فضائل العلم وآدابه (2)
لقد بينتُ في المقال السابق بعضَ فضائلِ العلم، ومكانةَ العلماء من خلال
القرآن والسنة ووصايا السلف الصالح، ونستكملُ في هذا المقالِ الحديثَ حولَ الآداب
التي ينبغي على طالب العلم أن يتحلى بها، ومنها:
الإخلاص: فأولُ أدبٍ على طالب العلم هو: أن يصحح نيته في الطلب، وأن يجعلها
خالصةً لله تعالى، فالإخلاصُ هو أساسُ قبول الطاعات، وطلبُ العلمِ من أفضل الطاعات
والقربات، ولذلك نجدُ بعضَ السلف يقول: لا شيء يعدل ثواب طلب العلم إذا صحت فيه
النية، ويؤكد سفيان الثوري هذا المعنى قائلا": ما عالجت شيئاً أشد عليَّ من
نيتي، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان
خالصاً لوجهه سبحانه، إذ يقول في الحديث الذي أخرجه النسائي في سننه بسند حسن عن
أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله تعالى لا
يقبلُ من العمل إلا ما كان له خالصاً، وابتغي به وجهه"، فتكون النية في الطلب
لنفع نفسه بالعلم أولاً ثم بنشره وتعليمه لا أن يحرصَ على العلم من أجل أن ينالَ
شهادةً جامعيةً أو منصباً من المناصب أو ليصرفَ وجوهَ الناسِ إليه، ولكي يشارَ
إليه بأنه العالمُ فلان أو القارئ فلان أو الباحثُ كذا وكذا وغير ذلك؛ لأن النبي
صلى الله عليه وسلم حذرنا من ذلك، وذلك فيما أخرجه ابن ماجة في سننه بسند صحيح عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من طَلَبَ العلم ليماري به السفهاء، أو ليباهي به العلماء، أو ليصرف وجوه
الناس إليه، فهو في النار"، وبيّن لنا أيضاً أن أول من تسعر بهم النار ثلاثة،
وذلك فيما أخرجه النسائي في سننه بسند صحيح عن سليمان بن يسار، قال: تفرق الناس عن أبي
هريرة، فقال له قائل من أهل الشام: أيها الشيخ، حدثني حديثا سمعته من رسول الله
صلى الله عليه وسلم، قال: نعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" أول
الناس يقضى لهم يوم القيامة ثلاثة : رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما
عملت فيها ؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت ليقال فلان جريء،
فقد قيل، ثم أمر به، فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه،
وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها ؟ قال: تعلمت العلم
وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن
ليقال قارئ، فقد قيل ، ثم أمر به، فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله
عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه، فعرفها، فقال: ما عملت فيها
؟ قال: ما تركت من سبيل تحب " قال أبو عبد الرحمن: " ولم أفهم تحب كما
أردت أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت ولكن ليقال إنه جواد، فقد قيل، ثم
أمر به، فسحب على وجهه، فألقي في النار". فهذه الأعمالُ الصالحةُ الواردة في
الحديث من الشهادةِ والصدقةِ وقراءةِ القرآن من أشرف وأفضل الأعمال، ومع ذلك أدَّت
بأصحابها إلى النار، وذلك لأنهم لم يُخلِصوا نيتَهم فيها، وإنما كانت رياءً وسمعةً
من أجل الدنيا ومدحِ الناس وغيرِ ذلك.
يقول الدكتور/ بكر أبو زيد-رحمه الله- في كتابه (حلية طالب العلم ص10):
"وعليه؛ فالتَزِمْ التخلص من كل ما يشوب نيتك في صدق الطلب: كحب الظهور،
والتفوق على الأقران، وجعله سلماً لأغراض وأعراض، من جاه، أو مال، أو تعظيم، أو
سمعة، أو طلب محمدة، أو صرف وجوه الناس إليك، فإن هذه وأمثالها إذا شابت النية،
أفسدتها، وذهبت بركة العلم، ولهذا يتعين عليك أن تحمى نيتك من شوب الإرادة لغير
الله تعالى، بل وتحمى الحمى.
فاستمسك رحمك الله تعالى بالعروة الوثقى العاصمة من هذه الشوائب؛ بأن تكون
- مع بذل الجهد في الإخلاص - شديد الخوف من نواقضه، عظيم الافتقار والالتجاء إليه
سبحانه".
والله من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل، وللحديث بقية إن شاء الله.
د/ أحمد عرفة
باحث دكتوراه بجامعة الأزهر
عضو الجمعية الفقهية السعودية
نشر هذا المقال بجريدة صوت الأزهر في العدد الصادر
بتاريخ 14/10/2016م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق