التحذير من
فتنة التكفير
إن ما نشاهده كل يوم من قتل وتفجير وإفساد في الأرض من بعض الجماعات
المنحرفة والفرق الضالة التي تدعي تطبيق الإسلام زوراً وبهتاناً من أهم أسبابه هو
التكفير من هذه الفئة الضالة لأهل المعاصي وأصحاب الكبائر واستحلال الدماء،
والمتأمل في شرعنا الحنيف يجد أن الإسلام هو دين الوسطية والاعتدال، وقد حرم
الإسلام الاعتداء على المسلم بشتى أنواع الاعتداءات، ومنها تحريم التكفير والنهي
عنه، وقد جاء ذلك في أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم منها ما أخرجه
الإمام مسلم في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت النبي الله عليه وسلم :
" أيما امرئ قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال ، وإلا
رجعت عليه "، وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال:" إذا قال الرجل لأخيه يا كافر ، فقد باء به أحدهما
"، وبيّن لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن لعن المسلم والحكم عليه بالكفر
كقتله، وذلك في الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: " من حلف على ملة غير الإسلام فهو كما قال ، وليس على ابن آدم نذر فيما
لا يملك ، ومن قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به يوم القيامة ، ومن لعن مؤمنا فهو
كقتله ، ومن قذف مؤمناً بكفر فهو كقتله ".
ففي هذه
الأحاديث وغيرها نهي من النبي صلى الله عليه وسلم وزجر للمسلم على أن يُكفر أو
يقول لأخيه المسلم يا كافر، ويخشي عليه أن يؤدي به هذا الفعل إلى الكفر كما قيل: المعاصي
بريد الكفر، فيخاف على من أدامها وأصر عليها سوء الخاتمة.
وقد نص العلماء على أن الكفر حكم شرعي لما
يترتب عليه من أحكام، يقول الإمام الغزالي رحمه الله: "الكفر حكم شرعي كالرق
والحرية، إذ معناه إباحة الدم والحكم بالخلود في النار"، ونص العلماء على أن
التكفير، حكم شرعي أيضاً، وعليه لا يكون الحكم على فكرة أو حادثة أو شخص بالكفر
إلا من أهل العلم الموثوقين والمعتبرين، الذين يفهمون الشرع حق فهمه وتلقوا علمهم
من أهله، وهؤلاء يعرفون بالاستفاضة، ويحرم التكفير العيني على كل من لم يبلغ هذه
المرتبة، وهذا هو الذي عليه علماء الأمة من أهل السنة والجماعة سلفاً وخلفاً، ومع
هذا فقد زل هنا أناس فذهب البعض منهم إلى القول بتكفير مرتكبي المعاصي كفراً
يخرجهم من الملة، دون التفريق بين نوعي الكفر، ودون الرجوع إلى النصوص الأخرى التي
تبين عدم كفرهم، وغير ذلك.
وعندما ننظر في سيرة النبي صلى الله عليه
وسلم هل نجد أنه كفَّر أحداً ممن ادعى الإسلام؟!! لا. المنافقون مثلاً قال الله
سبحانه وتعالى: { وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا
تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ }[التوبة:101] فهو سبحانه يعلمهم، ومع ذلك لم
يعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم، كان يعاملهم معاملة المسلمين.
وفتنة التكفير هي الفتنة العظيمة التي مزقت
جسد الأمة الإسلامية وهي أول البدع والفتن ظهوراً في الإسلام، فهي المنبع لكثير من
الانحرافات العقائدية و السلوكية والخلقية و النفسية التي عانت منها الأمة المسلمة
على مدى أربعة عشر قرنآ، وما زالت الأمة تعاني منها إلى الآن وهم (الخوارج) هذه
الفئة التي خرجت على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فظاهرة التكفير هي أصل الخوارج
ومن تبعهم من الفرق الضالة والجماعات المعاصرة المنحرفة عن منهج أهل السنة
والجماعة.
والخوارج يكفرون أصحاب الكبائر، ويستحلون
دماءَهم، وأموالهم، ويخلدونهم في النار، ويرون اتباع الكتاب دون السنة التي تخالف
ظاهر الكتاب – وإن كانت متواترة – ويكفرون من خالفهم، ويستحلون منه – لارتداده
عندهم – ما لا يستحلونه من الكافر الأصلي، ويرون الخروج على الإمام إذا خالف السنة
حقّاً واجباً، وقد بيّن النبي صلّى الله عليه وسلّم صفاتهم وأوضحها للناس، ومن ذلك
أن رجلاً منهم قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم – وهو يقسم غنيمةً بالجعرانه -: يا
محمد اعدل. قال: "ويلك ومن يعدلُ إذا لم أكن أعدل، لقد خبتَ وخسرتَ إن لم أكن
أعدل“ فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعني يا رسول الله، فأقتل هذا المنافق؛
فقال صلّى الله عليه وسلّم: ”معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي. إن هذا
وأصحابه يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية"
(رواه البخاري ومسلم)، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم يقول: "يخرج فيكم قومٌ تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع
صيامهم، وعملكم مع عملهم، ويقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما
يمرق السهم من الرمية"(رواه البخاري ومسلم)، وقال علي بن أبي طالب رضي الله
عنه: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: "سيخرج في آخر الزمان قومٌ
أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية يقرأون القرآن لا يجاوز
حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن
في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة"(رواه البخاري ومسلم).
وخلاصة الأمر: أن التسرع في التكفير له خطره العظيم؛ لقوله عز وجل:{ قُلْ إِنَّمَا
حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ
وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ
بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [ الأعراف :
33 ]، ولما في التكفير وهذا الاعتقاد الخاطئ من استباحة الدماء وانتهاك الأعراض،
وسلب الأموال الخاصّة والعامة، وتفجير المساكن والمركبات، وتخريب المنشآت، فهذه
الأعمال وأمثالها محرَّمة شرعًا بإجماع المسلمين؛ لما في ذلك من هتك لحرمة الأنفس
المعصومة، وهتك لحرمة الأموال، وهتك لحرمات الأمن والاستقرار، وحياة الناس الآمنين
المطمئنين في مساكنهم ومعايشهم، وغُدوِّهم ورواحهم، وهتك للمصالح العامة التي لا
غنى للناس في حياتهم عنها، وقد حفظ الإسلام للمسلمين أموالهم وأعراضهم وأبدانهم،
وحرَّم انتهاكها، وشدّد في ذلك، وكان من آخر ما بلَّغ به النبيُّ صلى الله وعليه
وسلم أمَّته فقال في خطبة حجة الوداع:(إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرامٌ
كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا). ثم قال صلى الله وعليه وسلم :(ألا
هل بلَّغت ؟ ، اللهم فاشهد).(رواه مسلم).
هدانا الله وإياكم للحق وإلى الطريق
المستقيم وغفر لنا ولكم ووفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه اللهم آمين .
والحمد لله رب العالمين
د/ أحمد
عرفة
باحث
دكتوراه بجامعة الأزهر
عضو الجمعية
الفقهية السعودية
عضو
الجمعية المصرية للتمويل الإسلامي
Ahmedarafa11@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق