الكتاب خير جليس
(1)
بعد أيام
تنطلق الدورة الثامنة والأربعين لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، وهي فرصة سنوية
ينتظرها كثير من العلماء والباحثين وطلاب العلم المشتغلين بفروع الثقافة المختلفة،
حيث تُعقد الصالونات الأدبية، والندوات الثقافية، واللقاءات الدينية، وفيه يحرص كل
قارئ على معرفة الجديد في ميادين المعرفة المختلفة، ويلتقي فيه الباحثون والكُتاب
من جميع أنحاء العالم.
والكتابُ
هو عنوان نهضة الأمم وتقدمها وسبيل بناء حضارتها، فالأمة التي تهتم بالقراءة والكتابة
والعلم هي الأمة المتقدمة، أمَّا الأمة التي تتخلف عن القراءة والكتابة فهي دائماً
تراها في ذيل الأمم؛ لأنها لم تأخذ بأهم سُبل التقدم وأرقاها وهو العلم، وأمة
الإسلام هي أمة القراءة والكتابة، فأول ما نزل من القرآن هو اقرأ قال تعالى: (اقْرَأْ
بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ
وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا
لَمْ يَعْلَمْ)(الفلق:1-5)، فأول شيء نزل من القرآن هذه الآيات الكريمات
المباركات، وهنَّ أول رحمة رحم الله بها العباد, وأول نعمة أنعم الله بها عليهم،
وفيها التنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقة، وأن من كرمه تعالى أن علم الإنسان
ما لم يعلم، فشرفه وكرمه بالعلم وهو القدر الذي امتاز به أبو البشرية آدم على
الملائكة، والعلم تارة يكون في الأذهان، وتارة يكون في اللسان، وتارة يكون في
الكتابة بالبنان ذهني ولفظي ورسمي والرسمي يستلزمهما من غير عكس، فلهذا قال:
{اقْرَأْ وَرَبّكَ الأكْرَمُ الذي عَلّمَ بِالْقَلَمِ عَلّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ
يَعْلَمْ} وفي الأثر: قيِّدوا العلم بالكتابة، وفيه أيضاً: من عمل بما علم أورثه
الله علم ما لم يكن يعلم.(تفسير ابن كثير4/645).
والكتاب هو
أعظم وسيلة لحفظ العلم والعناية به، ولذلك نجد العلماء في القديم والحديث يُعنون
بالتنصيف والتأليف في مجالات العلوم المختلفة، وما دفعهم لذلك إلا لعلمهم أن
الكتاب هو الباقي وهو الصدقة الجارية التي ينتفع بها صاحبها بعد موته، وفي ذلك
يقول الإمام ابن الجوزي –رحمه الله-: "كتاب العالم ولده المخلد". وكان
للعلماء من سلف هذه الأمة حالٌ عجيبةٌ مع الكتاب والنفقة عليه من عزيز المال، وفي
ذلك يقول الجاحظ –رحمه الله-: "مَنْ لم تكن نفقته التي تخرج في الكتب ألذّ
عنده من إنفاق عُشَّاق القِيان، والمُسْتهترين بالبنيان، لم يبلغ في العلم مبلغًا
رضيًّا، وليس ينتفع بإنفاقه حتى يُؤْثر اتِّخاذ الكتب إيثار الأعرابيِّ فرسَه
باللبن على عِياله، وحتى يُؤمِّل في العلم ما يؤمِّل الأعرابيُّ في فرسِه".(الحيوان
1/55).
ونجد
الإمام ابن حزم –رحمه الله- في ذكره لدعائم العلم أنه يَعُدُّ منها الاستكثار من
الكتب وجمعها حيث يقول: "الاستكثارُ من الكتب، فلن يخلوَ كتابٌ من فائدة وزيادة
علمٍ يجدَها فيه إذا احتاجَ إليه، ولا سبيل إلى حفظ المرء لجميع علمِه الذي يختصّ
به، فإذ لا سبيل إلى ذلك، فالكتبُ نِعْم الخِزانة له إذا طُلِب، ولولا الكتب لضاعت
العلوم ولم توجَد، وهذا خطأٌ ممَّن ذمَّ الإكثار منها، ولو أُخِذَ برأيه، لتَلِفَت
العلوم، ولجاذبهم الجهَّال فيها، وادَّعوا ما شاءوا!! فلولا شهادة الكتب لاستوت
دعوى العالم والجاهل".(رسائل ابن حزم 4/77).
والكتاب
كما يقول الأستاذ: العقاد-رحمه الله- طعام الفكر؛ وما ذاك إلا لأنه يحوي تجارب
آلآف السنين في مختلف الأمم والعصور، إنه أوفى صديق، وخير جليس، وفي ذلك يقول
المتنبي:
أعز مكان في الدنى سرج سابح...وخير جليس في
الزمان كتاب.
وللحديث بقية
إن شاء الله
د/ أحمد عرفة
باحث دكتوراه بجامعة الأزهر
عضو الجمعية الفقهية السعودية
Ahmedarafa11@yahoo.com
نشر هذا المقال بجريدة عقيدتي في العدد الصادر بتاريخ
24/1/2017م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق