تذكير الأمة بفضائل عشر ذي الحجة
ورد في
الأثر: ((إن لربكم في أيام دهركم لنفحات ألا فتعرضوا لها فلعل أحدكم أن تصيبه نفحة
منها فلا يشقى بعدها أبدا)) فالله -جل وعلا- أعطانا مواسم عظيمة للخير والطاعات
فيها يتزود المسلم بطاعة ربه -تبارك وتعالى-، وفيها تغفر الخطايا والزلات، وفيها
تضاعف أجور الأعمال الصالحة، ومن هذه المواسم العظيمة وأبواب الخير التي ينبغي على
كل مسلم أن يغتنمها في طاعة الله -عز وجل- والتزود من الخير، أيام العشر الأول من
ذي الحجة، ومن فضائل هذه العشر في القرآن الكريم: أن الله - عز وجل - أقسم بها في كتابه
العزيز:قال - تعالى -: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ) [سورة الفجر: 1-2].عن
عكرمة في قول الله - تعالى -: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ) قال: " الفجر
الصبح، وليال عشر، عشر الأضحى، وعن قتادة في قوله - عز وجل -: (وَالْفَجْرِ *
وَلَيَالٍ عَشْرٍ) قال: كنا نحدث أنها عشر الأضحى. [فضل عشر ذي الحجة: للطبراني
صـ5)]، ومن فضائلها أنها الأيام المعلومات التي أمر الله -تعالى- فيه بذكره قال -
تعالى -: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ
ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ
وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن
بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ)
[سورة الحج: 27-28]، وقال - تعالى -: (وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ)
[سورة البقرة: 203].عن الحسن قال: الأيام المعلومات عشر ذي الحجة والمعدودات أيام
التشريق، وعن سعيد بن جبير قال: الأيام المعلومات أيام العشر، وعن سعيد بن جبير عن
ابن عباس - رضي الله عنهما -: في أيام معلومات قال: العشر، وعن قتادة قال: الأيام
المعلومات أيام العشر والأيام المعدودات أيام التشريق.[فضل عشر ذي الحجة: للطبراني
صـ4)]، ومن فضائلها أنها من جملة الأيام التي واعدها الله لموسي - عليه السلام
-قال - تعالى -: (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا
بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ
هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ
الْمُفْسِدِينَ) [سورة الأعراف: 142] عن مجاهد في قول الله - تعالى -:
(وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً) قال: ذو القعدة (وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ
من ذي الحجة)[فضل عشر ذي الحجة: للطبراني صـ5)]، ومن فضائلها أنها خاتمة أشهر الحج
قال - تعالى -: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ) [سورة البقرة: 197].
وأما عن
فضائل العشر في السنة المطهرة فقد أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس - رضي الله
عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب
إلى الله من هذه الأيام يعني أيام العشر)) قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل
الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلا خرج بنفسه وماله ولم رجع من ذلك
بشيء)).
قال الإمام
ابن رجب - رحمه الله -: "وقد دل هذا الحديث على أن العمل في أيامه أحب إلى
الله من العمل في أيام الدنيا من غير استثناء شيء منها، وإذا كان أحب إلى الله فهو
أفضل عنده، وإذا كان العمل في أيام العشر أفضل، وأحب إلى الله من العمل في غيره من
أيام السنة كلها صار العمل فيه وإن كان مفضولاً أفضل من العمل في غيره و إن كان
فاضلا"[لطائف المعارف: صـ365)]، وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: وقد ثبتت
الفضيلة لأيام العشر بهذا الحديث فثبتت بذلك الفضيلة لأيام التشريق. ثانيها: أن
عشر ذي الحجة إنما شرف لوقوع أعمال الحج فيه وبقيه أعمال الحج تقع في أيام التشريق
كالرمي والطواف وغير ذلك من تتماته فصارت مشتركة معها في أصل الفضل ولذلك اشتركت
معها في مشروعية التكبير في كل منها.ثالثها: أن بعض أيام التشريق هو بعض أيام
العشر وهو يوم العيد، وكما أنه خاتمة أيام العشر فهو مفتتح أيام التشريق فمهما ثبت
لأيام العشر من الفضل شاركتها فيه أيام التشريق؛ لأن يوم العيد بعض كل منها بل هو
رأس كل منها وشريفه وعظيمه وهو يوم الحج الأكبر. ثم قال -رحمه الله-: والذي يظهر
أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه وهي الصلاة
والصيام والصدقة والحج ولا يتأتى ذلك في غيره [فتح الباري: 2/460 وما بعدها].
قال الإمام
ابن رجب - رحمه الله -: فإن قيل: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من أيام العمل
الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام)) هل يقتضي تفضيل كل عمل صالح وقع في شيء
من أيام العشر على جميع ما يقع في غيرها، وإن طالت مدته أم لا؟ قيل: الظاهر والله
أعلم أن المراد أن العمل في هذه الأيام العشر أفضل من العمل في أيام عشر غيرها فكل
عمل صالح يقع في هذا العشر فهو أفضل من عمل في عشرة فهو أفضل من عمل في عشرة أيام
سواها من أي شهر كان فيكون تفضيلاً للعمل في كل يوم منه على العمل في كل يوم من
أيام السنة غيره.
وقد قيل:
إنما يفضل العمل فيها على الجهاد إذا كان العمل فيها مستغرقاً لأيام العشر فيفضل
على جهاد في عدد تلك الأيام من غير العشر و إن كان العمل مستغرقا لبعض أيام العشر
فهو أفضل من جهاد في نظير ذلك الزمان من غير العشر و استدل على ذلك بأن النبي -
صلى الله عليه وسلم - جعل العمل الدائم الذي لا يفتر من صيام و صلاة معادلاً
للجهاد في أي وقت كان فإذا وقع ذلك العمل الدائم في العشر كان أفضل من الجهاد في
مثل أيامه لفضل العشر وشرفه.
ففي
الصحيحين عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:
دلني على عمل يعدل الجهاد؟ قال: أجده قال لا هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل
مسجدك فتقوم و لا تفتر و تصوم و لا تفطر. قال: و من يستطيع ذلك)، ويدل على أن
المراد تفضيله على جهاد في مثل أيامه خاصة: ما في صحيح ابن حبان عن جابر عن النبي
- صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي الحجة))
فقال رجل: يا رسول الله هو أفضل أم عدتهن جهاد في سبيل الله؟ قال: ((هو أفضل من
عدتهن جهادا في سبيل الله)) فلم يفضل العمل في العشر إلا على الجهاد في عدة أيام
العشر لا مطلقاً [لطائف المعارف: صـ370 وما بعدها)]، وأخرج البزار و غيره عن جابر
- رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أفضل أيام الدنيا أيام
العشر)) قالوا: يا رسول الله ولا مثلهن في سبيل الله؟ قال: ((ولا مثلهن في سبيل
الله إلا من عفر وجهه بالتراب))، وكان سعيد بن جبير-رحمه الله-: "إذا دخلت
العشر اجتهد اجتهادا حتى ما يكاد يقدر عليه"[رواه الدارمي بإسناد حسن].
وقال
الإمام ابن رجب -رحمه الله-: "لما كان الله -سبحانه- قد وضع في نفوس عباده
المؤمنين حنينا إلى مشاهدة بيته الحرام، وليس كل أحد قادرا على مشاهدته كل عام،
فرض على المستطيع الحج مرة واحدة في عمره، وجعل موسم العشر مشتركا بين السائرين
والقاعدين".
وسئل شيخ
الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عن عشر ذي الحجة، والعشر الأواخر من رمضان، أيهما
أفضل؟ فأجاب: "أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان، والليالي
العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة".
وقال
الإمام ابن القيم - رحمه الله - في زاد المعاد تحت "التفضيل بين
الأزمنة":"قلت: أما السؤال الأول فالصواب فيه أن يقال ليالي العشر
الأخير من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة، وأيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام عشر
رمضان، وبهذا التفصيل يزول الاشتباه، ويدل عليه أن ليالي العشر من رمضان إنما فضلت
باعتبار ليلة القدر، وهي من الليالي وعشر ذي الحجة إنما فضل باعتبار أيامه إذ فيه
يوم النحر ويوم عرفة ويوم التروية"[زاد المعاد: 1/57)].
ومن فضائل
هذه العشر أن فيها يوم عرفة، هذا اليوم العظيم الذي هو أفضل أيام العام، وقد بيّن
لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - فضله في أحاديث كثيرة منها صيام هذا اليوم لغير
الحاج: وذلك لما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي قتادة أن النبي - صلى الله عليه وسلم
- سئل عن صوم يوم عرفة فقال: ((يكفر السنة الماضية والباقية))، ومنها الإكثار من
الدعاء في هذا اليوم: وذلك لما أخرجه الترمذي في سننه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن
جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما
قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد،
وهو على كل شيء قدير))، ومنها أن يوم عرفة يوم العتق من النار، عن عائشة أن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من
النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟)).
قال الإمام النووي - رحمه الله -: "هذا الحديث ظاهر الدلالة في فضل يوم عرفة،
وهو كذلك"، ومن فضائله أنه اليوم الذي أكمل الله - عز وجل - فيه الدين وأتم
علينا فيه النعمة: وذلك لما أخرجه البخاري في صحيحه عن طارق بن شهاب قال: قال رجل
من اليهود لعمر: يا أمير المؤمنين، لو أن علينا أنزلت هذه الآية: (اليوم أكملت لكم
دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) لأتخذنا ذلك اليوم عيداً، فقال
عمر: "إني لأعلم أي يوم نزلت هذه الآية، نزلت يوم عرفة، في يوم الجمعة" ففي
هذا اليوم أكمل الله دينه وأتم نعمته، فمن الواجب علينا أن نشكر الله على إتمام نعمته
علينا والتقرب إليه بالفرائض والنوافل على ضوء ما جاء بالكتاب والسنة، ومنها أنه يوم الحج الأكبر: فالوقوف بعرفة في هذا
اليوم العظيم هو ركن الحج الأعظم، ولا تصح هذه الفريضة العظيمة بدونه، وذلك لما
أخرجه ابن ماجة في سننه بسند صحيح عن بكير بن عطاء قال: سمعت عبد الرحمن بن يعمر،
قال: شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو واقف بعرفة، وأتاه ناس من أهل
نجد، فقالوا: يا رسول الله كيف الحج؟ قال: ((الحج عرفة، فمن جاء قبل صلاة الفجر،
ليلة جمع، فقد تم حجه، أيام منى ثلاثة، فمن تعجل في يومين، فلا إثم عليه، ومن
تأخر، فلا إثم عليه، ثم أردف رجلا خلفه، فجعل ينادي بهن)).
ومن فضائل
هذه العشر أن فيها يوم النحر: وهو يوم عيد الأضحى المبارك، وهو يوم عظيم بين لنا
النبي -صلي الله عليه وسلم- وما فيه من الخير، ومنها: ما أخرجه البيقهي في السنن
الكبرى عن عبد الله بن قرط قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أعظم
الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم القر وهو الذي يليه))، وأخرج الترمذي في سننه عن
عائشة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: ((ما عمل آدمي من عمل يوم النحر
أحب إلى الله من إهراق الدم إنها لتأتى يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها وإن
الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع من الأرض فطيبوا بها نفساً)).
ثالثاً: من
الأعمال المستحبة في هذه الأيام العشر: يستحب في هذه الأيام الإكثار من الأعمال
الصالحة ومنها لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من أيام أعظم عند الله - سبحانه
-، ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر))، ومن الأعمال الصالحة التي غفل
عنها بعض الناس: قراءة القرآن وكثرة الصدقة، والإنفاق على المساكين، والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر وغيرها، ومنها المحافظة على الصلاة: فيستحب التبكير إلى الفرائض
والمسارعة إلى الصف الأول، والإكثار من النوافل، فإنها من أفضل القربات، وذلك لما
أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن ثوبان- رضي الله عنه- قال سمعت رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - يقول: ((عليك بكثرة السجود لله فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك
الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة))، وهذا الحديث عام في كل وقت لا سيما في هذه
الأوقات والأزمنة الفاضلة التي يضاعف فيها أجر وثواب العمل الصالح، وأخرج مسلم في
صحيحه عن ربيعة بن كعب الأسلمي - رضي الله عنه -، قال: كنت أبيت مع رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: ((سل)) فقلت: أسألك مرافقتك
في الجنة. قال: ((أو غير ذلك)) قلت: هو ذاك. قال: ((فأعني على نفسك بكثرة السجود))،
ومن الأعمال المستحبة في هذه الأيام العشر الصيام لدخوله في الأعمال الصالحة، فعن
هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالت:
"كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء،
وثلاثة أيام من كل شهر" [رواه الإمام احمد وأبو داود والنسائي]. قال الإمام
النووي - رحمه الله - عن صوم أيام العشر: "انه مستحب استحبابا شديداً "،
وقال - رحمه الله -: وثبت في صحيح البخاري: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال: ((ما من أيام العمل الصالح فيها أفضل منه في هذه)) - يعني: العشر الأوائل من
ذي الحجة - فيتأول قولها: لم يصم العشر، أنه لم يصمه لعارض مرض أو سفر أو غيرهما،
أو أنها لم تره صائما فيه، ولا يلزم عن ذلك عدم صيامه في نفس الأمر، ويدل على هذا
التأويل حديث هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -
قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء،
وثلاثة أيام من كل شهر: الاثنين من الشهر والخميس"[ورواه أبو داود وهذا لفظه
وأحمد والنسائي، شرح النووي على مسلم: 8/71 وما بعدها)]، والصيام عبادة عظيمة دلنا
عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث كثيرة وبين أن صيام اليوم في سبيل
الله ثوابه عظيم، فما بالنا بالصيام والتقرب إلى الله بهذه العبادة في هذه الأيام
المباركة، ومن هذه الأحاديث ما أخرجه ابن ماجة في سننه عن أبي هريرة -رضي الله
عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من صام يوماً في سبيل الله زحزح الله
وجهه عن النار بذلك اليوم سبعين خريفاً))، وأخرج الترمذي في سننه عن أبي أمامة
-رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: ((من صام يوماً في سبيل الله
جعل الله بينه وبين النار خندقاً كما بين السماء والأرض))، وأخرج النسائي في سننه عن
عقبة بن عامر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من صام
يوماً في سبيل الله باعد الله منه جهنم مسيرة مائة عام))، ومن الأعمال المستحبة في
هذه الأيام أداء الحج والعمرة فقد أخرج
الإمام الترمذي في سننه عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-: ((تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير
خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة)). قال الإمام
المناوي -رحمه الله-: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((تابعوا بين الحج والعمرة))
أي ائتوا بكل منهما عقب الآخر بحيث يظهر الاهتمام بهما وإن تخلل بينهما زمن قليل:
(فإنهما ينفيان الفقر والذنوب) لخاصية علمها الشارع أو لان الغنى الأعظم هو الغني
بطاعة الله (كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة) مثل بذلك تحقيقاً للانتفاء
(وليس للحجة المبرورة) أي المقبولة أو التي لا يشوبها إثم (ثواب إلا الجنة) أي لا
يقتصر لصاحبها من الجزاء على تكفير بعض ذنوبه، بل لا بد من دخوله الجنة [التيسير
بشرح أحاديث الجامع الصغير: 1/798)].
وأخرج
البخاري في صحيحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من حج لله فلم يرفث ولم
يفسق خرج كيوم ولدته أمه))، ومن الأعمال المستحبة أيضاً التكبير والتهليل والتحميد،
وذلك لما أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي -
صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما من أيام أعظم ولا أحب إليه العمل فيهن عند الله من
هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد)). قال الإمام البخاري-
يرحمه الله -: " كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما- يخرجان إلى السوق في
أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما"، وقال أيضاً: "وكان عمر يكبر
في قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون ويكبر أهل السوق حتى ترتج منى
تكبيرا"، وكان ابن عمر- رضي الله عنهما-: يكبر بمنى تلك الأيام وخلف الصلوات
وعلى فراشه، وفي فسطاطه، ومجلسه، وممشاه تلك الأيام جميعا.
والمستحب:
الجهر بالتكبير للرجال لفعل عمر وابنه وأبي هريرة - رضي الله عنهما -، والنساء
يكبرن ولكن تخفض الصوت، لما جاء" عن أم عطية - رضي الله عنها - قالت: "
كنا نؤمر أن نخرج يوم العيد حتى نخرج البكر من خدرها، حتى نخرج الحيض، فيكن خلف
الناس، فيكبرن بتكبيرهم، ويدعون بدعائهم يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته "رواه
البخاري ومسلم.
والتكبير
نوعان مطلق ومقيد: جاء في فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء: "يشرع في عيد الأضحى
التكبير المطلق، والمقيد، فالتكبير المطلق في جميع الأوقات من أول دخول شهر ذي
الحجة إلى آخر أيام التشريق، وأما التكبير المقيد فيكون في أدبار الصلوات المفروضة
من صلاة الصبح يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق، وقد دل على مشروعية
ذلك الإجماع، وفعل الصحابة - رضي الله عنهم - "[فتاوى اللجنة الدائمة:
8/312)].
ومن
الأعمال المستحبة في هذه الأيام الأضحية: والأضحية من أفضل الأعمال التي يتقرب بها
المسلم في يوم النحر، وأيام التشريق الثلاث، وذلك لما أخرجه الترمذي في سننه عن
عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: ((ما عمل آدمي من عمل يوم النحر
أحب إلى الله من إهراق الدم إنها لتأتى يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها وإن
الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع من الأرض فطيبوا بها نفساً))، والأضحية سنة
مؤكدة فعلها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحث على فعلها، وهي شعيرة عظيمة من
شعائر الدين الإسلامي الحنيف، قال - تعالى -: (لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا
وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ
لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) [سورة الحج:
37]، وقال - تعالى -: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ
وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ)[سورة النحر: 1-3]، وأخرج البخاري
ومسلم عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "ضَحَّى النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم -
بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ، وَسَمَّى
وَكَبَّرَ وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا"، ويستحب لمن أراد أن يضحى
أن ألا يأخذ من شعره وأظفاره شيئاً إذا دخلت العشر الأول من ذي الحجة حتى يضحى،
وذلك لما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أم سلمة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى
الله عليه وسلم - قال: ((إذا دخلت العشر، وأراد أحدكم أن يضحي، فلا يمس من شعره
وبشره شيئا)). قال الإمام النووي - رحمه الله -: والمراد بالنهى عن أخذ الظفر
والشعر النهى عن إزالة الظفر بقلم أو كسر أو غيره والمنع من إزالة الشعر بحلق أو
تقصير أو نتف أو إحراق أو أخذه بنورة أو غير ذلك وسواء شعر الإبط والشارب والعانة
والرأس وغير ذلك من شعور بدنه[شرح النووي على مسلم: 13/138 وما بعدها)].ثم قال
-رحمه الله-: "والحكمة في النهى أن يبقى كامل الأجزاء ليعتق من النار، وقيل:
التشبه بالمحرم قال أصحابنا: هذا غلط؛ لأنه لا يعتزل النساء، ولا يترك الطيب
واللباس، وغير ذلك مما يتركه المحرم[شرح النووي على مسلم: 13/139)].
كانت هذه
بعض فضائل هذه الأيام العشر الأول من ذي الحجة، وما يستحب في هذه الأيام المباركة
من أعمال صالحة يتزود بها المسلم من طاعة ربه -تبارك وتعالى-.
نسأل الله
-تعالى- أن يوفقنا وإياكم لاغتنام هذه الأيام المباركة في طاعته، وأن يتقبل منا
ومنكم صالح الأعمال اللهم آمين.
د/ أحمد عرفة
باحث دكتوراه بجامعة الأزهر
عضو الجمعية الفقهية السعودية
Ahmedarafa11@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق