ضوابط وأخلاقيات العمل التجاري الإسلامي
إنَّ النَّاظرَ والمُتَأَمِّلَ في ديننا الإسلامي الحَنيفِ، يَجِدُهُ قد حَثَّ على العمل، ودعا إليه بشتى صوره وأشكاله، ونَهَى عن الخُمُول والكَسَلِ، وقد جاء ذلك واضحًا جليًّا في مَواضعَ كثيرةٍ من القرآن الكريم؛ منها قول الله – تعالى-: ﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾([1])، وقال –سبحانه-: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾([2])، وقال -عزَّ وجلَّ-: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾([3]).
كذلك دعا الإسلامُ إلى العمل المُثمِر وحثَّ عليه، وبَارَكَ الجُهدَ المبذولَ، وحذَّرَ من البّطَالة والتسول، ومنع الاستجداء ممن كان قادرًا على العمل، وقد مدح الله العامل بقوله: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾([4]).
هذا وقد جاءت السُّنَّة المُطهَّرة وحثَّت على العمل وإتقانه، وبيَّنت أنَّ أفضلَ الأعمال أنْ يأكلَ الرجلُ من عَمَلِ يده، وأنَّ الأنبياء -عليهم السلام كانوا يأكلون من عمل أيديهم، ومن ذلك قوله r: «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ، خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ-، كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ»([5]).
فأطيب المكاسب ما كان بعمل اليد، وإنْ كان زراعة فهو أطيب المكاسب لِمَا يشتمل عليه من كونه عَمَلَ اليدِّ، ولِمَا فيه من التَّوكُّلِ، ولِمَا فيه من النَّفْعِ العام للآدمي والدواب([6]).
وفي هذا الحديث فوائدُ كثيرةٌ؛ منها: "إيصال النفع لآخذ الأجرة إن كان العمل لغيره، وإيصال النفع إلى الناس بتهيئة أسبابهم من نحو: (زرع، وغرس، وخياطة) وغير ذلك، ومنها: أن يشتغل الكاسِبُ به فَيَسْلَمَ عن البطالة واللهو، ومنها: كَسْرُ النفس به، فَيَقِلُّ طُغيانُها ومَرَحُها، ومنها: التَّعَففُ عن ذلِّ السؤال والاحتياج إلى الغير، وشرط المُكتسِب أن لا يعتقد الرزقَ من الكَسْبِ بل من الرزاق ذي القوة"([7]).
ولو تأملنا سيرة الأنبياء لوجدناهم يأكلون من عمل أيدهم، ومن ذلك نبينا -r؛ حيث كان راعي غنم وكان يقول: «مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الغَنَمَ»، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ»([8]).
وكان آدم -عليه السلام- حرَّاثًا، ونوح نجَّارًا، وإدريس خيَّاطًا، وإبراهيم ولوط كانا يعملان في الزراعة، وصالح تاجراً، وداود حدَّادًا، وهكذا كان صحابة رسول الله -رضي الله عنهم- فقد كان عبد الرحمن بن عوف تاجرًا، والزبير بن العوام خيَّاطًا، وسعد بن أبى وقاص نَبَّالًا، أي: يصنع النبال، وعمرو بن العاص جزارًا، وكان لابن مسعود وأبي هريرة مزارع يزرعونها، وكان عمار بن ياسر يصنع المكاتل ويضفر الخوص، ولما سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أِيُّ الْكَسْبِ أَطْيَبُ, أَوْ أَفْضَلُ؟, قَالَ: "عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ"([9]).
وكما أمرنا دينُنَا بالعمل، وحثَّنا عليه، كذلك حذَّرنا من التسول ونهانا عنه، بل لم يقتصر الأمر على ذلك، بل حاربه بشتى أشكاله وصوره التي نراها اليوم في كثير من المجتمعات، حتى صار التسول مهنة عند الكثيرين، فربَّما تجد الكثير من هؤلاء يستطيع العمل، ولكنَّه استسهل هذا الأمر، وجعله حرفته ومهنته وشغله وعمله اليومي، وقد حذَّر النبي r من هذا الفعل، ونهى عنه، وحاربه، ودعا أتباعه للعمل، ومن ذلك قوله r: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلًا، فَيَسْأَلَهُ أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ»([10]).
كذلك نهى عن المسألة وبيّن أنَّها مذلة في الدنيا، وعقوبتها وخيمة في الآخرة وذلك في قوله: «لَا تَزَالُ الْمَسْأَلَةُ بِأَحَدِكُمْ حَتَّى يَلْقَى اللهَ، وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ»([11]).
وعلَّمنا النبيُّ r كيف نتعامل مع هؤلاء المتسولين القادرين على العمل والكسب؛ فقد روى البخاري عن أنس: "أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُهُ، فَقَالَ: «أَمَا فِي بَيْتِكَ شَيْءٌ؟» قَالَ: بَلَى، حِلْسٌ نَلْبَسُ بَعْضَهُ وَنَبْسُطُ بَعْضَهُ، وَقَعْبٌ نَشْرَبُ فِيهِ مِنَ الْمَاءِ، قَالَ: «ائْتِنِي بِهِمَا»، قَالَ: فَأَتَاهُ بِهِمَا، فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ، وَقَالَ: «مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ؟» قَالَ رَجُلٌ: أَنَا، آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ، قَالَ: «مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا»، قَالَ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ فَأَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ، وَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ وَأَعْطَاهُمَا الْأَنْصَارِيَّ، وَقَالَ: «اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا فَانْبِذْهُ إِلَى أَهْلِكَ، وَاشْتَرِ بِالْآخَرِ قَدُومًا فَأْتِنِي بِهِ،»، فَأَتَاهُ بِهِ، فَشَدَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُودًا بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: «اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَبِعْ، وَلَا أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا»، فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ، فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ، فَاشْتَرَى بِبَعْضِهَا ثَوْبًا، وَبِبَعْضِهَا طَعَامًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَـــــذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِــــيءَ الْمَسْـــــأَلَةُ نُكْتَةً فِي وَجْهِــــكَ يَوْمَ الْقِيَـــــــامَةِ، إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لِثَلَاثَةٍ: لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ، أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ، أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ"([12]).
والفقر المدقع: هو الفقر الشديد، ومعناه: الفقر الذي يفضي به إلى التراب لا يكون عنده ما يقيه من التراب، والغُرم المفظع: هو الدَّيْنُ الشديد، والغُرم المفظع هو أن تلزمه الدُّيون الفظيعة القادحة حتى تتفرع به، فتحل له الصدقة، فيعطى من سهم الغارمين، والدَّمُ الموجع: هو أن يتحمل حمالة في حقن الدماء، وإصلاح ذات البين، حتى يؤديها، فإنْ لم يؤدها قُتل فيوجعه قتله([13]).
ففي هذا الحديث صورةٌ عمليةٌ تطبيقية لكيفية محاربة التَّسولِ والبطالةِ والدعوةِ للعمل، فما أحوجنا إلى أنْ نأخذَ هذا الدرس العملي من نبينا -r- ونطبقه في واقعنا على هؤلاء المُتسولين، وألا نعطي لهم الفرصةَ كي يجعلوها مِهْنَةً، وأنْ نَحُضَّهُم على العمل، ونَدعُوَهُم إليه، وأنْ نُوفِّرَ لهم فُرصَ عَمَلٍ تجعلهم يأكلون من كَسْبِ أيديهم وعرق جبينهم، ويَكْفُون بها أنفسهم عن ذُلِّ السؤال في الدنيا، وعقوبته في الآخرة، وليعلموا أنَّ عَمَلَ الرجلِ بيده شرفٌ عظيمٌ قام به خيرُ الخَلْقِ، وهم الأنبياء -عليهم السلام-، وهكذا كان الصحابة، وسلف الأمة -رضي الله عنهم-.
وللعمل أخلاقيات وسلوكيات وآداب دعا إليها الإسلام، منها:
1- الرقابة الذاتية على نفسه وعمله، ينبع ذلك من إيمانه، ومن مخافته من الله، واستشعاره تقوى الله، ورهبته، وأنَّ الله مطَّلِع عليه مراقب له، يعلم سره ونجواه وخفايا نفسه، يحاسبه على عمله إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر، وأن يحرص على الكسب الحلال في جميع الأعمال التي يقوم بها؛ ولذلك لمَّا سُئل النبي r أَيُّ الْكَسْبِ أَطْيَبُ؟ قَالَ: «عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ»([14]).
وقد نهى الإسلام عن أكل الحرام، والعمل الحرام، والكسب الحرام، فحرَّم الربا، والقمار، والسرقة، والغش، والاحتكار، والاستغلال، والخداع في البيع.
2- ألا يُجهد الإنسان نفسه في العمل أو دابته أو آلته، ومن ذلك ما أسسه النبي r بقوله: «إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِبَدَنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا»([15])؛ فلا يرهق نفسه بزيادة العمل، ولا بزيادة الحمل، كما لا يرهق الحيوان أو الآلة.
3- ألا يعمل في محرم، وما فيه معصية لله – تعالى-، كبيع الخمور والمسكرات، والتجارة في المحرمات من الربا، وسائر المعاملات المنهي عنها؛ لأنَّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، والطاعة لا تكون إلا في المعروف، وهو ما أحلَّه الله -عزَّ وجلَّ- ورسوله r.
4- أن العامل يكون قويًّا أمينًا؛ لأنَّ العامل إمَّا أن يكون أجيرًا عند الدولة، أو عند عامة الناس، وهذا المعنى هو ما صوره القرآن الكريم حكاية عن نبي الله موسى – عليه السلام – مع نبي الله شعيب –عليه السلام – حينما اختاره عاملًا، فيقول القرآن حكاية عن هذا ﴿ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ﴾([16]).
وأخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبى ذر قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي، ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةُ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا»([17]).
5- أن تكون لدى العامل الخبرة الكافية فيما يقوم به من أعمال، فلا يكفى أن يكون العامل أمينًا قويًّا خلوقًا تقيًّا؛ إذ لابُدَّ أن يكون عارفًا بعمله، مدركًا له، وقد كان عمر يستعمل قومًا، ويدع أفضل منهم؛ لبصرهم في العمل، وعدم الخبرة يؤدي إلى فساد العمل وضياعه، ويؤدى إلى ضعف الإنتاج، أو سوء الإدارة، أو إتلاف الآلات، ويستتبع ذلك هدر الأموال وإضاعتها.
6- ومن أخلاقيات العمل الأمانة، والأمانة من الأخلاق الفاضلة التي دعا إليها الإسلام، فينبغي للعامل أن يتحلى بها؛ لأنَّها من الدّين، ومن ثقلها عرضها الله على السماوات، والأرض، والجبال فأبيين أن يحملنها، وحملها الإنسان، ومن الأمانة أن يحرص على وقت العمل، واستثماره فيما يعود عليه بالنفع، وأن يبتعد عن الغشِّ بكافة صوره وأشكاله، وألا يستغل موقعه لمصلحة شخصية له أو لأحد أقاربه.
والله من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل
كتبه:
د/ أحمد عرفة
عضو هيئة التدريس بقسم الفقه المقارن
بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنين بالديدامون- شرقية - جامعة الأزهر الشريف.
نُشرت هذه الدراسة بمجلة المبادر العربي، منصة جدير، العدد الأول، أكتوبر 2020م.
الهوامش:
([9]) السنن الكبرى للبيهقي- كتاب البيوع- باب إباحة التجارة – حديث رقم (10701) 5/263، وقال الألباني: صحيح لغيره. ينظر: صحيح الترغيب والترهيب حديث رقم (1688).
([11]) صحيح البخاري- كتاب الزكاة- باب من سأل الناس تكثرا – حديث رقم (1497) 1/279، صحيح مسلم- كتاب الزكاة- باب كراهة المسألة للناس– حديث رقم (2445) 1/408.
([12]) سنن أبي داود- كتاب الزكاة- باب ما تجوز فيه المسألة – حديث رقم (1643) 1/282، وقال الألباني: صحيح لغيره. ينظر: صحيح الترغيب والترهيب حديث رقم (834).