الاثنين، 8 فبراير 2016

أمسك عليك لسانك



أمسك عليك لسانك
      وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه لما سأله ما النجاة؟ قال: أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك، فاللسان صغير حجمه، عظيم طاعته وجرمه، فبكلمة باللسان يرضى عنك الرحمن سبحانه، وبكلمة يسخط عليك، وبكلمة تدخل الجنة، وبكلمة تدخل النار، وبكلمة تصلح بين اثنين، وبكلمة تفرق بين الأفراد والمجتمعات، وبكلمة تكثر الحسنات، وبكلمة تكثر السيئات، فما أحوجنا إلى المحافظة على اللسان بإطلاقه في الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله وسائر أعمال الخير، وأن نكف ألسنتنا عن الشر من الغيبة والنميمة والكذب والوقوع في أعراض الناس والكلام فيما لا يعني وإشاعة الفوضى في البلاد والعباد.
     ولذلك نجد النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل أي المسلمين أفضل؟ قال: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه(رواه مسلم)، وبيّن أن الكلمة الطيبة سبب في رضوان الله تعالى عن العبد، وذلك فيما أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ، لا يلقي لها بالا ، يرفعه الله بها درجات ، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله ، لا يلقي لها بالا ، يهوي بها في جهنم"، وسبب في دخول الجنة، وذلك فيما أخرجه الترمذي بسند حسن عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله تعالى لمن أطعم الطعام، وألان الكلام، وتابع الصيام، وصلى بالليل والناس نيام".
     ولما جاءه سفيان بن عبد الله رضي الله عنه وقال: يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم به قال: "قل: ربي الله، ثم استقم" قلت: يا رسول الله، ما أخوف ما تخاف عليّ؟ فأخذ بلسان نفسه، ثم قال: "هذا"(رواه الترمذي)، وضمان الجنة بحفظ اللسان فعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة) (رواه البخاري)، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان فتقول اتق الله فينا، فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا)(رواه الترمذي)، وفي الأثر أكثر خطايا ابن آدم في لسانه.
     ولننظر إلى وصية النبي صلى الله عليه وسلم والتي يبين فيها أن أكثر حصائد النار من اللسان، وذلك فيما أخرجه الترمذي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال:قلت: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ، ويباعدني من النار، قال: " لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت " ثم قال: " ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ النار الماء، وصلاة الرجل من جوف الليل ، ثم قرأ تتجافى جنوبهم عن المضاجع حتى بلغ جزاء بما كانوا يعملون" ثم قال: " ألا أخبرك برأس الأمر، وعموده، وذروة سنامه ؟ الجهاد" ثم قال:" ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟ " قلت: بلى، فأخذ بلسانه، فقال: " كف عليك هذا " قلت: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ قال : " ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس على وجوههم في النار، إلا حصائد ألسنتهم ؟ " فيجب على كل مسلم أن يحذر هذه الحصائد، وأن يحفظ لسانه من الكذب والغش وقول الزور والغيبة والنميمة وكل قول يغضب الله تعالى.
    ولننظر إلى سلفنا الصالح رضي الله عنهم كيف كان حالهم مع اللسان، وكيف كانوا يدركون خطره، فهذا ابن مسعود رضي الله عنه يقول: والذي لا إله غيره، ما على  ظهر الأرض من شيء أحوج إلى طول سجن من لسان، وكان يخاطب لسانه قائلاً: يا لسان قل خيراً تغنم واسكت عن شر تسلم من قبل أن تندم، ودخل عمر رضي الله عنه على أبي بكر رضي الله عنه وهو يجذب لسانه، فقال عمر: مه، غفر الله لك، فقال له أبو بكر: إن هذا أوردني بشر الموارد، فإذا كان هذا هو حال صديق الأمة الأكبر المبشر بالجنة صاحب النبي ورفيقه في الغار خير رجال هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم ويقول عن لسانه أنه أورده المهالك، فكيف حالنا نحن في هذه الأيام التي كثر فيها السباب والشتائم والقذف والغيبة والنميمة والكذب وشهادة الزور وترويج الإشاعات الكاذبة ونشر الفوضى في البلاد والعباد ما أحوجنا إلى وصية النبي صلى الله عليه وسلم التي يقول فيها:(من صمت نجا)(رواه الترمذي).
     قال شميط بن عجلان: يا ابن آدم إنك ما سكتت فأنت سالم فإذا تكلمت فخذ حذرك، إما لك أو عليك، وقال محمد بن عجلان: إنما الكلام أربعة: أن تذكر الله، وتقرأ القرآن، وتسئل عن علم فتخبر به، أو تكلم فيما يعنيك من أمر دنياك، وقيل: المرء مخبوء تحت لسانه فإذا تكلم ظهرت لك حقيقته، وقال وهب بن منبه: أجمعت الحكماء على أن رأس الحكمة الصمت، وقال الحسن : تكلم قوم عند معاوية رحمه الله والأحنف بن قيس ساكت فقال له مالك: يا أبا بحر لا تتكلم فقال له: أخشى الله إن كذبت وأخشاك إن صدقت. والله من وراء القصد.


د/ أحمد عرفة
باحث دكتوراه بجامعة الأزهر
عضو الجمعية الفقهية السعودية
Ahmedarafa11@yahoo.com

التسامح الإسلامي وحاجة الأمة إليه



التسامح الإسلامي وحاجة الأمة إليه
من الخصائص العامة للشريعة الإسلامية أنها شريعة التسامح والرحمة بين المسلمين جميعاً، وبين المسلمين وغيرهم من أهل الكتاب الذين ليس بيننا وبينهم حرب، ورحمة وتسامح بين الإنس والحيوان، فالتسامح من ثوابت الدّين الإسلامي، الذي جاء ليُرسي دعائم السلام في الأرض من خلال دعوة أتباعه إلى تثبيت الاتصال وتقويته بينهم وبين أهل الكتاب على قاعدة دينية راسخة، وهى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله جميعا:(وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (العنكبوت:46).
     فمنهج الإسلام يقوم على التسامح والرفق واللين، والرقة والرحمة، ولا يقوم على العنف والشدة، كما يدعى أعداء الإسلام، يقول الله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل:125).
ومن هنا وضع القرآن الكريم الأسس المبنية على التسامح في الدعوة إلى الله وتبليغ الإسلام للناس قال تعالى:(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)(آل عمران:64)، هذا النموذج في عرض الرأي ينطوى على الاعتراف بالرأي الآخر، وأن المختلف له شرعيته، والتسليم بتعددية الرأي والفكر والثقافة والنظر، وأن هذه التعددية من نواميس الكون، ومن سنن الاجتماع، وهو ما مارسه المسلمون في الشورى ومن خلال مؤسسة أهل الحل والعقد وحق المعارضة البناءة، ومما يؤكد عظمة الإسلام وأنه بلغ في التسامح مبلغاً عظيماً قوله تعالى:( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ(١)لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ(٢) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (٣) وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (٤) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) فهذا هو الإسلام وهذا ما يدعو إليه، فمن قَبِلَه كان منّا، وأما من لم يقبل بالإسلام فربما يكون بحاجة إلى توضيح وتبيين، وربما إلى حوار هادئ هادف ولهذا قال تعالى: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)(العنكبوت:46) فنهى الله تعالى عن المجادلة بغير فهم وعلم من المجادل، وأمر أن تكون المجادلة بالتي هي أحسن في الخلق وحسن الحوار، وفى الرد بأدب رفيع يقصد به إظهار الحق وهداية الخلق على أساس من الإيمان بالله الواحد الأحد.
ويظهر التسامح جلياً في معاملة من لا يقبل بالدخول في الإسلام، فإنه لا يجبر على ذلك لقوله تعالى:(لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)(البقرة:256) أي لا يكره أحد على الدخول في دين الإسلام.
والعدل في المعاملة دون تمييز بسبب الدين من أعظم صور التسامح، وهذا ما أمر به ربنا جل وعلا في كتابه حيث قال: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(النحل:90)، وهذه الآية عامة في جميع أنواع العدل، وفي آية أخرى خص الله تعالى العدل وأمر به حتى مع المخالفين، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)(المائدة:8)، فالمؤمن يراقب ربه جل وعلا، ويتحرى العدل مع جميع البشر، وقد نهى الله تعالى أن يتخذ المؤمن من كفر الكافر ذريعة لظلمه وعدم العدل معه .
وجاء القرآن الكريم بالتسامح بين بني البشر جميعاً بغض النظر عن لونهم وشكلهم وعلى اختلاف لغاتهم وقبائلهم فهم سواء من جهة الخلق، حيث قال جل وعلا: ]يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ( (الحجرات:13)، وكلمة (لتعارفوا) تفتح باب المعرفة الإنسانية على مصراعيه، ليعرف الناس بعضهم بعضاً، ويتقاربوا، ويفهم أحدهم الآخر، وفي مجال الإيمان )إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ( لا استعلاء بالجنس، ولا باللون، ولا بالعرق، ولا غطرسة ولا كبرياء، بل مساواة كاملة بين أبناء الإنسانية جميعاً، فالكل سواسية أمام الخالق العظيم لأنهم ينتمون إلى أصل واحد، ومصدر واحد، وبهذا التصور الإسلامي في النظرة البشرية يتعامل المسلم مع غيره من غير المسلمين، حيث تتجلى معاني التسامح فيما أمر به ربنا جل وعلا، ومن ذلك أمره سبحانه بالإحسان إلى الوالدين وإن كانا على غير الإسلام، يقول تعالى:( وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)(لقمان:15). فهذه المعاملة للوالدين مع أنهما على غير الإسلام تعكس حقيقة التسامح الذي يأمرنا به ربنا جل وعلا لنؤكد للجميع أن هذا الدين دين الفطرة ودين الرحمة والسعادة لكل البشرية.
وجاءت الآيات تأمر المسلمين بالتسامح والعفو والصفح والرحمة بينهم وبين غيرهم من غير المسلمين، ومن ذلك نجد أمر ربنا جل وعلا للنبي صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى:(فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)(الزخرف:89)، وهذه الآية خطاب من الله سبحانه وتعالى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه في كل عصر، فأمره الله بالصفح وترك المؤاخذة، وهذا الأمر يشمل نهيه عن الانتقام والمؤاخذة، وقرن سبحانه وتعالى الصفح بقول سلام، والسلام هو الأمل المنشود الذي سعى إليه المسلمون عبر تاريخهم.
وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى التحلى بالتسامح في معاملاتهم كلها، مع المسلمين وغير المسلمين، فعن جابر بن عبد اللّه- رضي اللّه عنهما- أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «رحم اللّه رجلاً سمحاً إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى» (رواه البخاري).
 وأمر المسلم أن يسمح ويتسامح حتى الله يسمح الله له، فعن ابن عبّاس- رضي اللّه عنهما- قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «اسمح يسمح لك» (رواه أحمد).
 ولم يقتصر في دعوته للأمة بالتسامح على الإرشاد بالكلام فحسب، بل ضرب أروع أمثله التسامح والحلم، ليعلم أصحابه والمؤمنين من بعده والعالم بأسره كيف يتسامح الإنسان مع أخيه الإنسان، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه جذبة شديدة، حتى نظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبته ، ثم قال : مر لي من مال الله الذي عندك ، فالتفت إليه فضحك ، ثم " أمر له بعطاء" (رواه البخاري).
ولقد فاضت رحمته وسماحته البشر كلهم حتى وصلت إلى كل كائن حي  فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" بينا رجل بطريق، اشتد عليه العطش، فوجد بئراً، فنزل فيها، فشرب ثم خرج ، فإذا كلب يلهث، يأكل الثرى من العطش ، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني ، فنزل البئر فملا خفه ماء، فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له "، قالوا : يا رسول الله ، وإن لنا في البهائم لأجرا ؟ فقال:" في كل ذات كبد رطبة أجر" (رواه البخاري ومسلم).
فالمفهوم السليم للتسامح لا يعنى التفريط في الحقوق، فالحقوق مقدسة، والدفاع عنها واجب، والتمسك بها فريضة دينية، ومسؤولية وطنية، وكرامة إنسانية، وأن يكون التسامح مقترناً بالعدل، وهو تسامح التعايش والتساكن، وليس تسامح الإكراه والإذلال، وأؤكد هنا أن التطرف ليس فضيلة على الإطلاق، وليس هو المنهج الصائب في التعامل الإنساني، وهو دليل على ضيق الرؤية، والانفعال المرضي الضار بالمصالح المشروعة، والتطرف منهج مخالف للمنهجية الإسلامية، التي تدعو إلى الحوار البناء في إطار الدفاع عن الحق.
فما أحوج الأمة الآن للتسامح الإسلامي الذي دعانا إليه ربنا جل وعلا ونبينا صلى الله عليه وسلم مع المسلمين بعضهم البعض، ومع المسلمين وغيرهم من أهل الكتاب الذين ليس بيننا وبينهم حرب، تسامح بين الأفراد والمجتمعات، تسامح من أجل الاجتماع والوحدة، ونبذ الخلاف والشقاق، تسامح وتعايش بالعدل الذي أمر به الإسلام. والله من وراء القصد.
د/أحمد عرفة
باحث دكتوراه بجامعة الأزهر
عضو الجمعية الفقهية السعودية
Ahmedarafa11@yahoo.com

حرية التعبير وضوابطها



حريةُ التعبيرِ وضوابطُها
من مظاهر احترام الإسلامِ للشخصيةِ الإنسانيةِ كفالتُه حريةُ الرأي التي تُعدُّ من أهم الركائز التي يقوم عليها الدِّينُ الإسلاميُّ وينظر إليها على أنها حقٌّ مكفولٌ لكل من يصح أن يكونَ له رأيٌ يُعتدُّ به، بل شجع على تكوين رأي عام يُراقب الأحداث الجاريةَ ويُصحِّحُ الأخطاءَ ويُنَبِّهُ إلى الأخطار التي تحيطُ بالمجتمع.
 ولذلك نجد أن القرآن الكريم قد سلك في تقرير حرية الرأي مسالكَ عدةً في إطار منظومةٍ متكاملةٍ من المبادئ الإسلامية تُبرزُ صورة الإنسان الحر في المجتمع الذي يسيرُ وفق ما أراده الله تعالى منه، ومن ذلك تقرير القرآن الكريم لمبدأ حرية الإنسان في اختيار الدين والعقيدة قال تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(البقرة:256) فليس في الدين إكراهٌ من الله تعالى، ومن هنا يتضحُ المبدأ الإسلامي القائم على حرية الاختيار قال تعالى:(وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ)(يونس:99)، ونجد أيضاً أن الله تعالى قرر للإنسان حريةَ العبادةِ حيث أمر بالعبادة له وحده لا شريك له، كما خصص سورةً كاملةً تقرر حريةَ العبادةِ ، وأمر رسولَه فيها أن يتبرأَ من دينهم بالكليةِ وتسمى سورة البراءة من العمل الذي يعمله المشركون قال تعالى:( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4) وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)(الكافرون:1-6) لكم دينكم فلا تتركونه أبدا ولي ديني الذي أنا عليه لا أتركه أبدًا؛ لأنه قد مضى في سابق علم الله أني لا أنتقل عنه إلى غيره، وقرر أيضاً حريةَ الإنسان في تصرفاته وأمرِهِ بالمعروف ونهيهِ عن المنكر، وتقرير مبدأ الحوار مع الآخر، ومبدأ الشورى والنصح لأولي الأمر.
ومن الأدلة على وجوب حرية التعبير قوله تعالى:(كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُون)(آل عمران:111) فإن الأمر والنهي لا يكونان إلا من خلال التعبير، وأخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع  فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)، وهذا كله يدل على أن حرية التعبير من حقوق الإنسان، وحقوق الإنسان جزء من الدين شرعها الله وبينها الرسول صلى الله عليه وسلم.
 ولكن مع تقرير الإسلام لكل هذه المبادئ وإعلاء شأن الحرية إلا أنه لم يطلِق هذه الحريةَ للناس كما يريدون، وإنما ضبط الشارعُ الحكيمُ هذه الحريةَ بضوابطَ شرعيةٍ ينبغي على المسلم أن يتمسكَ بها ولا يحيد عنها، وإذا تخلفَ عنها كانت الفوضى والفسادُ في البلاد والعباد كما نرى في واقع المسلمين أنهم فهموا الحريةَ على غير وجهها الشرعي الذي أراده الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم فحدث ما نرى من الفوضى والفتنِ والبلاءِ كما نرى ونشاهد في واقعنا المعاصر.
فالحريةُ بلا قيودٍ ولا ضوابطَ عقليةٍ وخُلقيةٍ ودينيةٍ لا يصلُح بها أمرُ الإنسان والمجتمعاتِ أبداً، فالحكمةُ تقتضي أن لكل شيء حدوداً وقواعدَ إذا غابت يُضْحِي وجودُ الحرية عبثاً، فهي إن تُركتْ سائبةً بلا حدودٍ فغايتُها الضلالُ والسقوطُ في الهاويةِ.
 ومن ضوابط هذه الحريةِ أن يكون الهدفُ من إبداء الرأي والتعبير هو الوصول إلى الحق واختيارُ الأفضل فلا بد أن يطلب الحق بعيداً عن الحماس والعاطفة، ولذلك نجد أن  الله عز وجل عندما كلف نبيَّه شعيبًا عليه الصلاة والسلام بالدعوة جعل الهدفَ منها الإصلاحَ لقومه ودفعَ الفساد في دينهم ومعاملاتهم، قال تعالى: (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإليه أُنِيبُ)(هود:88) فالإخلاص وحسن الإرادة هي مناط خيرية العمل وصلاحه وقبوله.
ومنها: أن تكون هذه الآراء محققة لمقاصد الشريعة، فبعضُ الآراء تكون مشروعة ولكنها تؤدي إلى نتيجة سلبيةٍ، ومآلٍ فاسدٍ، أو إثارةِ فتنةٍ، وعليه فيجبُ أن توازن الآراءُ والاجتهاداتُ بحيثُ تكون محققة لمقاصد الشريعة، فمقاصد الشريعة تحقق مصالح العباد وتدفع عن المفاسد، وتحقيقُ المصلحة بالمحافظة على مقصودِ الشرع من الخلق، وهو ما يُعرف بالضروريات الخمس التي يجبُ الحفاظ عليها (الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال)، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمس فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة.(المستصفى، للغزالي 1/636)، وهذه المصالح قائمةٌ على التوازن بين مصالح الفرد ومصالح الجماعة، فللفرد حقوق وحريات ، لكنها تقف عند حقوق وحريات الآخرين، بغيةَ الوصول إلى حياةٍ متجانسةٍ، محفوفةٍ بالتواد والتراحم وهذا يؤدي إلى الاستقرار في المجتمع الإسلامي.(حرية الرأي، للخطيب 147).
ومنها: أن يكون التعبير في إطار منظومة القيم والأخلاق الإسلامية، ومن أجل ذلك شرع الإسلام التحلي بالقول الحسن والتزام الأخلاق الفاضلة، ونهى عن الجهر بالسوء لما يترتب عليه من آثار سيئة على الفرد والمجتمع، وكذلك نهى عن التعبير الذي يؤدي إلى إشاعة الفاحشة بين الناس، ويحصل لهم الأذى بسببه، وحرم الخوض في أعراض الآخرين وقذفهم، ونهى عن السخرية واللمز والتنابز بالألقاب.
وأن يكون الرأي في مجال قابل لإبداء الرأي فيه، فليس كل المجالات يمكن للمسلم إبداء رأيه فيها ، فكل أمر قرر الشرع حكمه بدليل من القرآن الكريم أو السنة النبوية المطهرة ، سواء أكان متعلقا بالعبادات أم المعاملات أم العقوبات أم العلاقات الشخصية ، فليس للإنسان فيه إلا أن يعمل بمقتضى الدليل قال تعالى:( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً)(الأحزاب:36)، فمقتضى الإيمان بالله والعبودية له الامتثال لأمره والاستسلام المطلق، ومن أبرز مظاهره التحاكم إلى منهج الله تعالى ، ورد الأمر إليه في كل أمور حياة البشر، ولذا نفى الله تعالى الإيمان عمن لم يستكمل هذا ، بل يقسم عليه بذاته ، قال تعالى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً)(النساء:65)، وهذا أصل عظيم من أصول الإيمان ، وهو معنى الإسلام ، فإن حقيقة الإسلام هي الاستسلام لله والانقياد له.
وهناك ضوابط تتعلق بأسلوب التعبير عن الرأي، ومنها أن يكون بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن قال تعالى:(ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)(النحل:125)، وقد حددت الآية أسلوب ممارسة حرية الرأي، فمنطق الحكمة: ويقصد به وضع الرأي في موضعه، وصواب الأمر وسداده، ووزن الأشياء موازينها، ومخاطبة الناس على قدر عقولهم، ومنطق الموعظة الحسنة: ويقصد به مراعاة عملية الإقناع، والتعامل النفسي في خطاب الآخرين، من خلال مخاطبتهم بلغة الحق والإيمان، منطق الجدل بالتي هي أحسن، ويقصد به المحاججة لإظهار الحق بمنهج فيه صبر وأناة بعيداً عن منزلقات الخطاب.(حرية الرأي، للخطيب 158).
وليس من حرية الرأي أن تثير الفتن والعداوات والشحناء بين الناس، فإذا كان الأمر كذلك وجب منعه. قال الغزالي رحمه الله:( إن المحذور هو التشعب والتعصب والعداوة والبغضاء وما يفضي إليه الكلام فذلك محرم ويجب الاحتراز عنه)(الإحياء 1/96).
ومنها: أن يكون أسلوب التعبير بعيداً عن التعصب؛ لأنه يدل على التحجر وضيق الأفق، وهو من أشد معوقات الحوار، وأكثرها ضرراً، ولا فرق بين كونه تعصبًا لمذهبٍ أو قومٍ أو فكرٍ أو بلدٍ أو عِرقٍ أو لونٍ أو جنسٍ، فالمتعصبُ يكون جامدًا في أفكاره ، يحتكر الحق والصواب، ويدفع الطرف الآخر للمكابرة والمعاندة. (الحوار الذات والآخر، الهيتي 94-95).
وألاَّ يحتوي الرأي على سبِّ الخصم، وتسفيه معتقداته ومقدساته، فاحترام الآخر وعدم المساس بمشاعره أمر مهم في تقبله للرأي، بغض النظر عن الاختلاف في الرأي، والتباين في الفكرة، والتباعد في وجهات النظر، ولذلك نهى الله سبحانه وتعالى المؤمنين عن سب آلهة المشركين، حتى لا يندفع الخصم في سب الله تعالى: ( وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، ومعنى سبهم الله عز وجل قضاء كلامهم إليه بذلك، أي فيسبوا الله (بغير علم)، ولمن يأمره ، وقد فسر (بغير علم) كشتمهم له تعالى بغير علم أنهم يسبونه، ويحتمل أن يراد سبهم له عز وجل صريحاً، ولا إشكال بناءً على أن الغيظ يحملهم على ذلك).(روح المعاني 5/364).
ومنها: أن يكون صاحب الرأي من أهل الخبرة والاختصاص أي أن يكون لديه أهلية إبداء الرأي فيما يتكلم عنه، ويقصد بذلك التأهيل العلمي في مجال الذي يطلب فيه الرأي، فاحترام التخصيص أمر مطلوب في بدء الآراء فلا بد من التحري في المعطيات والتأكيد من فهمها، وتمثل حقيقتها قبل بناء الرأي عليها، فيأتي متصفاً بوضوح الرؤية ، وقوة الحجة، ووداعة الكلمة، فلا يجوز أن يلقى الرأي جزافاً بدون تروٍ أو تفكيرٍ ، وإلا كان الرأي صادراً عن جهلٍ وضلالٍ واتباع هوى.( حرية الرأي في الإسلام، د/محمد الخطيب 166-167).
 وأن يتحلى صاحب الرأي بالصبر والحلم (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ) (الأحقاف: 35) فبهما يستطيع أن يواجه الأذى والمضايقات التي تلحق به، وأن يتحلى بالموضوعية والإنصاف، وأن يتحرر من العوامل الذاتية والخارجية في إبداء الرأي، وهذا يتطلب منه الالتزام بالصدق(وكونوا مع الصادقين ، وممارسة العدل في كل الأحوال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)(النساء:135)، والتزام التحري والتثبت عن الأخبار ومن ينقلها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)(الحجرات:6)، والبعد عن المبالغة والتهويل في عرض الآراء، وعدم الاعتماد على الظن، قال تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ...)(الحجرات:12).
فالحرية لا تعنى الإضرار بالآخرين، ولا تخريب المنشآت، ولا الانفلات الأخلاقي والفوضى التي نراها على أرض الواقع كل يوم، ولذلك فالحرية مكفولة في الإسلام ولكن بعدم الضرر، فالقاعدة الشرعية لا ضرر ولا ضرار، أي لا تضر نفسك ولا تضر غيرك، فلا يسوغ لأصحاب المذاهب الفكرية والكلامية القول بالحرية المطلقة مما يؤدّي إلى الإضرار والتضييق على حريات الآخرين، هذا بالإضافة إلى الآفات والعيوب الاجتماعية في بلاد الحرية التي تدّعي الحرية المطلقة ولا تعرف حدوداً ولا قيوداً ضرورية لحياة المجتمعات الإنسانية .
فالحرية حق من حقوق الإنسان كفلتها الشرائع السماوية قبل الأنظمة والتشريعات الحديثة، وتعتبر حرية التعبير من أهم الحريات التي يعبر بها الإنسان عن مشاعره ومعتقداته، وشؤون حياته، فيوضح بها الحق، ويكشف بها زيغ الباطل، ويحقق بها المصالح، ويدرأ بها المفاسد، فنفعها عظيم إذا أحسن استخدامها وفق ضوابطها الشرعية، وشرها مستطير إذا انفلتت من تلك الضوابط، فانتهكت بها الأعراض، ودمرت بها القيم، وزرعت بها البغضاء والشحناء بين الأفراد والأمم، والله من وراء القصد.
د/ أحمد عرفة
باحث دكتوراه بجامعة الأزهر
عضو الجمعية الفقهية السعودية
Ahmedarafa11@yahoo.com

تغيير المنكر وضوابطه



تغيير المنكر وضوابطـــــــــــه
" إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوى بساطه وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة واضمحلت الديانة وعمت الفترة وفشت الضلالة وشاعت الجهالة واستشرى الفساد واتسع الخرق وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد وقد كان الذي خفنا أن يكون، فإنا لله وإنا إليه راجعون".(الإحياء: للغزالي2/306). فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تكون خيرية هذه الأمة وتفضيلها على غيرها من الأمم قال تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ)[ آل عمران: 110].
 قال الإمام القرطبي رحمه الله: "قوله تعالى:(تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَر) مدح لهذه الأمة ما أقاموا ذلك واتصفوا به، فإذا تركوا التغيير وتواطؤوا على المنكر زال عنهم اسم المدح ولحقهم اسم الذم، وكان ذلك سبباً لهلاكهم"[تفسير القرطبي 4/173]، وبيّن ربنا جل وجلا أن الفلاح والنجاة في الدنيا والآخرة لا يكون إلا به (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران: 104]، وأخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:(من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان).
 قال الإمام النووي رحمه الله: "وأما قوله:(فليغيره) فهو أمر إيجاب بإجماع الأمة وقد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وهو أيضا من النصيحة التي هي الدين ولم يخالف في ذلك إلا بعض الرافضة ولا يعتد بخلافهم".[شرح النووي على مسلم: 2/22].
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عبادة عظيمة أمر بها ربنا جل وعلا ونبينا صلى الله عليه وسلم، ويكون الأمر بالمعروف بالمعروف، وتغيير المنكر يكون بغير منكر، وألا يؤدي تغييره إلى ما هو أشده منه، من أجل ذلك وضع العلماء ضوابط للتغيير المنكر ما أحوج المسلمين إليها في هذه الأيام التي تغيرت فيها المفاهيم وكثر فيها الخطأ في الفهم عن الله ورسوله، وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: (شرع النبي صلى الله عليه وسلم لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله، فإنه لا يسوغ إنكاره وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر، فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم عليه السلام، ومنعه من ذلك - مع قدرته عليه - خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام، وكونهم حديثي عهد بكفر، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه).(إعلام الموقعين3/4).
ومن هنا كان لا بد من تناول شروط وضوابط إنكار المنكر وتغييره، ليكون المسلم على بينة من أمره في تطبيق هذه الفريضة، وذلك كما يلي:
أولاً: شروط المنكر الواجب تغييره: وضع العلماء شروطاً في الشيء المنكر المراد تغييره وإنكاره لا بد من توافرها فيه وهي كما يلي:
الشرط الأول: أن يكون منكراً بمعنى أن يكون محظوراً في الشّرع، فالمنكر أعمّ من المعصية، فمن رأى صبيّاً أو مجنوناً يشرب الخمر فعليه أن يريق خمره ويمنعه، والمنكرالذي يجب على الأمة تغييره، هو ما خالف الشرع كتاباً وسنة مخالفة قاطعة، وسواء في هذا، أن تكون المخالفة لما أمر به الشرع إيجاباً أو لما نهى عنه تحريماً، وسواء كانت المخالفة تركاً بالكلية، لما أمر به الشرع  أو زيادة عليه بغير نص، أو نقصاً منه بغير عذر، أو تغييراً فيه، أو تبديلاً في ذاته، أو فيما يتعلق به زماناً أو مكاناً أو كيفية أو وسيلة . فكل مغايرة ذاتية أو عريضة فيما أمر به  الشرع هي منكر ، ومثل ذلك تماماً المخالفة بالفعل لما نهى عنه ، مخالفة كلية أو غير كلية.(فقه تغيير المنكر: محمود توفيق20).
الشرط الثاني: أن يكون الشيء المنكر المراد إنكاره وتغييره متفقاً على إنكاره لثبوته بالكتاب أو السنة، بحيث لا يكون إنكاره محل خلاف بين أهل العلم، فإن كان محل اجتهاد واختلاف، فليس مما يجب على الأمة تغييره، بل يكون لمن ذهب إلى أنه منكر على الراجح عنده أن يدعو إلى تركه من باب النصيحة، وتحقيق هذا الشرط من الأمور المهمة، التي قد يتساهل فيها بعض الناس، فإن تحقيقه على الوجه الصحيح، لا يكون إلاّ ممن جمع بين العلم والحكمة، إذ العلم يحقق له الوقوف على وجوه الدلالة في النصوص، ووجوه اصطفاءات الأئمة، والوقوف على دقائق العلم، والحكمة تحقق له سعة الأفق، ونفاذ البصيرة، إلى عقبى الأحداث، فلا يغتر برأي فطير، عليه مسحة من زخرف القول، أو وهج الحماسة ، واندفاع الشبيبة، بل يكون له من الحكمة والروية، ما يجعله يقف على حقائق الأشياء.(فقه تغيير المنكر:محمود توفيق 21).
الشرط الثالث: أن يكون المنكر موجوداً متيقناً في الحال، بأن يكون الفاعل مستمرّا على فعل المنكر، فإن علم من حاله ترك الاستمرار على الفعل لم يجز إنكار ما وقع على الفعل، ولا يستثى من هذا الشرط إلا الإصرار على فعل الحرام من غير إحداث توبة، فهذا يجب الإنكار عليه، وكذلك الإنكار على أرباب المذاهب الفاسدة والبدع المضلّة، حيث يرى ابن القيّم وجوب إتلاف الكتب المشتملة على البدعة، وأنّها أولى بذلك من إتلاف آنية الخمر وآلات اللّهو والمعازف، لأنّ الإنكار على أهل البدع أهمّ من الإنكار على كلّ المنكرات.(الموسوعة الفقهية الكويتية 18/278 وما بعدها)، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:(من رأى منكم منكراً فليغيره) فقوله: (رأى) دال على وجوب العلم بوقوع المنكر، علماً محققاً، أو بإقدام صاحبه عليه لا محالة، كأن يتيقن أنه يدبّر لقتل آخر أو لشرب خمر.(فقه تغيير المنكر: محمود توفيق21).
الشرط الرابع: أن يكون المنكر ظاهراً لا يحتاج اليقين بعلمه إلى تفتيش وتجسس، والحكمة من وراء ذلك أنّنا أُمرنا أن نجري أحكام النّاس على الظّواهر من غير استكشاف عن الأمور الباطنة.(الموسوعة الفقهية الكويتية 18/282 وما بعدها).
 يقول الإمام القرطبي رحمه الله في قوله تعالى: {ولا تجسّسوا}: أي خذوا ما ظهر، ولا تتّبعوا عورات المسلمين، أي لا يبحث أحدكم عن عيب أخيه حتّى يطّلع عليه بعد أن ستره اللّه فليس للمحتسب أن يتجسّس ولا أن يبحث أو يقتحم على النّاس دورهم بظنّ أنّ فيها منكرا، لأنّ ذلك من قبيل التّجسّس المنهيّ عنه وفي حكمه من ابتعد عن الأنظار واستتر في موضع لا يعلم به غالبا غير من حضره ويكتمه ولا يحدّث به.(تفسير القرطبي 16/333).
وقال الإمام الماوردي رحمه الله:(ليس للمحتسب، أن يبحث عما لم يظهر من المحرمات فإن غلب على الظنَّ استسوار قوم بها، لأمارة وآثار ظهرت ، فذلك ضربان: أحدهما: أن يكون ذلك في انتهاك حرمة، يفوت استدراكها، مثل أن يخبره من يثق بصدقه ، أن رجلاً خلا برجل ليقتله، أو بامرأة ليزني بها، فيجوز له في مثل هذا الحال ، أن يتجسس ويقدم على الكشف والبحث حذراً من فوات ما لا يستدرك، الضرب الثاني: ما قصر عن هذه الرتبة، فلا يجوز التجسس عليه ولا كشف الأستار عنه، فإن سمع أصوات الملاهي المنكرة، من دارٍ، أنكرها خارج الدار، ولم يهجم عليها بالدخول، لأن المنكر ظاهر فليس عليه أن يكشف عن الباطن).(الأحكام السلطانية 1/106).
ثانياً: شروط المُنكِر: فيشترط في من يقوم بتغيير المنكر أن يكون مُكلفاً، وأساس التكليف: العقل والبلوغ، وكذلك أن يكون مسلماً فإنَّ أي عبادة لا تقبل بغير إسلام، ولا يشترط مع الإسلام العدالة، فكل مسلم يجب عليه تغيير المنكر على الوجه الذي هو أهل له، وليس بلازم أن يكون غير مرتكب للمنكرات، فإن للفاسق أن يغير المنكر عند أهل العلم، إلا إذا كان لا يقيم الصلوات المكتوبات استهانة أو استهزاء أو إنكاراً لفرضيتها، فإنه يكون بذلك غير مسلم البتة، ولا يشترط مع الإسلام العدالة ، فكل مسلم يجب عليه تغيير المنكر على الوجه الذي هو أهل له، وليس بلازم أن يكون غير مرتكب للمنكرات . ذلك ما عليه أهل العلم فإن للفاسق بل عليه أن يغير المنكر، يقول سعيد بن جبير:( إن لم يأمر بمعروف ولم ينه عن المنكر، إلاّ من لا يكون فيه شيء ، لم يأمر أحد بشيء. فأعجب مالكاً ذلك).(فقه تغيير المنكر: محمود توفيق 32)، ويشترط فيه العلم بطرائق التغيير، وأحكامها، وآدابها، ومن جهل شيئاً من هذا وجب عليه أن يسعى إلى من يعلمه، ثم يقوم بالتغيير، ولا يستكين إلى أنه لا يعلم ، فعليه أن يغير جهله بذلك، إلى العلم به، متى كان في قومه من يعلمه، وقد تيسر العلم في زماننا لمن شاء. ويشترط في المغير أيضاً، أن يكون قادراً على التغيير، فإن عجز عن طريق، انتقل إلى ما دونه وسعى إلى أن يرفع عن نفسه أسباب عجزه، عن القيام بالطريق الأعلى.(فقه تغيير المنكر: محمود توفيق 37).
ثالثاً: ضوابط تغيير المنكر: ذكر العلماء عدة ضوابط لا بد من توافرها لوجوب إنكار المنكر وتغييره وهي ما يلي:
الضابط الأول: العلم بما يأمر به وينهى عنه: فجاهل الشيء كفاقده لا يمكن أن يعطيه للآخرين، قال تعالى:(قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي)(يوسف:108) فدل على أن الداعي إلى الله لا بد أن يكون على بصيرة، وهي الدليل الواضح الذي لا لبس في الحق معه، وقال الإمام الزمخشري رحمه الله:(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات، ولأنه لا يصلح له إلا من علم المعروف والمنكر، وكيف يرتب الأمر في إقامته وكيف يباشره، لأن الجاهل ربما نهى عن معروف وأمر بمنكر).(الكشاف 1/452).
الضابط الثاني: القدرة على التغيير: وتعنى القدرة أن يكون ذا ولاية عامة أو خاصة على المتلبس بالمنكر إن كان التغيير باليد أو اللسان، كأن يكون أباً أو سلطاناً؛ لأن العجز يرفع التكليف عن العاجز إلى حين تحقق القدرة على دفع ما تم العجز فيه، وبغض النظر عن رفض بعض العلماء حصر كل درجة من درجات التغيير بفئة محددة، كأن يختص السلطان وحده بتغيير اليد، بينما يختص العلماء بتغيير اللسان، ليبقى لعوام المسلمين إنكار القلب فحسب، إلا أن القدرة على التغيير دون حصرها بفئة محددة من المكلفين بها أمر متفق عليه بين جميع العلماء.
الضابط الثالث: عدم حصول الضرر بالإنكار: وذلك ألا يغلب على الظن نزول ضرر غير محتمل بمن يقوم بالإنكار، فقد جاء في شرح حديث: ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده...)، أن الواجب على كل من رأى منكرًا أن ينكره إذا لم يخف على نفسه عقوبة لا قبل له بها ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:( لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه. قالوا: وكيف يذل نفسه ؟ قال: يتعرض من البلاء ما لا يطيق ).(فتح الباري 9/86).
الضابط الرابع: أن لا يؤدي تغيير المنكر إلى أشد منه: لأن الغاية من النهي عن المنكر تقليل المفاسـد ودفعـها وليس تكثيرها وجلبها، فالإسلام جاء بجلب المصالح ودفع المفاسد، ودرء المفاسد مقدم علـى جلـب المصالح، فإن كان إنكار المنكر يؤدي إلى منكر أكبر منه فحينئذ لا يجب الإنكار، بل ولا يشرع، فإذا أدت إلى ذلك كان التغيير في ذاته منكراً، ولهذا قرر العلماء مشروعية السكوت على المنكر مخافة ما هو أنكر منه وأعظم ارتكاباً لأخف الضررين، واحتمالاً لأهون الشرين، فلا يجوز دفع المنكر بمنكر أشد منه وأكبر منه، كأن تكون إزالة المنكر سببا لفتنة تسفك فيها الدماء دماء الأبرياء، وتنتهك الحرمات وتنتهب الأموال، وتكون العاقبة أن يزداد المنكر تمكنا، ويزداد المتجبرون تجبرا وفسادا في الأرض، ونجد التطبيق العملي من النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال لأمنا عائشة رضي الله عنها:( لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم)(رواه مسلم)، فترك تحطيم الأصنام في مكة وانتظر امتلاكه للقوة التي مكنته من تحطيمها عند الفتح، مع أنه لو أزالها من مبتدأ الدعوة لترتب على ذلك تقتيل المسلمين، أو تعويق مسيرة الدعوة، فقدم صلى الله عليه وسلم أهون الضررين.
الضابط الخامس: الحكمة والموعظة الحسنة: لقوله تعالى:(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(النحل:125) فالحكمة والموعظة الحسنة تستدعي وتستلزم علماً وحلماً ورفقاً وليناً ورحمة وصبراً، فالعلم وسيلة إلى معرفة المعروف والمنكر، وهو أيضاً وسيلة إلى فقه أحوال المخاطبين وظروفهم والطريقة التي يخاطبون بها، فلا تدفعه الحماسة والغيرة فيتجاوز الحكمة في هذا كله، إنه يستدعي فقهاً بالشريعة وفقها بأحوال الناس وفقها بواقع الناس، والحلم والرفق ضروري أيضاَ لتحقيق المراد، وإلا نفر الناس من الداعي وانقلب المطلوب إلى ضده، وقد قال بعض السلف:(لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فقيهاً فيما يأمر، فقيهاً فيما ينهى عنه، رفيقاً فيما يأمر به، رفيقاً فيما ينهى عنه)، وأما الصبر فهو قرين الصدق في إرادة الخير للناس، والأخذ بأيديهم إلى الصراط المستقيم، وما أفسده الناس في أزمنة طويلة لا يصلح بين يوم وليلة، ففيم اليأس والتسرع في الحكم على الناس بالفسق والكفر؟!، وقد تجلت حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في تغيير المنكر والرفق والرحمة والحلم والصبر في نماذج كثيرة منها ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك قال:« بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد ، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : مه مه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تزرموه دعوه " فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له:" إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، ولا القذر إنما هي لذكر الله عز وجل، والصلاة وقراءة القرآن " أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فأمر رجلا من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه عليه».
وقال لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، حين غضبت من قولة اليهود له صلى الله عليه وسلم: « السَّامُ عليكم: فقالت: وعليكم السَّامُ واللعنةُ، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(مهلاً يا عائشة، إن الله يحب الرفق في الأمر كلَّه)، فقلت: يا رسول الله، أولم تسمع ما قالوا ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد قلت : وعليكم)».(متفق عليه).
ومما يدخل في باب الرفق والحكمة في هذا ، ألا يكون ذلك مواجهة ومصارحة في ملأٍ من الناس، فإنها حينذاك تشهير لا تذكير. يقول الإمام الشافعي رحمه الله: من وعظ أخاه سرّا فقد نصحه وزانه ، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه .(فقه تغيير المنكر: محمود توفيق28).
فما أحوج الأمة الآن لهذه الحكمة والموعظة الحسنة والحلم والرفق واللين في الدعوة إلى الله وتغيير المنكر وبذل النصيحة للغير كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم.
فالحقيقة التي لا بد أن يعتقدها كل مسلم، أن تطبيق فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الوجه الصحيح لا تكون إلا بالالتزام بضوابطها وشروطها وآدابها التي بينها الله تعالى في كتابه، وفصلها وطبقها رسوله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وسيرته، وفيما عدا ذلك فإن آثار التطبيق الخاطئ وغير المنضبط لهذه الفريضة قد يجر على الأمة ويلات من حيث كان يريد لها الخير والصلاح والإصلاح كما رأينا ذلك واضحاً جلياً في هذه الثورات والمظاهرات والإضرابات والاعتصامات منذ سنوات وما زالت إلى الآن في بعض البلاد كيف أنها جرت على الأمم والبلاد والعباد ويلات كثيرة إلى الآن فلن يكون الإصلاح والتغيير إلا بالفهم الصحيح لشرع الله تعالى وهدي النبي صلى الله عليه وسلم في تغيير المنكر.
د/ أحمد عرفة
باحث دكتوراه بجامعة الأزهر
عضو الجمعية الفقهية السعودية
Ahmedarafa11@yahoo.com

مكانة الصحابة في السنة النبوية



مكانة الصحابة في السنة النبوية
السنة النبوية المطهرة هي المصدر الثاني للتشريع الإسلامي، والذين قاموا بحفظ السنة ونشرها والمحافظة عليها هم الصحابة رضي الله عنهم، وقد بينت لنا السنة النبوية الصحيحة فضلهم وعلو منزلتهم، ومن ذلك ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي بردة عن أبيه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:((النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون)، وأخرج البخاري في صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته))، وأخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خير أمتي القرن الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم))[والله أعلم] أذكر الثالث أم لا، قال: " ثم يخلف قوم يحبون السمانة، يشهدون قبل أن يستشهدوا ".
قال الإمام الحافظ ابن حجر- رحمه الله: والذي ذهب إليه الجمهور أن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل لمشاهدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأما من اتفق له الذب عنه والسبق إليه بالهجرة أو النصرة وضبط الشرع المتلقي عنه وتبليغه لمن بعده فإنه لا يعدله أحد ممن يأتي بعده؛ لأنه ما من خصلة من الخصال المذكورة إلا وللذي سبق بها مثل أجر من عمل بها من بعده فظهر فضلهم.[فتح الباري 7/7].
 وفي الصحيحين عن علي رضي الله عنه في قصة كتاب حاطب مع الظعينة – وفيه – فقال عمر: إِنَّه قد خانَ اللهَ ورسوله فدعني فلأَضْرِبْ عنقه، فقال ((أَلَيْس مِنْ أهل بدر)) فقال صلى الله عليه وسلم:((لعلَّ الله اطَّلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة)) أو ((فقد غفرت لكم)) فدمعتْ عينا عمر رضي الله عنه وقال: الله ورسولُهُ أعلم، وأخرج البخاري في صحيحه عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: حدَّثني أصحابُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم ممَّن شهد بدراً أَنَّهم كانوا عدَّة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر: بضعة عشر وثلاثمائة، قال البراء: لا والله ما جاوز معه النهر إلاّ مؤمن، وأخرج البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [الفتح:1] قال الحديبية، قال أصحابه هنيئاً مريئاً فما لنا. فأنزل الله تعالى لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [الفتح:5]، وأخرج الترمذي في سننه بسند صحيح عن جابر رضي الله عنه قال: قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا يدخل النار أحدٌ ممن بايع تحت الشجرة)).
 وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من سبهم والتعرض لهم بسوء في أحاديث كثيرة منها ما جاء في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه- قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد، ذهبا ما بلغ مد أحدهم، ولا نصيفه)).
قال الإمام النووي - رحمه الله -: ومعناه: لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ ثوابه في ذلك ثواب نفقة أحد أصحابي مداً ولا نصف مد (شرح النووي على مسلم 16/93)، وقال الإمام البيضاوي -رحمه الله-: معنى الحديث لا ينال أحدكم بإنفاق مثل أحد ذهباً من الفضل والأجر ما ينال أحدهم بإنفاق مد طعام أو نصيفه، وسبب التفاوت ما يقارن الأفضل من مزيد الإخلاص وصدق النية، قلت: وأعظم من ذلك في سبب الأفضلية عظم موقع ذلك لشدة الاحتياج إليه وأشار بالأفضلية بسبب الإنفاق إلى الأفضلية بسبب القتال كما وقع في الآية من أنفق من قبل الفتح وقاتل فإن فيها إشارة إلى موقع السبب الذي ذكرته وذلك أن الإنفاق والقتال كان قبل فتح مكة عظيما لشدة الحاجة إليه وقلة المعتني به بخلاف ما وقع بعد ذلك لأن المسلمين كثروا بعد الفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجاً فإنه لا يقع ذلك الموقع المتقدم والله أعلم.[فتح الباري 7/34].
قال الإمام الآجري -رحمه الله-: "ومن سبهم فقد سب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن سب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استحق اللعنة من الله - عز وجل -، ومن الملائكة ومن الناس أجمعين)[الشريعة: صـ712)]، وقال أيضاً: " لقد خاب وخسر من سب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه خالف الله ورسوله ولحقته اللعنة من الله - عز وجل - ومن رسوله ومن الملائكة ومن جميع المؤمنين ولا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، لا فريضة ولا تطوعاً، وهو ذليل في الدنيا وضيع القدر، كثر الله بهم القبور، وأخلى منهم الدور.[الشريعة: صـ716].
وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن واثلة بن الأسقع -رضى الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تزالون بخير مادام فيكم من رآنى وصاحبني، والله لا تزالون بخير ما دام فيكم من رأى من رآنى وصاحب من صاحبنى والله لا تزالون بخير مادام فيكم من رأى من رأى من رآنى وصاحب من صاحب من صاحبنى"، وأخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عائشة -رضى الله عنها- قالت: ((أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي -صلى الله عليه - فسبوهم)).
قال الإمام البيهقي -رحمه الله-: "وإذا ظهر أن حب الصحابة من الإيمان فحبهم أن يعتقد فضائلهم ويعترف لهم بها ويعرف لكل ذي حق منهم حقه، ولكل ذي عنا في الإسلام عناه ولكل ذي منزلة عند الرسول - صلى الله عليه وسلم - منزلته، وينشر محاسنهم ويدعو بالخير لهم ويقتدي بما جاء في أبواب الدين عنهم ولا يتتبع زلاتهم وهفواتهم ولا يتعمد تهجين أحد منهم ببث ما لا يحسن عنه، ويسكت عما لا يقع ضرورة إلى الخوض فيه فيما كان بينهم وبالله التوفيق".[شعب الإيمان: جـ2صـ191].
كانت هذه بعض فضائل الصحابة رضي الله عنهم في السنة النبوية المطهرة تبين لنا من خلالها كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن أنهم خير القرون، وأنهم أمان للأمة كما أن النجوم أمنة للسماء، فما أحوجنا إلى معرفة هذا الفضل لصحابة نبينا صلى الله عليه وسلم والدفاع عنهم والتحذير من التعرض لهم بسوء.
                                                                    د/أحمد عرفة
باحث دكتوراه بجامعة الأزهر
عضو الجمعية الفقهية السعودية
Ahmedarafa11@yahoo.com

مكانة الصحابة في القرآن الكريم



مكانة الصحابة في القرآن الكريم
في الآونة الأخيرة ظهرت ظاهرة الطعن في صحابة رسول الله رضي الله عنهم الذين هم خير جيل عرفته البشرية، وهم خير هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم ، فما أحوج الأمة الآن إلى معرفة فضائلهم ومناقبهم من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وبيان عقيدة أهل السنة والجماعة فيهم، فمن فضائلهم في القرآن الكريم أن تعالى أعلى شأنهم ورضي عنهم ورفع مكانتهم قال تعالى:(مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا).[الفتح: 29].قال ابن الجوزي -رحمه الله-: وهذا الوصف لجميع الصحابة عند الجمهور، وقال مالك -رحمه الله-: من أصبح وفى قلبه غيظ على أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- فقد أصابته الآية. قال الإمام القرطبي -رحمه الله- معلقاً على كلام الإمام مالك -رحمه الله-: لقد أحسن مالك في مقالته وأصاب في تأويله فمن نقص واحداً منهم أو طعن عليه في روايته فقد رد على الله رب العالمين، وأبطل شرائع المسلمين.
ثم قال -رحمه الله-: فالصحابة كلهم عدول، أولياء الله -تعالى- وأصفياؤه، وخيرته من خلقه بعد أنبيائه ورسله هذا مذهب أهل السنة، والذي عليه الجماعة من أئمة هذه الأمة.[تفسير القرطبي16/ 297- 299]، وقال تعالى: (لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاؤُو مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)[ الحشر: 8- 10]
 قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وهذه الآيات تتضمن الثناء على المهاجرين والأنصار، وعلى الذين جاءوا من بعدهم يستغفرون لهم ويسألون الله أن لا يجعل في قلوبهم غلاً لهم، وتتضمن أن هؤلاء الأصناف هم المستحقون للفيء، ولا ريب أن هؤلاء الرافضة خارجون من الأصناف الثلاثة، فإنهم لم يستغفروا للسابقين الأولين، وفى قلوبهم غل عليهم، ففي الآيات الثناء على الصحابة وعلى أهل السنة الذين يتولونهم، وإخراج الرافضة من ذلك، وهذا نقيض مذهب الرافضة"[منهاج السنة 2/18]، وقال الإمام ابن أبى العز الحنفي -رحمه الله-: "فمن أضل ممن يكون في قلبه غل على خيار المؤمنين وسادات أولياء الله -تعالى- بعد النبيين؟ بل قد فضلهم اليهود والنصارى بخصلة قيل لليهود: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب موسى، وقيل للنصارى: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب عيسى، وقيل للرافضة من شر أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب محمد لم يستثنوا منهم إلا القليل، وفيمن سبوهم من هو خير ممن استثنوهم بأضعاف مضاعفة".[شرح الطحاوية: صـ47]، وبيّن ربنا جل وعلا أنه أعد للصحابة الأجر العظيم والثواب الجزيل والمغفرة في الآخرة فقال جل وعلا: (وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [الحديد:: 10)]. وقد استدل الإمام ابن حزم -رحمه الله تعالى- بقوله -تعالى-: (وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) أن جميع الصحابة بدون استثناء من أهل الجنة مقطوع لهم بذلك [الفصل في الملل والنحل: جـ4صـ148)].
 ومن فضائلهم أنه سبحانه أخبرنا أنه رضي الله عنهم فيا لها من منزلة عظيمة لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الرضا من الله جل وعلا قال سبحانه: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا)[ الفتح: 18]، وقال سبحانه: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ - رضي الله عنهم - وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[ التوبة: 100] .
قال الإمام البغوي - رحمه الله -: قال أبو صخر حميد بن زيادة: أتيت محمداً بن كعب القرظى فقلت له: ما قولك في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: جميع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجنة محسنهم ومسيئهم، فقلت: من أين تقول هذا؟ قال: اقرأ قول الله - تعالى -: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ) إلى أن قال: (رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ)[تفسير البغوى 2/271]، وقال ابن حزم رحمه الله:"فمن أخبرنا الله -عز وجل- أنه علم ما في قلوبهم ورضي عنهم وأنزل السكينة عليهم فلا يحل لأحد التوقف في أمرهم ولا الشك فيه ألبتة "[الفصل في الملل والنحل: 4 / 148]، وبيّن ربنا جل وعلا أنهم خير أمة فقال عز وجل:(كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)[ آل عمران:: 110].
وقال - تعالى -: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)[ البقرة: 143] فمن المخاطب وقت نزول الآيتين غير الصحابة؟ فهم المخاطبون بذلك خطاباً أولياً، فثبت خيريتهم رضى الله عنهم على كافة الناس غير الأنبياء، وجعلهم الله شهداء على الناس يوم القيامة لفضلهم وشرفهم وعلو منزلتهم، وقال تعالى:(يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[ التحريم:8].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: وفى الجملة كل ما في القرآن من خطاب المؤمنين والمتقين والمحسنين ومدحهم والثناء عليهم، فهم -أي الصحابة- أول من دخل في ذلك من هذه الأمة، وأفضل من دخل في ذلك من هذه الأمة[منهاج السنة 2/49-50].
كانت هذه بعض فضائل الصحابة رضي الله تعالى في القرآن الكريم وكيف أن الله عز وجل رضي عنهم وأعلى شأنهم ورفع مكانتهم وبيّن أنهم خير أمة أخرجت للناس، وما أعده لهم من الأجر العظيم والثواب الجزيل في الآخرة، فما أحوجنا إلى معرفة هذا الفضل لهم رضي الله عنهم كما أمرنا الله عز وجل.
د/أحمد عرفة
باحث دكتوراه بجامعة الأزهر
عضو الجمعية الفقهية السعودية
Ahmedarafa11@yahoo.com