فضل الصمت وحفظ اللسان
إعداد : د/ أحمد عرفة
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره،
ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له،
ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً
عبده ورسوله.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ }
[آل عمران:102].
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ
الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ
مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ
بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } [النساء:1].
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ
لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا
عَظِيمًا } [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن
الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة،
وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد:
أخرج الإمام أحمد
والترمذي بسند صحيح عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (من صمت نجا) صحيح
الجامع (6243).
أيها الأخوة الأحباب:
هذه وصية عظيمة قليلة المبنى كبيرة المعنى ولقد كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (أفصح خلق الله، وأعذبهم كلاماً، وأسرعهم أداءً، وأحلاهم
منطقاً، حتى إن كلامه ليأخذ بمجامع القلوب ويسبى الأرواح ويشهد له بذلك أعداؤه،
وكان إذا تكلم بكلام مفصل مبين يعده العاد، ليس بهذ مسرع لا يحفظ، ولا منقطع تخلله
السكتات بين أفراد الكلام، بل هديه فيه أكمل الهدي صلى الله عليه وسلم).
قال الإمام أبو حامد الغزالي
رحمه الله: (اللسان صغير حجمه، عظيم طاعته وجرمه).
وأخرج الإمام أحمد في
مسنده بسند حسن عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: (إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من
ظاهرها، أعدها الله تعالى لمن أطعم الطعام، وألان الكلام، وتابع الصيام، وصلى
بالليل والناس نيام) صحيح الجامع (2119).
وأخرج ابن حبان بسند
صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أطب الكلام، وأفشي السلام، وصل الأرحام، وصل بالليل والناس نيام، ثم أدخل
الجنة بسلام) صحيح الجامع (1030).
وأخرج الترمذي وابن
ماجة بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى، ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب
الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله، ما كان
يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها سخطه إلى يوم القيامة) صححه الألباني في
السلسلة الصحيحة (888).
وأخرج الترمذي بسند
صحيح عن سفيان بن عبدالله رضي الله عنه قال: قلت:
يا رسول الله، حدثني بأمر أعتصم به قال: "قل: ربي الله، ثم استقم" قلت:
يا رسول الله، ما أخوف ما تخاف عليّ؟ فأخذ بلسان نفسه، ثم قال: "هذا".
وأخرج أبو يعلى بسند
حسن عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عليك بحسن الخلق، وطول الصمت، فوالذي نفس بيده، ما تحمل الخلائق
بمثلهما" صحيح الجامع (3927).
وأخرج البخاري ومسلم
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قلت:
يا رسول الله أي المسلمين أفضل؟ قال: "من سلم المسلمون من لسانه ويده".
وأخرج أحمد والترمذي
بسند صحيح عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله ما النجاة؟ قال: "أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وأبك على خطيئتك". السلسلة
الصحيحة (890).
وأخرج أحمد بسند صحيح
عن أنس رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم:
(لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولها يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه ولا
يدخل الجنة رجل لا يأمن جاره بوائقه).
وأخرج البخاري في
صحيحه عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة).
وأخرج الترمذي بسند
صحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان فتقول اتق الله فينا،
فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا).
وعن عبد الله بن
مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أكثر خطايا ابن آدم في لسانه) رواه الطبراني وصححه الألباني في الصحيحة
(534).
حال السلف الصالح رضى الله عنهم مع اللسان
صح عن عبدالله بن
مسعود رضي الله عنه أنه قال: (والذي لا إله غيره،
ما على ظهر الأرض من شيء أحوج إلى طول سجن
من لسان).
وعن أسلم؛ أن عمر رضي
الله عنه دخل يوماً على أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو يجذب لسانه، فقال عمر: مه، غفر الله لك، فقال له أبو بكر: إن هذا أوردني بشر الموارد.
وقال ابن مسعود رضي
الله عنه للسانه: يا لسان قل خيراً تغنم واسكت عن شر
تسلم من قبل أن تندم.
وقيل: المرء مخبوء تحت لسانه فإذا تكلم ظهرت لك حقيقته.
وقال محمد بن عجلان: إنما الكلام أربعة: أن تذكر الله، وتقرأ القرآن، وتسئل عن علم فتخبر به،
أو تكلم فيما يعنيك من أمر دنياك.
وقال رجل لسلمان
الفارسي أوصني: قال: لا تتكلم، قال: ما يستطيع من عاش
في الناس أن لا يتكلم، قال: فإن تكلمت فتكلم بحق أو أسكت.
وقال وهب بن منبه: أجمعت الحكماء على أن رأس الحكمة الصمت.
وقال شميط بن عجلان: يا ابن آدم إنك ما سكتت فأنت سالم فإذا تكلمت فخذ حذرك، إما لك أو عليك.
وقال عيسى عليه السلام : طوبى على من بكى
خطيئته وخزن لسانه ووسعه بيته 0
وعن حميد بن هلال قال : قال عبد الله بن عمرو : دع ما لست منه في شيء ولا تنطق فيما لا يعنيك واخزن لسانك
كما تخزن ورقك0
وعن وهب بن منبه قال في حكمة آل داود : حق على العاقل أن يكون عارفا بزمانه حافظا للسانه مقبلا
على شانه0
وعن يزيد بن حيان التيمي قال : كان يقال : ينبغي للرجل أن يكون أحفظ للسانه منه لموضع قدمه 0
وعن
الحسن رضي الله عنه قال : ما
عقل دينه من لم يحفظ لسانه0
وعن وهيب بن الورد رحمه الله قال : كان يقال : الحكمة عشرة أجزاء فتسعة منها في الصمت والعاشرة عزلة الناس
وعن عبد الله بن المبارك رحمه الله قال : قال بعضهم في تفسير العزلة : هو أن يكون مع القوم فإن خاضوا
في ذكر الله فخض معهم وإن خاضوا في غير ذلك فاسكت 0
وعن وهيب بن الورد قال : وجدت العزلة في اللسان 0
وعن الأوزاعي قال : قال سليمان بن داود صلى الله عليه
و سلم : إن كان الكلام من فضة فالصمت من ذهب 0
انظر:(الصمت وآداب
اللسان :لابن أبى الدنيا صـ52-صـ66)0
وقال محمد بن واسع لمالك
بن دينار: يا أبا يحيى حفظ اللسان
أشد على الناس من حفظ الدينار والدرهم0
وقال يونس بن عبيد: ما من الناس أحد يكون منه لسانه على بال إلا رأيت
صلاح ذلك في سائر عمله0
وقال الحسن : تكلم قوم عند معاوية رحمه الله والأحنف بن قيس ساكت
فقال له مالك: يا أبا بحر لا تتكلم فقال له: أخشى الله
إن كذبت وأخشاك إن صدقت0
وقال أبو بكر بن عياش: اجتمع أربعة ملوك ملك الهند وملك الصين وكسرى وقيصر
فقال أحدهم:
أنا أندم على ما قلت ولا أندم على ما لم أقل 0
وقال الآخر: إني إذا تكلمت بكلمة ملكتني ولم أملكها
وإذا لم أتكلم بها ملكتها ولم تملكني0
وقال الثالث:عجبت للمتكلم إن رجعت عليه كلمته ضرته
وإن لم ترجع لم تنفعه وقال الرابع: أنا على رد ما لم أقل أقدر مني على رد ما قلت0
قال الإمام أبو حامد
الغزالى رحمه الله بعد ذكر هذه الآثار:
فإن قلت فهذا الفضل الكبير للصمت ما سببه فاعلم أن
سببه كثرة آفات اللسان من الخطأ والكذب والغيبة والنميمة والرياء والنفاق والفحش والمراء
وتزكية النفس والخوض في الباطل والخصومة والفضول والتحريف والزيادة والنقصان وإيذاء
الخلق وهتك العورات فهذه آفات كثيرة وهي سيانة إلى اللسان لا تثقل عليه ولها حلاوة
في القلب وعليها بواعث من الطبع ومن الشيطان والخائض فيها قلما يقدر أن يمسك اللسان
فيطلقه بما يحب ويكفه عما لا يحب فإن ذلك من غوامض العلم كما سيأتي تفصيله ففي الخوض
خطر وفي الصمت سلامة فلذلك عظمت فضيلته هذا مع ما فيه من جمع الهم ودوام الوقار والفراغ
للفكر والذكر والعبادة والسلامة من تبعات القول في الدنيا ومن حسابه في الآخرة فقد
قال الله تعالى ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد0
انظر:(إحياء علوم الدين:جـ3صـ111)0
من آفات اللسان
1-
الكلام فيما
لا يعنيك:
ينبغي
على العاقل ألا يتكلم فيما لا يعنيه ولو سبح ربه وذكره لكان خيراً له فكم من كلمة
يبنى بها قصراً في الجنة. أخرج الترمذي بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)0
يستفاد من هذا الحديث :
1-أن من قبح إسلام المرء أخذه فيما لا يعنيه ، وهو
الفضول كله على اختلاف أنواعه ، فإن معاناته ضياع للوقت النفيس الذي لا يمكن أن يعوض
فائته فيما لم يخلق لأجله .
2-الحث على الاشتغال بما يعني ، وهو ما يفوز به المرء
في معاده من الإسلام والإيمان والإحسان ، وما يتعلق بضرورة حياته في معاشه ، فإن المشتغل
بهذا يسلم من المخاصمات وجميع الشرور .
انظر:( التحفة الربانية في شرح الأربعين حديثا النووية: للشيخ
العلامة / إسماعيل بن محمد الأنصاري جـ13صـ1)0
وقال الأوزاعي: كتب
إلينا عمر بن عبدالعزيز رحمه الله: (أما بعد: فإن من
أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير، ومن عد كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما
يعنيه).
2- السب وبذاءة
اللسان:
روى البخاري وغيره عن
ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا بالفاحش والبذيء).
وقال صلى الله عليه
وسلم: (الربا اثنان وسبعون باباً أدناها مثل إتيان الرجل أمه
وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه). صحيح الجامع (3531)0
دخلوا على بعض الصحابة
في مرضه ووجهه يتهلل فسألوه عن سبب تهلل وجهه قال: ما من عمل أوثق عندي من خصلتين:
كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، وكان قلبي سليماً للمسلمين.
وقال سهل بن عبدالله
التستري: من تكلم فيما لا يعنيه حرم الصدق.
وقال معروف الكرخى: كلام العبد فيما لا يعنيه خذلان من الله عز وجل.
أين نحن من هؤلاء
مورق العجلي: قال
رحمه الله: (تعلمت الصمت في عشر سنين، وما قلت شيئاً قط إذا غصبت،
أندم عليه إذا زال غضبي) سير أعلام النبلاء 4/353.
وقيل: أقام المنصور بن المعتز لم يتكلم بكلمة بعد العشاء الآخرة، أربعين سنة.
(لإحياء 3/121)
قال الإمام أبو حامد
الغزالي رحمه الله: قيل: ما تكلم الربيع بن
خثيم بكلام الدنيا عشرين سنة، وكان إذا أصبح وضع دواة وقرطاساً وقلماً، فكل ما
تكلم به كتبه، ثم يحاسب نفسه عند المساء. (الإحياء 3/121)0
وقال عمر بن
عبدالعزيز رحمه الله: (إذا رأيتم الرجل يطيل الصمت ويهرب
من الناس، فاقتربوا منه، فإنه يلقن الحكمة).
وقال محمد بن واسع
لمالك بن دينار: (يا أبا يحيى حفظ اللسان أشد على الناس من حفظ الدنيا
والدرهم).
وقال الحسن البصري
رحمه الله: (من كثر ماله كثرت ذنوبه، ومن كثر كلامه كثر كذبه، ومن
ساء خلقه عذب نفسه).
وكان الربيع بن خيثم
يقول: (لا خير في الكلام إلا في تسع: تهليل، وتكبير، وتسبيح،
وتحميد، وسؤالك من الخير، وتعوذك من الشر، وأمرك بالمعروف، ونهيك عن المنكر،
وقراءتك للقرآن).
وقال ابن عباس رضي
الله عنهما: (ما من شيء يتكلم به ابن آدم إلا كتب عليه حتى أنينه في
مرضه، فلما مرض الإمام أحمد بن حنبل قيل له: إن طاووساً كان يكره أنين المرض
فتركه) [البداية والنهاية: ابن كثير].
وقال سلمة بن دينار: ينبغي للمؤمن أن يكون أشد حفظاً للسانه منه لموضع قدمه. [صفة الصفوة: لابن
الجوزي].
وقال سفيان الثوري: طول الصمت مفتاح العبادة.
وحكي أن بعض الحكماء
رأى رجلاً يكثر الكلام ويقل السكوت فقال: (إن الله تعالى إنما خلق لك أذنين
ولساناً واحداً ليكون ما تسمعه ضعف ما تتكلم به). [أدب الدنيا والدين للماوردي].
وقال طاووس: لساني سبع إن أرسلته أكلني. [الإحياء].
وقال بعض السلف: يعرض على ابن آدم يوم القيامة ساعات عمره فكل ساعة لم يذكر الله فيها تتقطع
نفسه عليها حسرات.
والله من وراء القصد
وهو حسبنا ونعم الوكيل
للتواصل مع الكاتب
0020119133367
Ahmedarafa11@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق