرش ووجده مستقراً عنده: (قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم) [النمل: 40].
وهذا هو الحبيب صلى الله عليه وسلم
هو سيد الشاكرين محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم وانظر معي كيف كان شكر سيد الخلق صلوات الله عليه وسلامه:
أخرج أبو داود والنسائي عن أبي أيوب أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان إذا أكل أو شرب قال: الحمد لله الذي أطعم وسقى وسوغه وجعل له مخرجاً) [صحيح الجامع (4681)].
وأخرج الحاكم في المستدرك عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان إذا أتاه أمر يسره قال: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وإذا أتاه الأمر يكرهه قال: الحمد لله على كل حال) [صحيح الجامع (4649)].
وأخرج الإمام أحمد في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان إذا عطس حمد الله فيقال له: يرحمك الله، فيقول: يهديكم ويصلح بالكم) [صحيح الجامع (4754)].
سلفنا الصالح وشكر الله عز وجل
صديق الأمة سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه كان من دعائه رضي الله عنه: (اللهم أسألك تمام النعمة في الأشياء كلها والشكر لك عليها حتى ترضى وبعد الرضا والخيرة في جميع ما تكون فيه الخيرة بجميع ميسر الأمور كلها لا معسورها يا كريم).
فاروق الأمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لبس قميصاً فلما بلغ ترقوته قال: الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمل به في حياتي).
يا لها من نعمة لو يعلم العباد شكرها
كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذا خرج من الخلاء مسح بطنه بيده وقال: يا لها من نعمة لو يعلم العباد شكرها.
وعن علي رضي الله عنه أنه قال لرجل من أهل حمدان: (إن النعمة موصولة بالشكر، والشكر متعلق بالمزيد، وهما مقرونان في قرنٍ، فلن ينقطع المزيد من الله عز وجل حتى ينقطع الشكر من العيد).
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: من لم يعرف نعمة الله عليه إلا في مطعمه ومشربه فقد قل علمه وحضر عذابه.
وكان الحسن البصري إذا شرب الماء قال: الحمد لله الذي جعله عذباً فراتاً برحمته. ولم يجعله ملحاً أجاجاً بذنوبنا.
وشرب ابن عمر رضي الله عنه ذات مرة فبكى.. ولما سئل ما يبكيك؟! قال: تذكرت هذا الماء البارد إذا اشتهيته يوم القيامة فخشيت أن يقال لي: (وحيل بينهم وبين ما يشتهون) [سبأ: 54].
ومر وهيب بن الورد القرشي على قوم يضحكون ويمرحون يوم الفطر فقال: (إن كان هؤلاء تقبل منهم صيامهم فما هذا فعل الشاكرين.. وإن كان هؤلاء لم يتقبل منهم صيامهم فما هذا فعل الخائفين).
وقال يونس بن عبيد: (قال رجل لأبي تيمية: كيف أصبحت؟ قال أصبحت بين نعمتين لا أدري أيتها أفضل. ذنوب سترها الله فلا يستطيع أن يعيرني بها أحد. ومودة قذفها الله في قلوب العباد لا يبلغها عملي؟
المعاصي تزيل النعم
قال تعالى: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) [الشورى: 30].
وقال تعالى: (ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها عن قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) [الأنفال: 53].
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة).
وورد في الأثر أن رب العزة جل جلاله يقول: (وعزتي وجلالي لا يكون عبد من عبيدي على ما أحب، ثم ينتقل إلى ما أكره، إلا انتقلت له مما يحب إلى ما يكره، ولا يكون عبد من عبيدي على ما أكره ثم ينتقل إلى ما أحب إلا انتقلت له مما يكره إلى ما يحب) ولله در القائل حين قال:
إذا كنت في نعمة فارعها                فإن الذنوب تزيل النعم
وحطها بطاعة رب العباد               فرب العباد سريع النقم
وإياك والظلم مهما استطعت             فظلم العباد شديد الوخم
وسافر بقلبك بين الورى                 لتبصر آثار من قد ظلم
فتلك مساكنهم بعدهم                     شهود عليهم ولا تتهم
وما كان شيء عليهم أضر              من الظلم وهو الذي قد قصم
فكم ترجوا من جنان ومن               قصور وأخرى عليهم أطم
صلوا بالجحيم وفاتوا النعيم              وكان الذي نالهم كالحلم


قال ابن عباس رضي الله عنهما: (إن للحسنة ضياءً في الوجه ونوراً في القلب وسعة في الرزق وقوة في البدن ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سواداً في الوجه وظلمة في القلب ووهناً في البدن ونقصاً في الرزق وبغضة في قلوب الخلق).


والله من وراء القصد
وهو حسبنا ونعم الوكيل

 للتواصل مع الكاتب
0119133367
Ahmedarafa11@yahoo.com