وصلني سؤال يقول:
ما حكم النقاب في
الإسلام؟
الجواب:
أمر الله تعالى المرأة المسلمة بالحجاب الشرعي، وحذرها من التبرج والسفور
والاختلاط بالرجال، وبيّن سبحانه أنه وقاية للمرأة وصيانة لها من الوقوع في
الفاحشة ومن أذى الذين في قلوبهم مرض، وهو كذلك عفة وطهارة وشرف، فهو لباس أمهات
المؤمنين زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ونساء الصحابة رضي الله عنهم، ولما كان
النقاب هو ستر وجه المرأة ، فإنه يكون مرتبطاً بعورة المرأة، إذ العورة هي ما يحرم
كشفه من الجسم ، سواء من الرجل أو من المرأة ، أو هي ما يجب ستره وعدم إظهاره من الجسم
، لذا فإن بيان آراء الفقهاء في تحديد عورة المرأة يتضح منه حكم اتخاذ النقاب، وقد
اختلف الفقهاء في كون الوجه عورة: فذهب جمهور الفقهاء (
الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة) إلى أن الوجه ليس بعورة، وإذا لم يكن عورة
فإنه يجوز لها أن تستره فتنتقب، ولها أن تكشفه فلا تنتقب، وقال الحنفية: تمنع
المرأة الشابة من كشف وجهها بين الرجال في زماننا ، لا لأنه عورة، بل لخوف الفتنة،
وقال المالكية: يكره انتقاب المرأة - أي: تغطية وجهها ، وهو ما يصل للعيون - سواء
كانت في صلاة أو في غيرها ، كان الانتقاب فيها لأجلها أو لا ، لأنه من الغلو، ويكره
النقاب للرجال من باب أولى إلا إذا كان ذلك من عادة قومه ، فلا يكره إذا كان في
غير صلاة، وأما في الصلاة فيكره،وقالوا: يجب على الشابة مخشية الفتنة ستر حتى
الوجه والكفين إذا كانت جميلة، أو يكثر الفساد، واختلف الشافعية في تنقب المرأة ،
فرأي يوجب النقاب عليها ، وقيل: هو سنة ، وقيل: هو خلاف الأولى.(الموسوعة الفقهية
الكويتية 41/133-134).
مما سبق يتبين لنا أن
فقهاء الإسلام بينوا لنا أن النقاب للمرأة مشروع، وقد اختلفوا فيه بين الوجوب
والاستحباب، فمنهم من قال: بوجوبه، ومنهم من قال: باستحبابه، ولم يقل أحد منهم بأن
النقاب ليس من الإسلام أو أنه بدعة أو عادة جاهلية كما نرى ونسمع ونشاهد في هذه
الأيام ممن لا علم عندهم.
والذي يتبين لي بعد دراسة الأقوال وأدلتها هو القول بوجوب النقاب، وأنه يجب
على المرأة المسلمة ستر جميع بدنها بما في ذلك الوجه والكفين، وذلك لأدلة كثيرة
منها قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء
الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن
يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} الأحزاب / 59 .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه
الله: وأمر سبحانه النساء بإرخاء الجلابيب لئلا يُعرفن ولا يؤذين، وهذا دليل على
القول الأول، وقد ذكر عبيدة السلمانى وغيره أن نساء المؤمنين كن يدنين عليهن
الجلابيب من فوق رؤوسهن حتى لا يظهر إلا عيونهن لأجل رؤية الطريق، وثبت في الصحيح
أن المرأة المحرمة تنهى عن الانتقاب والقفازين، وهذا مما يدل على أن النقاب
والقفازين كانا معروفين في النساء اللاتي لم يُحرمن، وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن
" (مجموع الفتاوى 15/371-372)، وقال الإمام الطبري رحمه الله: (( يقول تعالى
ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم :{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ
وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ } لا يتشبهن بالإماء في لباسهن إذا هن خرجن
من بيوتهن لحاجتهن فكشفن شعورهن ووجوههن، ولكن ليدنين عليهن من جلابيبهن لئلا يعرض
لهن فاسق إذا علم أنهن حرائر بأذى من قول.(تفسير الطبري 19/180)، وقال الإمام أبو
بكر الجصاص رحمه الله: (( في هذه الآية دلالة على أن المرأة الشابة مأمورة بستر وجهها عن الأجنبيين
وإظهار الستر والعفاف عند الخروج لئلا يطمع أهل الريب فيهن وفيها دلالة على أن
الأمة ليس عليها ستر وجهها وشعرها لأن قوله تعالى ونساء المؤمنين ظاهره أنه أراد
الحرائر وكذا روي في التفسير لئلا يكن مثل الإماء اللاتي هن غير مأمورات بستر
الرأس والوجه فجعل الستر فرقا يعرف به الحرائر من الإماء )).( أحكام القرآن ـ 5 /
244 ـ 245) .
وقال
تعالى:{وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ
عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ
وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} سورة النور / 60.
حيث نفى الله تعالى الجناح وهو الإثم عن القواعد وهن العجاوز اللاتي لا يرجون
نكاحاً لعدم رغبة الرجال بهن لكبر سنهن بشرط أن لا يكون الغرض من ذلك التبرج
والزينة، وتخصيص الحكم بهؤلاء العجائز دليل على أن الشواب اللاتي يرجون النكاح
يخالفنهن في الحكم ولو كان الحكم شاملاً للجميع في جواز وضع الثياب ولبس درع ونحوه
لم يكن لتخصيص القواعد فائدة، وقوله: (غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) دليل آخر
على وجوب الحجاب على الشابة التي ترجو النكاح؛ لأن الغالب عليها إذا كشفت وجهها
أنها تريد التبرج بالزينة وإظهار جمالها وتطلع الرجال لها ومدحها ونحو ذلك ، ومن
سوى هذه فنادر والنادر لا حكم له.
وأخرج
أبو داود في سننه وأحمد في مسنده بسند حسن عن عائشة قالت: " كان الركبان
يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات فإذا حاذوا بنا سدلت
إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزونا كشفناه". ففي قولها: « فإذا
جاوزونا » تعني الركبان «سدلت إحدانا جلبابها على وجهها» دليل على وجوب ستر الوجه
لأن المشروع في الإحرام كشفه، فلولا وجود مانع قوي من كشفه حينئذ لوجب بقاؤه
مكشوفاً.
وأخرج البخاري في صحيحه عن عائشة
رضي الله عنها قالت: " يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله وليضربن
بخمرهن على جيوبهن شققن مروطهن فاختمرن بها ".قال الإمام ابن حجر رحمه الله: قوله:
" فاختمرن " أي: غطين وجوههن ." فتح الباري " (8 / 490)،
وأخرج الترمذي في سننه بسند صحيح وعن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان ". فهذا يدل على أن جميع بدن
المرأة عورة بما في ذلك الوجه والكفين حيث يفهم منه لزوم ستر كل ما يطلق عليه اسم
العورة.
وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على وجوب احتجاب المرأة عن الرجال
الأجانب، فقال في الفتاوى ما نصه: (وحقيقة الأمر أن الله جعل الزينة زينتين: زينة ظاهرة،
وزينة غير ظاهرة، ويجوز لها إبداء زينتها الظاهرة لغير الزوج وذوات المحارم،
وكانوا قبل أن تنزل آية الحجاب كان النساء يخرجن بلا جلباب يرى الرجل وجهها ويديها
وكان إذ ذاك يجوز لها أن تظهر الوجه والكفين، وكان حينئذ يجوز النظر إليها لأنه
يجوز لها إظهاره. ثم لما أنزل الله آية الحجاب بقوله: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ
قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن
جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ
غَفُورًا رَّحِيمًا }(حجب النساء عن الرجال). ثم قال: (والجلباب هو الملاءة وهو
الذي يسميه ابن مسعود وغيره الرداء وتسميه العامة الإزار وهو الإزار الكبير الذي
يغطي رأسها وسائر بدنها، ثم يقال: فإذا كن مأمورات بالجلباب لئلا يعرفن وهو ستر
الوجه أو ستر الوجه بالنقاب كان الوجه واليدان من الزينة التي أمرت أن لا تظهرها
للأجانب، فما بقي يحل للأجانب النظر إلى الثياب الظاهرة فابن مسعود ذكر آخر
الأمرين، وابن عباس ذكر أول الأمرين) إلى أن قال: (وعكس ذلك الوجه واليدان
والقدمان ليس لها أن تبدي ذلك للأجانب على أصح القولين بخلاف ما كان قبل النسخ بل
لا تبدي إلا الثياب). وقال: (وأما وجهها ويداها وقدماها فهي إنما نهيت عن إبداء
ذلك للأجانب لم تنه عن إبدائه للنساء ولا لذوي المحارم) وقال: (وأصل هذا أن تعلم
أن الشارع له مقصودان: أحدهما الفرق بين الرجال والنساء. الثاني: احتجاب النساء).(مجموع
الفتاوى 22/110-152). هذا والله تعالى أعلم. والحمد لله رب العالمين.
كتبه
د/أحمد عرفة
باحث دكتوراه بجامعة
الأزهر
عضو الجمعية الفقهية
السعودية
Ahmedarafa11@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق