فضل الصبر وجزاء
الصابرين عند رب العالمين
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ
وَنَسْتَعِينُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ
أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا
هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ
وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْدُ
فَإِنَّ خَيْرَ
الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الأُمُورِ
مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ وَكُلُّ ضَلالَةٍ فِي النَّارِ ، وإِنَّ
مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ .
أولاً:
حقيقة الصبر:
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله فى بيان حقيقة الصبر:
(هو خلق فاضل من أخلاق النفس يمتنع به من فعل ما لا يحسن ولا يجمل وهو قوة من
قوى النفس التى بها صلاح شأنها وقوام أمرها.
وسئل عنه الجنيد بن محمد فقال: تجرع
المرارة من غير تعبس وقال ذو النون هو التباعد عن المخالفات والسكون عند تجرع غصصى
البلية وإظهار الغني مع حلول الفقر بساحات المعيشة ، وقيل: الصبر هو الوقوف مع البلاء بحسن الأدب ، وقيل: هو الغنى
في البلوى بلا ظهور شكوى .
وقال أبو عثمان الصبار: هو الذي عود نفسه الهجوم على المكاره.
وقيل: الصبر المقام على البلاء بحسن الصحبة كالمقام مع العافية.
ومعنى هذا أن لله على العبد عبودية في عافيته وفي بلائه فعليه أن يحسن صحبة
العافية بالشكر وصحبة البلاء بالصبر.(عدة الصابرين:صـ8 وما بعدها).
ثانياً: الصبر فى القرآن الكريم:
إن المتأمل والمتدبر فى آيات القرآن الكريم يجد أن المولى سبحانه وتعالى قد أمرنا بالصبر وبين جزاء الصابرين فى آيات
كثيرة منها:
قوله تعالى :(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ
وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ
(155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ
هُمُ الْمُهْتَدُونَ)(سورة البقرة :الآيات
: 156 -157).
قال الإمام أبو حيان الأندلسي رحمه الله:
قوله تعالى: {وَبَشِّرِ
الصَّـابِرِينَ}: خطاب للنبي صلى الله عليه وسلّم ، أو لكل من تتأتى منه البشارة ،
أي على الجهاد بالنصر ، أو على الطاعة بالجزاء ، أو على المصائب بالثواب ، أقوال :
والأحسن عدم التقييد ، أي كل من صبر صبراً محموداً شرعاً ، فهو مندرج في الصابرين.
قالوا : والصبر من خواص الإنسان ، لأنه يتعارض فيه
العقل والشهوة ، وهو بدني وهو : إما فعلي ، كتعاطي الأعمال الشاقة ، وإما احتمال ،
كالصبر على الضرب الشديد ، ونفسي ، وهو قمع النفس عن مشتهيات الطبع ، فإن كان من شهوة
الفرج والبطن ، سمي عفة. وإن كان من احتمال مكروه ، اختلفت أسامية باختلاف المكروه.
ففي المصيبة يقتصر عليه باسم الصبر ، ويضاده الجزع .(تفسير البحر المحيط :
جـ1صـ392 وما بعدها).
وقال تعالى:(إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ
حِسَابٍ) (سورة الزمر : الآية:
10).
قال مالك بن أنس في قوله:{ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ
حِسَابٍ } قال :هو الصبر على فجائع الدنيا وأحزانها.
وقال قتادة : لا والله ما هناك مكيال ولا ميزان ، حدثني أنس أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "تنصب الموازين فيؤتى بأهل الصدقة فيوفون
أجورهم بالموازين وكذلك الصلاة والحج ويؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر
لهم ديوان ويصب عليهم الأجر صبا" ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم:(إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ
حِسَابٍ)( تفسير القرطبي جـ15صـ241
وما بعدها).
وقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله:
قوله تعالى:{ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ
} وهذا عام في جميع أنواع الصبر، الصبر على أقدار اللّه المؤلمة فلا يتسخطها، والصبر
عن معاصيه فلا يرتكبها، والصبر على طاعته حتى يؤديها، فوعد اللّه الصابرين أجرهم بغير
حساب، أي: بغير حد ولا عد ولا مقدار، وما ذاك إلا لفضيلة الصبر ومحله عند اللّه، وأنه
معين على كل الأمور.(تيسير الكريم الرحمن فى تفسير كلام المنان صـ847).
وقال عز وجل: (وَاللَّهُ يُحِبُّ
الصَّابِرِينَ)(سورة آل عمران : الآية: 146).
وقال سبحانه:(وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا
لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ)( سورة السجدة : الآية: 24).
ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين.
ثالثاً:
الصبر فى السنة النبوية:
إن المتأمل فى السنة النبوية المطهرة يجد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد
أمرنا بالصبر وحثنا على التحلي به فى مواضع كثيرة منها:
ما أخرجه
البخارى فى صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: (من يرد الله به خيراً يصب منه).
وعن أبي هريرة رضي الله أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حفت الجنة
بالمكاره، وحفت النار بالشهوات).(رواه مسلم).
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أشد
الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل يُبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في
دينه صلباً اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه فما يبرح البلاء
بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه
خطيئة).(أخرجه الحاكم فى المستدرك وصححه الألباني فى صحيح الجامع حديث رقم 992).
قال الإمام المناوى رحمه الله:
(أشد الناس بلاء الأنبياء) قالوا ثم من يا رسول الله
؟ قال (ثم الصالحون) لأن أعظم البلاء سلب المحبوب وحمل المكروه والمحبوبات مسكون إليها
، ومن أحب شيئا شغل به ، والمكروه مهروب منه ومن هرب من شئ أدبر عنه ، والأمثلون أحباء
الله فيسلبهم محبوبهم في العاجل ليرفع درجتهم في الآجل.(فيض القدير: جـ1صـ664 ).
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم
فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط).( أخرجه الترمذي فى سننه وصححه الألباني
فى صحيح سنن الترمذي حديث رقم 2396).
قوله صلى الله عليه وسلم: (إن عظم الجزاء): أي عظمة الأجر وكثرة الثواب (مع
عظم البلاء) بكسر العين المهملة وفتح الظاء فيهما، ويجوز ضمها مع سكون الظاء فمن كان
ابتلاءه أعظم فجزاءه أعظم (ابتلاهم) أي اختبرهم بالمحن والرزايا (فمن رضي) أي بما ابتلاه
الله به (فله الرضا) منه تعالى وجزيل الثواب.
قال السندى: قوله: فمن رضي فله الرضا أي رضا الله تعالى عنه جزاء
لرضاه أو فله جزاء رضاه، وكذا قوله فله السخط، ثم الظاهر أنه تفصيل لمطلق المبتلين
لا لمن أحبهم فابتلاهم إذا الظاهر أنه تعالى يوفقهم للرضا فلا يسخط منهم أحد-(ومن سخط)
بكسر الخاء أي كره بلاء الله وفزع ولم يرض بقضاءه (فله السخط) منه تعالى وأليم العذاب
{ومن يعمل سوء يجز به}، والمقصود الحث على الصبر على البلاء بعد وقوعه لا الترغيب في
طلبه للنهي عنه.(مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح جـ5صـ260).
وأخرج البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال : مر النبي صلى
الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر ، فقال :" اتقي الله واصبري " قالت
: إليك عني ، فإنك لم تصب بمصيبتي ، ولم تعرفه ، فقيل لها: إنه النبي صلى الله
عليه وسلم ، فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم تجد عنده بوابين ، فقالت :
لم أعرفك ، فقال : " إنما الصبر عند الصدمة الأولى).
قال الإمام ابن القيم رحمه الله:
وقوله: (الصبر عند الصدمة الأولى) مثل قوله:( ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد
الذى يملك نفسه وقت الغضب) فإن مفاجئات المصيبة بغتة لها روعة تزعزع القلب وتزعجه بصدمها
فإن صبر الصدمة الأولى انكسر حدها وضعفت قوتها فهان عليه استدامة الصبر وأيضا فإن المصيبة
ترد على القلب وهو غير موطن لها فتزعجه وهى الصدمة الأولى ، وأما إذا وردت عليه بعد
ذلك توطن لها وعلم انه لا بد له منها فيصير صبره شبيه الاضطرار وهذه المرأة لما علمت
أن جزعها لا يجدى عليها شيئا جاءت تعتذر إلى النبي كأنها تقول له قد صبرت فأخبرها أن
الصبر إنما هو عند الصدمة الأولى.(عدة الصابرين:صـ61).
وعن صهيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عجباً لأمر
المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيراًَ له
وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له).(روه مسلم).
وعن أبي سعيد الخدرى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما
أعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر).( أخرجه البخارى فى صحيحه).
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(إذا مرض العبد أو سافر، كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً).( أخرجه البخارى فى صحيحه).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من
مصيبة تصيب المؤمن إلا كفر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها)(رواه البخاري ومسلم).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما
لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة).(أخرجه البخارى فى صحيحه).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
(إن الله قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة).( أخرجه البخارى فى صحيحه).
قال يونس بن زيد: سألت ربيعة بن أبي عبد الرحمن: ما منتهى الصبر؟ قال: أن يكون يوم أن تصيبه المصيبة مثل قبل أن تصيبه.
وقال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: (سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى
الدَّارِ)(سورة الرعد : الآية: 24) قال: صبروا عما أمروا به، وصبروا عما نهوا عنه.
وقال علقمة في قوله تعالى:(مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ
وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).( سورة التغابن : الآية: 11) هي المصيبة تصيب
الرجل فيعلم أنها من عند الله فيسلم لها ويرضى.
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني
في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها إلا أخلف الله خيراً منها، فلما مات أبو سلمة قلت:
أي المسلمين خير من أبي سلمة؟ أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم
إني قلتها فأخلف الله لي رسوله صلى الله عليه وسلم).(رواه مسلم)
رابعاً:
من آثار السلف فى الصبر ومنزلته:
جاءت آثار كثيرة عن السلف الصالح رضى الله عنهم تبين لنا فضل الصبر وجزاء
الصابرين ومنها:
ما وجد في رسالة عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي
موسى الأشعري: عليك بالصبر واعلم أن الصبر صبران: أحدهما: أفضل من الآخر الصبر في المصيبات حسن ، وأفضل
منه الصبر عما حرم الله تعالى واعلم أن الصبر ملاك الإيمان وذلك بأن التقوى أفضل البر
والتقوى بالصبر.
وقال على رضى الله عنه: بني الإيمان على أربع دعائم اليقين والصبر والجهاد
والعدل.
وقال أيضاً: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ولا جسد لمن
لا رأس له ولا إيمان لمن لا صبر له.
وكان عمر رضي الله عنه يقول: نعم العدلان ونعمت العلاوة للصابرين يعني بالعدلين
الصلاة والرحمة وبالعلاوة الهدى والعلاوة ما يحمل فوق العدلين على البعير وأشار به
إلى قوله تعالى: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ
هُمُ الْمُهْتَدُونَ).
وكان حبيب بن أبي حبيب إذا قرأ هذه الآية: (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ
أَوَّابٌ) بكى وقال: واعجباه أعطى وأثنى أي هو المعطي للصبر وهو المثنى.
وقال أبو الدرداء: ذروة الإيمان الصبر للحكم والرضا
بالقدر. (إحياء علوم الدين جـ4صـ62).
خامساً:درجات
الصبر (أقسام الصبر):
ينقسم الصبر إلى ثلاثة أقسام:
1- صبر على المأمور: هو الصبر على الطاعة.
2- صبر عن المحظور: أي صبر على المعصية.
3- صبر على المقدور: أي صبر على ما قدره الله تبارك وتعالى من المحن
والمصائب والابتلاءات.
القسم الأول: الصبر على المأمور :
وهو الصبر على طاعة الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم وهذا أجل أنواع
الصبر، من أجل ذلك أمر الله عز وجل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن يصبر كما صبر
أولوا العزم من الرسل فقال سبحانه وتعالى:(فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ
وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا
إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ).(سورة الأحقاف : الآية: 35).
فالصبر على الطاعة هو أعلى درجات
الصبر.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله
تعالى في الحديث القدسي: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب وما تقرب إليّ عبدي
بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه)(أخرجه البخارى
فى صحيحه).
هذا هو الصبر على الطاعة التقرب إلى الله عز وجل (وما تقرب إلىّ عبدي بشيء
أحب إلىّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا
أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله
التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه).
فالدرجة الأولى والعالية من درجات الصبر أن تصبر نفسك على طاعة الله عز
وجل.
القسم الثانى: الصبر عن المحظور:
أي صبر عن المعصية وهذا هو صبر
المحبين لرب العالمين سبحانه وتعالى فالعبد المحب لله يصبر عن المعصية إجلالاً
لسيده ومولاه لأنه لا يحب أن يراه الله على معصية.
قيل لحاتم الأصم: بم حققت التوكل على الله؟ قال: بأربعة أشياء:
علمت بأن رزقي لا يأخذه غيري فاطمأن قلبي، وعلمت بأن عملي لا يتقنه غير
فاشتغلت به، وعلمت بأن الموت ينتظرني فأعددت الزاد للقاء الله، وعلمت بأن الله
مطلع عليّ فاستحييت أن يراني على معصية.
فالمعصية شؤم في الدنيا والآخرة ، أما عن شؤم المعصية في الدنيا:
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر
المهاجرين، خمس إن ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط
حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الأوجاع والأسقام التي لم تكن في أسلافهم، ولم ينقصوا
المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان، ولم يمنعوا زكاة
أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله
وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم فأخذ بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم
أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم شديد).( أخرجه ابن
ماجة فى سننه وحسنه الألباني فى صحيح سنن ابن ماجة حديث رقم 4091).
والمعصية سبب الهلاك في الآخرة:قال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً
ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي
أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا
وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن
بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى)( سورة طه : الآيات : 124- 127).
القسم الثالث: الصبر على المقدور:
أي ما قضاه الله عز وجل وقدره ربك
عليك من المحن والمصائب والبلايا وهذا صبر الصديقين، فالصبر على البلاء هو التطبيق
العملي الذي يبين حب العبد لربه، والإيمان بالقدر خيره وشره من أركان الإيمان التي
لا يصح إيمانك إلا به، كما جاء في حديث عمر بن الخطاب وفيه أن جبريل عليه السلام
سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته
وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره)(رواه مسلم).
قال يعقوب عليه السلام:(فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا
تَصِفُونَ)( سورة يوسف :الآية: 18).
فالصبر الجميل على البلاء هو: الصبر الذي لا شكوى معه، الصبر الذي لا هلع
فيه ولا شكوى فيه من الخالق إلى المخلوقين فاشك إلى الله لا حرج فإلى من تشكو إن
لم تشكو حالك إلى أرحم الراحمين سبحانه وتعالى.
وأخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: (ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى
الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه).
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: والصبر على ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على
امتحان الله .
خامساً:
سادساًً:
مواقف إيمانية فى الصبر وجزاء الصابرين:
-
مع نبي الله أيوب عليه السلام:
عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أيوب نبي الله
لبث في بلائه ثمان عشرة سنة حتى رفضه القريب والبعيد إلا رجلين كانا من خواص رجاله
كانا يغدوان عليه ويروحان حتى قال أحدهما لصاحبه يوماً: والله لقد أذنب أيوب ذنباً
ما أذنبه أحد من العالمين، فقال له صاحبه: وما ذاك؟ فقال له: منذ ثماني عشرة سنة
لم يرحمه الله فيكشف ما به) عند ذلك تضرع أيوب عليه السلام إلى ربه عز وجل قال
تعالى:(وَأَيُّوبَ
إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)(سورة
الأنبياء : الآية: 83)،( تفسير الطبري – سورة ص – القول فى
تأويل قوله تعالى : (ووهبنا له أهله ومثلهم معهم ) حديث رقم 27537).
انظر إلى الإجابة بفاء الترتيب والتعقيب: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ
وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ)( سورة الأنبياء : 84).
وقال تعالى:(وَاذْكُرْ
عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ
(41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ
أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ
(43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا
نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ).( سورة ص : الآيات : 41- 44).
- مع أبو الأنبياء الخليل إبراهيم عليه السلام:
قدم بدنه النيران وقدم ولده للقربان، صبر فريد في تاريخ البشرية أن يصبر أب
حنون حرم من الولد سنوات طويلة ورزقه الله عز وجل الولد على كبر ومع ذلك يؤمر بذبح
ولده فيصبر، قال تعالى: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ
إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ
افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا
أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ
(104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)(
سورة
الصافات : الآيات : 102- 105).
- أم سليم رضي الله عنها وصبرها على موت ولدها:
أخرج البخاري ومسلم من حديث أنس رضي الله عنه قال: اشتكى ابن لأبي طلحة
قال: فمات وأبوه طلحة خارج، فلما رأت امرأته أنه قد مات هيأت شيئاً، وجعلت ابنها
في جانب البيت، فلما جاء أبو طلحة قال: كيف الغلام؟ قالت: قد هدأت نفسه، وأرجو أن
يكون قد استراح، وظن أبو طلحة أنها صادقة قال: فبات، فلما أصبح اغتسل، فلما أراد
أن يخرج أعلمته أنه قد مات، فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم أخبره بما كان
منها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعل الله أن يبارك لكما في ليلتكما)
فقال رجل من الأنصار: فرأيت لهما تسعة أولاد كلهم قد حفظوا القرآن).
- قصة المرأة التي كانت تصرع على عهد النبي صلى الله عليه وسلم:
عن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟
قلت: بلى. قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع،
وإني أتكشف فادع الله لي. قال: (إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن
يعافيك، فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشف فادع الله لي ألا أتكشف، فدعا لها).(رواه البخاري ومسلم).
- حلاوة أجرها أنستنى مرارة قطعها:
هذه زوجة فتح الموصلى، انقطعت إصبعها، فضحكت، فقال لها بعض من معها:
أتضحكين وقد انقطع إصبعك؟ فقالت: أخاطبك على قدر عقلك، حلاوة أجرها أنستني مرارة
قطعها.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: إشارة إلى أن عقله لا يحتمل ما فوق هذا
المقام، من ملاحظة المبتلى ومشاهدة حسن اختياره لها في ذلك البلاء، وتلذذها بالشكر
له والرضا عنه، ومقابلة ما جاء من قبله بالحمد والشكر كما قيل:
لئن ساءني أن نلتني بمساءة فقد
سرني أني خطرت ببالكا
اللهم اغفر لنا ذنوبنا
وإسرافنا فى أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اشف مرضانا
ومرضى المسلمين ، وارحم موتانا وموتى المسلمين ، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين
وأذل الشرك والمشركين ، اللهم انصر عبادك المجاهدين فى كل مكان ،ربنا لا تزغ
قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ، ربنا آتنا فى الدنيا
وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
والله من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل
كتبه
أبو معاذ أحمد بن عرفة
محاضر بوزارة الأوقاف
ومعيد بقسم الفقه المقارن جامعة الأزهر
وعضو الجمعية الفقهية السعودية
00201119133367
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق