تغيير المنكر وضوابطـــــــــــه
" إن
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث
الله له النبيين أجمعين، ولو طوى بساطه وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة واضمحلت
الديانة وعمت الفترة وفشت الضلالة وشاعت الجهالة واستشرى الفساد واتسع الخرق وخربت
البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد وقد كان الذي خفنا أن
يكون، فإنا لله وإنا إليه راجعون".(الإحياء: للغزالي2/306). فالأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر تكون خيرية هذه الأمة وتفضيلها على غيرها من الأمم قال تعالى:
(كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ
الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ
الْفَاسِقُونَ)[ آل عمران: 110].
قال الإمام القرطبي رحمه الله: "قوله
تعالى:(تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَر) مدح لهذه الأمة
ما أقاموا ذلك واتصفوا به، فإذا تركوا التغيير وتواطؤوا على المنكر زال عنهم اسم
المدح ولحقهم اسم الذم، وكان ذلك سبباً لهلاكهم"[تفسير القرطبي 4/173]، وبيّن
ربنا جل وجلا أن الفلاح والنجاة في الدنيا والآخرة لا يكون إلا به (وَلْتَكُن
مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران: 104]،
وأخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- يقول:(من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع
فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان).
قال الإمام النووي رحمه الله: "وأما قوله:(فليغيره)
فهو أمر إيجاب بإجماع الأمة وقد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر
الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وهو أيضا من النصيحة التي هي الدين ولم يخالف في ذلك
إلا بعض الرافضة ولا يعتد بخلافهم".[شرح النووي على مسلم: 2/22].
فالأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر عبادة عظيمة أمر بها ربنا جل وعلا ونبينا صلى الله عليه
وسلم، ويكون الأمر بالمعروف بالمعروف، وتغيير المنكر يكون بغير منكر، وألا يؤدي
تغييره إلى ما هو أشده منه، من أجل ذلك وضع العلماء ضوابط للتغيير المنكر ما أحوج
المسلمين إليها في هذه الأيام التي تغيرت فيها المفاهيم وكثر فيها الخطأ في الفهم
عن الله ورسوله، وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: (شرع النبي صلى الله عليه وسلم لأمته إيجاب
إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار
المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله، فإنه لا يسوغ إنكاره وإن كان
الله يبغضه ويمقت أهله، ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها
من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر، فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه فقد
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل
لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم
عليه السلام، ومنعه من ذلك - مع قدرته عليه - خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم
احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام، وكونهم حديثي عهد بكفر، ولهذا لم يأذن في
الإنكار على الأمراء باليد لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه).(إعلام
الموقعين3/4).
ومن هنا
كان لا بد من تناول شروط وضوابط إنكار المنكر وتغييره، ليكون المسلم على بينة من
أمره في تطبيق هذه الفريضة، وذلك كما يلي:
أولاً:
شروط المنكر الواجب تغييره: وضع
العلماء شروطاً في الشيء المنكر المراد تغييره وإنكاره لا بد من توافرها فيه وهي
كما يلي:
الشرط
الأول: أن يكون منكراً بمعنى أن يكون محظوراً في
الشّرع، فالمنكر أعمّ من المعصية، فمن رأى صبيّاً أو مجنوناً يشرب الخمر فعليه أن
يريق خمره ويمنعه، والمنكرالذي يجب على الأمة تغييره، هو ما خالف الشرع كتاباً
وسنة مخالفة قاطعة، وسواء في هذا، أن تكون المخالفة لما أمر به الشرع إيجاباً أو
لما نهى عنه تحريماً، وسواء كانت المخالفة تركاً بالكلية، لما أمر به الشرع
أو زيادة عليه بغير نص، أو نقصاً منه بغير عذر، أو تغييراً فيه، أو تبديلاً
في ذاته، أو فيما يتعلق به زماناً أو مكاناً أو كيفية أو وسيلة . فكل مغايرة ذاتية
أو عريضة فيما أمر به الشرع هي منكر ، ومثل ذلك تماماً المخالفة بالفعل لما
نهى عنه ، مخالفة كلية أو غير كلية.(فقه تغيير المنكر: محمود توفيق20).
الشرط
الثاني: أن يكون الشيء المنكر المراد إنكاره
وتغييره متفقاً على إنكاره لثبوته بالكتاب أو السنة، بحيث لا يكون إنكاره محل خلاف
بين أهل العلم، فإن كان محل اجتهاد واختلاف، فليس مما يجب على الأمة تغييره، بل
يكون لمن ذهب إلى أنه منكر على الراجح عنده أن يدعو إلى تركه من باب النصيحة، وتحقيق
هذا الشرط من الأمور المهمة، التي قد يتساهل فيها بعض الناس، فإن تحقيقه على الوجه
الصحيح، لا يكون إلاّ ممن جمع بين العلم والحكمة، إذ العلم يحقق له الوقوف على
وجوه الدلالة في النصوص، ووجوه اصطفاءات الأئمة، والوقوف على دقائق العلم، والحكمة
تحقق له سعة الأفق، ونفاذ البصيرة، إلى عقبى الأحداث، فلا يغتر برأي فطير، عليه
مسحة من زخرف القول، أو وهج الحماسة ، واندفاع الشبيبة، بل يكون له من الحكمة
والروية، ما يجعله يقف على حقائق الأشياء.(فقه تغيير المنكر:محمود توفيق 21).
الشرط
الثالث: أن يكون المنكر موجوداً متيقناً في الحال،
بأن يكون الفاعل مستمرّا على فعل المنكر، فإن علم من حاله ترك الاستمرار على الفعل
لم يجز إنكار ما وقع على الفعل، ولا يستثى من هذا الشرط إلا الإصرار على فعل
الحرام من غير إحداث توبة، فهذا يجب الإنكار عليه، وكذلك الإنكار على أرباب
المذاهب الفاسدة والبدع المضلّة، حيث يرى ابن القيّم وجوب إتلاف الكتب المشتملة
على البدعة، وأنّها أولى بذلك من إتلاف آنية الخمر وآلات اللّهو والمعازف، لأنّ
الإنكار على أهل البدع أهمّ من الإنكار على كلّ المنكرات.(الموسوعة الفقهية
الكويتية 18/278 وما بعدها)، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:(من رأى منكم منكراً
فليغيره) فقوله: (رأى) دال على وجوب العلم بوقوع المنكر، علماً محققاً، أو بإقدام
صاحبه عليه لا محالة، كأن يتيقن أنه يدبّر لقتل آخر أو لشرب خمر.(فقه تغيير
المنكر: محمود توفيق21).
الشرط
الرابع: أن يكون المنكر ظاهراً لا يحتاج اليقين
بعلمه إلى تفتيش وتجسس، والحكمة من وراء ذلك أنّنا أُمرنا أن نجري أحكام النّاس
على الظّواهر من غير استكشاف عن الأمور الباطنة.(الموسوعة الفقهية الكويتية 18/282
وما بعدها).
يقول الإمام القرطبي رحمه الله في قوله تعالى:
{ولا تجسّسوا}: أي خذوا ما ظهر، ولا تتّبعوا عورات المسلمين، أي لا يبحث أحدكم عن
عيب أخيه حتّى يطّلع عليه بعد أن ستره اللّه فليس للمحتسب أن يتجسّس ولا أن يبحث
أو يقتحم على النّاس دورهم بظنّ أنّ فيها منكرا، لأنّ ذلك من قبيل التّجسّس
المنهيّ عنه وفي حكمه من ابتعد عن الأنظار واستتر في موضع لا يعلم به غالبا غير من
حضره ويكتمه ولا يحدّث به.(تفسير القرطبي 16/333).
وقال
الإمام الماوردي رحمه الله:(ليس للمحتسب، أن يبحث عما لم يظهر من المحرمات فإن غلب
على الظنَّ استسوار قوم بها، لأمارة وآثار ظهرت ، فذلك ضربان: أحدهما: أن يكون ذلك
في انتهاك حرمة، يفوت استدراكها، مثل أن يخبره من يثق بصدقه ، أن رجلاً خلا برجل ليقتله،
أو بامرأة ليزني بها، فيجوز له في مثل هذا الحال ، أن يتجسس ويقدم على الكشف والبحث
حذراً من فوات ما لا يستدرك، الضرب الثاني: ما قصر عن هذه الرتبة، فلا يجوز التجسس
عليه ولا كشف الأستار عنه، فإن سمع أصوات الملاهي المنكرة، من دارٍ، أنكرها خارج
الدار، ولم يهجم عليها بالدخول، لأن المنكر ظاهر فليس عليه أن يكشف عن الباطن).(الأحكام
السلطانية 1/106).
ثانياً:
شروط المُنكِر: فيشترط في من يقوم
بتغيير المنكر أن يكون مُكلفاً، وأساس التكليف: العقل والبلوغ، وكذلك أن يكون
مسلماً فإنَّ أي عبادة لا تقبل بغير إسلام، ولا يشترط مع الإسلام العدالة، فكل
مسلم يجب عليه تغيير المنكر على الوجه الذي هو أهل له، وليس بلازم أن يكون غير
مرتكب للمنكرات، فإن للفاسق أن يغير المنكر عند أهل العلم، إلا إذا كان لا يقيم
الصلوات المكتوبات استهانة أو استهزاء أو إنكاراً لفرضيتها، فإنه يكون بذلك غير
مسلم البتة، ولا يشترط مع الإسلام العدالة ، فكل مسلم يجب عليه تغيير المنكر على
الوجه الذي هو أهل له، وليس بلازم أن يكون غير مرتكب للمنكرات . ذلك ما عليه أهل
العلم فإن للفاسق بل عليه أن يغير المنكر، يقول سعيد بن جبير:( إن لم يأمر بمعروف
ولم ينه عن المنكر، إلاّ من لا يكون فيه شيء ، لم يأمر أحد بشيء. فأعجب مالكاً
ذلك).(فقه تغيير المنكر: محمود توفيق 32)، ويشترط فيه العلم بطرائق التغيير، وأحكامها، وآدابها، ومن جهل شيئاً من هذا
وجب عليه أن يسعى إلى من يعلمه، ثم يقوم بالتغيير، ولا يستكين إلى أنه لا يعلم ،
فعليه أن يغير جهله بذلك، إلى العلم به، متى كان في قومه من يعلمه، وقد تيسر العلم
في زماننا لمن شاء. ويشترط في المغير أيضاً، أن يكون قادراً على التغيير، فإن عجز
عن طريق، انتقل إلى ما دونه وسعى إلى أن يرفع عن نفسه أسباب عجزه، عن القيام
بالطريق الأعلى.(فقه تغيير المنكر: محمود توفيق 37).
ثالثاً:
ضوابط تغيير المنكر: ذكر
العلماء عدة ضوابط لا بد من توافرها لوجوب إنكار المنكر وتغييره وهي ما يلي:
الضابط
الأول: العلم بما يأمر به وينهى عنه: فجاهل الشيء كفاقده لا يمكن أن يعطيه للآخرين، قال تعالى:(قُلْ هَذِهِ
سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي)(يوسف:108)
فدل على أن الداعي إلى الله لا بد أن يكون على بصيرة، وهي الدليل الواضح الذي لا
لبس في الحق معه، وقال الإمام الزمخشري رحمه الله:(الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر من فروض الكفايات، ولأنه لا يصلح له إلا من علم المعروف والمنكر، وكيف يرتب
الأمر في إقامته وكيف يباشره، لأن الجاهل ربما نهى عن معروف وأمر بمنكر).(الكشاف
1/452).
الضابط
الثاني: القدرة على التغيير: وتعنى القدرة
أن يكون ذا ولاية عامة أو خاصة على المتلبس بالمنكر إن كان التغيير باليد أو
اللسان، كأن يكون أباً أو سلطاناً؛ لأن العجز يرفع التكليف عن العاجز إلى حين تحقق
القدرة على دفع ما تم العجز فيه، وبغض النظر عن رفض بعض العلماء حصر كل درجة من
درجات التغيير بفئة محددة، كأن يختص السلطان وحده بتغيير اليد، بينما يختص العلماء
بتغيير اللسان، ليبقى لعوام المسلمين إنكار القلب فحسب، إلا أن القدرة على التغيير
دون حصرها بفئة محددة من المكلفين بها أمر متفق عليه بين جميع العلماء.
الضابط
الثالث: عدم حصول الضرر بالإنكار: وذلك
ألا يغلب على الظن نزول ضرر غير محتمل بمن يقوم بالإنكار، فقد جاء في شرح حديث: (
من رأى منكم منكرا فليغيره بيده...)، أن الواجب على كل من رأى منكرًا أن ينكره إذا
لم يخف على نفسه عقوبة لا قبل له بها ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:( لا ينبغي
للمؤمن أن يذل نفسه. قالوا: وكيف يذل نفسه ؟ قال: يتعرض من البلاء ما لا يطيق ).(فتح
الباري 9/86).
الضابط
الرابع: أن لا يؤدي تغيير المنكر إلى أشد منه: لأن الغاية من النهي عن المنكر تقليل المفاسـد ودفعـها وليس تكثيرها
وجلبها، فالإسلام جاء بجلب المصالح ودفع المفاسد، ودرء المفاسد مقدم علـى جلـب
المصالح، فإن كان إنكار المنكر يؤدي إلى منكر أكبر منه فحينئذ لا يجب الإنكار، بل
ولا يشرع، فإذا أدت إلى ذلك كان التغيير في ذاته منكراً، ولهذا قرر العلماء
مشروعية السكوت على المنكر مخافة ما هو أنكر منه وأعظم ارتكاباً لأخف الضررين،
واحتمالاً لأهون الشرين، فلا يجوز دفع المنكر بمنكر أشد منه وأكبر منه، كأن تكون
إزالة المنكر سببا لفتنة تسفك فيها الدماء دماء الأبرياء، وتنتهك الحرمات وتنتهب
الأموال، وتكون العاقبة أن يزداد المنكر تمكنا، ويزداد المتجبرون تجبرا وفسادا في
الأرض، ونجد التطبيق العملي من النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال لأمنا عائشة رضي
الله عنها:( لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم)(رواه
مسلم)، فترك تحطيم الأصنام في مكة وانتظر امتلاكه للقوة التي مكنته من تحطيمها عند
الفتح، مع أنه لو أزالها من مبتدأ الدعوة لترتب على ذلك تقتيل المسلمين، أو تعويق
مسيرة الدعوة، فقدم صلى الله عليه وسلم أهون الضررين.
الضابط
الخامس: الحكمة والموعظة الحسنة: لقوله
تعالى:(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(النحل:125) فالحكمة والموعظة الحسنة
تستدعي وتستلزم علماً وحلماً ورفقاً وليناً ورحمة وصبراً، فالعلم وسيلة إلى معرفة
المعروف والمنكر، وهو أيضاً وسيلة إلى فقه أحوال المخاطبين وظروفهم والطريقة التي
يخاطبون بها، فلا تدفعه الحماسة والغيرة فيتجاوز الحكمة في هذا كله، إنه يستدعي
فقهاً بالشريعة وفقها بأحوال الناس وفقها بواقع الناس، والحلم والرفق ضروري أيضاَ
لتحقيق المراد، وإلا نفر الناس من الداعي وانقلب المطلوب إلى ضده، وقد قال بعض
السلف:(لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فقيهاً فيما يأمر، فقيهاً
فيما ينهى عنه، رفيقاً فيما يأمر به، رفيقاً فيما ينهى عنه)، وأما الصبر فهو قرين
الصدق في إرادة الخير للناس، والأخذ بأيديهم إلى الصراط المستقيم، وما أفسده الناس
في أزمنة طويلة لا يصلح بين يوم وليلة، ففيم اليأس والتسرع في الحكم على الناس
بالفسق والكفر؟!، وقد تجلت حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في تغيير المنكر
والرفق والرحمة والحلم والصبر في نماذج كثيرة منها ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أنس
بن مالك قال:« بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذ جاء
أعرابي فقام يبول في المسجد ، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : مه مه،
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تزرموه دعوه " فتركوه حتى
بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له:" إن هذه المساجد لا
تصلح لشيء من هذا البول، ولا القذر إنما هي لذكر الله عز وجل، والصلاة وقراءة
القرآن " أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فأمر رجلا من القوم
فجاء بدلو من ماء فشنه عليه».
وقال لأم
المؤمنين عائشة رضي الله عنها، حين غضبت من قولة اليهود له صلى الله عليه وسلم: «
السَّامُ عليكم: فقالت: وعليكم السَّامُ واللعنةُ، قالت: فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم:(مهلاً يا عائشة، إن الله يحب الرفق في الأمر كلَّه)، فقلت: يا رسول
الله، أولم تسمع ما قالوا ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد قلت : وعليكم)».(متفق
عليه).
ومما يدخل
في باب الرفق والحكمة في هذا ، ألا يكون ذلك مواجهة ومصارحة في ملأٍ من الناس،
فإنها حينذاك تشهير لا تذكير. يقول الإمام الشافعي رحمه الله: من وعظ أخاه سرّا
فقد نصحه وزانه ، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه .(فقه تغيير المنكر: محمود توفيق28).
فما أحوج
الأمة الآن لهذه الحكمة والموعظة الحسنة والحلم والرفق واللين في الدعوة إلى الله
وتغيير المنكر وبذل النصيحة للغير كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي
الله عنهم.
فالحقيقة
التي لا بد أن يعتقدها كل مسلم، أن تطبيق فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
على الوجه الصحيح لا تكون إلا بالالتزام بضوابطها وشروطها وآدابها التي بينها الله
تعالى في كتابه، وفصلها وطبقها رسوله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله
وسيرته، وفيما عدا ذلك فإن آثار التطبيق الخاطئ وغير المنضبط لهذه الفريضة قد يجر
على الأمة ويلات من حيث كان يريد لها الخير والصلاح والإصلاح كما رأينا ذلك واضحاً
جلياً في هذه الثورات والمظاهرات والإضرابات والاعتصامات منذ سنوات وما زالت إلى
الآن في بعض البلاد كيف أنها جرت على الأمم والبلاد والعباد ويلات كثيرة إلى الآن
فلن يكون الإصلاح والتغيير إلا بالفهم الصحيح لشرع الله تعالى وهدي النبي صلى الله
عليه وسلم في تغيير المنكر.
د/ أحمد عرفة
باحث دكتوراه بجامعة الأزهر
عضو الجمعية الفقهية السعودية
Ahmedarafa11@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق