رعاية الشريعة للمسنين
لقد اهتمت الشريعة الإسلامية بالإنسان من قبل ولادته وحتى وفاته، وذلك من
خلال تنظيم القواعد والآداب والضوابط التي تحكم كل مرحلة من مراحل حياته، ومنها
مرحلة الشيخوخة، فقد أشار القرآن إليها حينما قال: "هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم
مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً
ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً" (غافر: 67)؛ فجعلها
مرحلة عناية واهتمام وتقدير وتوقير.
ومن رعاية الإسلام للمسنين أن حث على تكريمهم والإحسان إليهم قال تعالى: "وَلَقَدْ
كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ وَحَمَلنَاهُمْ فىِ الْبَرِ وَالْبَحرِ وَرَزَقْنَاهُم
مِنَ الطَّيِبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلىَ كَثِيرٍ مّمِنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً" (الإسراء:70).
كما أن رعاية الشيوخ والمسنين من التراحم والتعاون الذي حث عليه الإسلام،
فهي باب عظيم من أبواب التراحم في الدنيا وكسب الثواب في الآخرة، فعن النعمان بن
بشير رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم" مثل المؤمنين في
توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر
والحمى"(رواه البخاري ومسلم)
"وإنما جعل المؤمنين كجسد
واحد لأن الإيمان يجمعهم كما يجمع الجسد الأعضاء فلموضع اجتماع الأعضاء يتأذى الكل
بتأذي البعض وكذلك أهل الإيمان يتأذى بعضهم بتأذي البعض".(كشف المشكل من حديث
الصحيحين، لابن الجوزي 1/442).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن أبي هريرة قال: سُئل رسول الله صلى الله
عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال: أن تدخل على أخيك المسلم سروراً أو تقضي عنه ديناً
أو تطعمه خبزا"(رواه البيهقي).
كما حث النبي صلى
الله عليه وسلم على إكرام المسنين ورعايتهم ورغب في ذلك، وذلك فيما جاء عن أبي
موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن من إجلال الله
إكرام ذي الشيبة المسلم وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه وإكرام ذي
السلطان المقسط" (رواه أبو داود). أي تعظيم الشيخ الكبير في الإسلام بتوقيره
في المجالس والرفق به والشفقة عليه ونحو ذلك كل هذا من كمال تعظيم الله لحرمته عند
الله، "وحامل القرآن" أي وإكرام حافظه وسماه حاملا له لما يحمل لمشاق
كثيرة تزيد على الأحمال الثقيلة. (عون المعبود 13/132).
ودعا إلى توقير
الكبير واحترامه، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه: أن رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم قال:"ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا"(رواه الترمذي)،
وأرشدنا أن يُسلم الصغير على الكبير، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال:" يسلم الصغير على الكبير، والمار على القاعد، والقليل
على الكثير"(رواه البخاري)، وأعطاهم الإسلام المكانة المتميزة، وذلك فيما
بينه صلى الله عليه وسلم من ثواب ذي الشيبة المسلم حيث قال: "من شاب شيبة في
الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة"(رواه الترمذي). أي يصير الشعر نفسه نوراً
يهتدي به صاحبه والشيب وان كان ليس من كسب العبد لكنه إذا كان بسبب من نحو جهاداً
وخوف من الله ينزل منزلة سعيه.(التيسير بشرح الجامع الصغير، للمناوي 2/821).
ورعاية المسنين صورة
من صور التكافل الاجتماعي في المجتمع المسلم، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه
وسلم: " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله
في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر
مسلماً ستره الله يوم القيامة"(رواه
البخاري ومسلم).
وبر الوالدين مظهر من مظاهر هذه الرعاية، وهم أولى بها من غيرهم بالدرجة
الأولى، والبر بهم سبب من أسباب دخول الجنة، كما قد يكون العقوق سبباً لدخول
النار، وفي ذلك يقول سبحانه: "وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ
إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ
أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل
لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ
الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا"(الإسراء:
23-24).
وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال جاء رجلٌ إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك.
قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال ثم من؟ قال: أبوك".
قال ابن عباس رضي الله عنهما: ثلاث آيات نزلت مقرونة بثلاث لا تقبل منها
واحدة بغير قرينتها. الأولى: قول الله تعالى:"وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ" فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يقبل منه. الثانية: قول الله
تعالى: "وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ" فمن أقام ولم يؤد
الزكاة لم يقبل منه. الثالثة: قول الله تعالى:"أَنِ اشْكُرْ لِى
وَلِوَالِدَيْكَ" فمن شكر الله ولم يشكر لوالديه لم يقبل منه.
ويجب على الدولة
الاهتمام بالمسنين فهذه مسئولية كبيرة أرشد إليها الإسلام، وقد قال صلى الله عليه
وسلم: "كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل
راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها،
والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته"(رواه البخاري)، وأخرج مسلم عن معقل
بن يسار رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من عبدٍ يسترعيه
الله رعية ًيموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة".
ومن رعاية الإسلام
للمسنين أن أرشد إلى حُسن التعامل معهم وحذر من الإساءة إليهم حتى في أوقات
الحروب، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ
أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذَا بَعَثَ أَمِيرًا
عَلَى سَرِيَّةٍ، أَوْ جَيْشٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِتَقْوَى اللهِ
وَبِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، قَالَ: اغْزُوا فِي سَبِيلِ اللهِ,
قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ, اغْزُوا، وَلاَ تَغُلُّوا، وَلاَ تَغْدِرُوا,
وَلاَ تُمَثِّلُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا وَلَيَدًا"، "وفي هذه الكلمات من
الحديث فوائد مجمع عليها، وهي تحريم الغدر، وتحريم الغلول، وتحريم قتل الصبيان إذا
لم يقاتلوا، وكراهة المثلة، واستحباب وصية الإمام أمراءه وجيوشه بتقوى الله تعالى،
والرفق باتباعهم، وتعريفهم ما يحتاجون في غزوهم، وما يجب عليهم، وما يحل لهم، وما
يحرم عليهم، وما يكره وما يستحب"(شرح مسلم للنووي 12/37).
ومن رعاية الشريعة
الإسلامية لهم أن شرعت لهم الخاصة بهم في جانب العبادات والمعاملات، ومن ذلك أمر
النبي صلى الله عليه وسلم التخفيف في الصلاة مراعاة لحال الضعفاء وكبار السن، وذلك
فيما أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: " إذا صلى أحدكم للناس فليخفف فإن منهم الضعيف والسقيم
والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطوِّل ما شاء".
وهذا التكريم والإحسان يشمل المسلم وغير المسلم، فعن أسماء قالت قدمت علي
أمي وهي مشركة ٌ في عهد رسول الله فاستفتيت رسول الله قلت: قدمت علي أمي وهي راغبة
ٌأفأصل أمي قال: "نعم صلي أمك" فأنزل الله فيها " لا يَنْهَاكُمُ
اللهُ عن الذين لم يُقَاتِلُوكمْ في الدِّين "(متفق عليه).
من خلال ما ذكرنا يتبين
أن الشريعة الإسلامية كرمت المسنين وحثت على رعايتهم وبرهم والإحسان إليهم في صور
عديدة ومواضع شتى، فعلينا أن نقوم بهذه الرعاية وبهذه الحقوق كما أمرنا الإسلام كي
نسعد في الدنيا والآخرة.
والله
من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل
د/
أحمد عرفة
عضو هيئة التدريس بقسم الفقه المقارن جامعة الأزهر
Ahmedarafa11@yahoo.com