الاحتكار
في ميزان الفقه الإسلامي (2)
في المقال السابق
بينت أن الاحتكار هو حبس مال أو منفعة أو عمل، والامتناع عن بيعه وبذله حتى يغلو
سعره غلاءً فاحشاً غير معتاد، بسبب قلته، أو انعدام وجوده في مظانه، مع شدة حاجة
الناس أو الدولة أو الحيوان إليه، ولكن المتأمل في حال كثير من الباحثين وعامة
الناس عند إطلاق لفظ الاحتكار يظن أنه في الأقوات كالطعام والشراب فقط، وهذا مفهوم
قاصر.
فالاحتكار يكون في كل ما يضر بالناس حبسه، قوتاً
كان أو غيره وذلك لقوة أدلته، فمعظم الأحاديث الواردة في منع الاحتكار جاءت مطلقة
عن القيد، فيجب العمل بمطلقها من غير تقييد قال الإمام الصنعاني رحمه الله: ولا يخفى
أن الأحاديث الواردة في منع الاحتكار وردت مطلقة ومقيدة بالطعام، وما كان من الأحاديث
على هذا الأسلوب فإنه عند الجمهور لا يقيد فيه المطلق بالمقيد لعدم التعارض بينهما
بل يبقى المطلق على إطلاقه، وهذا يقتضي أنه يعمل بالمطلق في منع الاحتكار مطلقاً، ولا
يقيد بالقوتين إلا على رأي أبي ثور، وقد رده أئمة الأصول، وكأن الجمهور خصوه بالقوتين
نظراً إلى الحكمة المناسبة للتحريم وهي دفع الضرر عن عامة الناس، والأغلب في دفع الضرر
عن العامة إنما يكون في القوتين فقيدوا الإطلاق بالحكمة المناسبة أو أنهم قيدوه بمذهب
الصحابي الراوي فقد أخرج مسلم عن سعيد بن المسيب أنه كان يحتكر قيل له: فإنك تحتكر؟
فقال: لأن معمراً راوي الحديث كان يحتكر، وقال الإمام ابن عبد البر رحمه الله: كانا
يحتكران الزيت وهذا ظاهر أن سعيداً قيد الإطلاق بعمل الراوي، وأما معمر فلا يعلم بم
قيده، ولعله بالحكمة المناسبة التي قيد بها الجمهور(سبل السلام 3/25).
وللاحتكار المحرم
شروط ذكرها الفقهاء منها الآتي:
أولاً: أن يكون الشيء المحتكر من
الأقوات: فالقول الراجح هو أن الاحتكار يجرى في حبس كل ما يحتاج إليه
الناس من قوت وغيره في الأولى بالاعتبار، لأن الأحاديث المطلقة تفيد ذلك، وحملها
على إطلاقها هو الذي يناسب ما طرأ على الاحتكار من مستجدات ومتغيرات في العصر
الحديث.
ثانياً: أن يكون الشيء المحتكر قد اشتري
من سوق البلدة: فإن كان مجلوباً من الخارج أو منتجاً
من ضيعة المحتكر فإن حبسه لا يعد من قبيل الاحتكار لأمرين: الأول: قوله صلى الله
عليه وسلم: "الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون" فالتقدير التاجر مرحوم ومرزوق لتوسعته
على الناس، والمحتكر ملعون ومحروم لتضييقه عليهم، والثاني: إن حق العامة قد تعلق
بالشيء المشترى من الداخل، فشراؤه وحبسه إلحاق ضر بهم في حين أنه لا يوجد هذا الحق
فيما اشترى من الخارج ثم جلبه، لأنه بإمكان المشترى الذي اشترى واحتكر أن لا يشترى
ولا يجلب أصلاً، وبإمكانه أيضاً أن لا يزرع، وإن كان الأولى والأفضل أن لا يقوم
بحبس ما جلبه أو أنتجه حتى لا يلحق ضرراً بالناس.
ثالثاً: أن يكون الشيء
المحتكر قد اشتري في وقت الضيق والشدة وغلاء الأسعار، وأن شراءه واحتكاره قد ألحق
ضرراً بالناس.
رابعاً: الوقت: قيدت بعض الأحاديث
الواردة في النهى عن الاحتكار مدة الاحتكار بأربعين يوماً فقد ورد في حديث ابن عمر
رضي الله عنهما (من احتكر طعاماً أربعين يوماً فقد برئ من الله تعالى وبرئ الله
تعالى منه) فهل يعد هذا القيد الوارد في الحديث شرطاً من شروط الاحتكار أم لا ؟
اختلف الفقهاء فيه على أربعة أقوال: الأول: أن أقل مدة الاحتكار أربعون يوماً
اعتماداً على ظاهر حديث ابن عمر، والثاني: أن أقل مدة الاحتكار شهر لأن ما دونه
عاجل، والثالث: أن الاحتكار احتكار طالت المدة أم قصرت، ذلك أن التقييد الوارد في
الحديث لا يراد بها لتحديد، وإنما المراد جعل المحتكر الاحتكار حرفة يقصد بها نفع
نفسه، وإلحاق الضرر بغيره. يقول الإمام الشوكانى رحمه الله: ولم أجد من ذهب إلى
العمل بهذا العدد، والرابع: أن المحتكر إنما يكون آثماً ديانة بنفس الاحتكار، طالت
المدة أم قصرت، وأن بيان المدة إنما يكون لبيان ما يتعلق بها من أحكام الدنيا،
كإجبار المحتكر على بيع ما عنده، دفعاً للضرر، ونحو ذلك.(الاحتكار، د/ماجد أبو
رخية 2/470، الاحتكار، د/أسامة عبد السميع 53-75).
فالاحتكار جريمة
اقتصادية واجتماعية كبرى، ويجب على الدولة محاربته بشتى الوسائل والطرق لا سيما
إذا كان يرتب أضراراً جسيمة بالفرد والمجتمع والدولة، ويؤثر على النشاط الاقتصادي
للدولة فيجب على الحاكم ونائبه التصدي للمحتكرين ومحاربة هذه الجريمة للحفاظ على
اقتصاد الدولة، وحماية المواطن من تسلط ذوي الأموال والمحتكرين عليهم، وفي المقال
القادم إن شاء الله سنبين ذلك بالتفصيل. والله من وراء القصد وهو حسبنا ونعم
الوكيل.
د/
أحمد عرفة
باحث
دكتوراه بجامعة الأزهر
عضو
الجمعية الفقهية السعودية
نشر هذا المقال بجريدة صوت
الأزهر في العدد الصادر بتاريخ 2/9/2016م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق