الأربعاء، 15 يونيو 2011

أثر علم أصول الفقه في تحقيق التميز في الدراسات الفقهية المعاصرة


أثر علم أصول الفقه في تحقيق التميز في الدراسات الفقهية المعاصرة 
? . بقلم أحمد بن عبدالله بن محمد الضويحي عضو هيئة تدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود

الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين , نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين ،أما بعد :-
فهذه ورقة عمل عنوانها : (أثر علم أصول الفقه في تحقيق التميز في البحوث الفقهية المعاصرة ). 
وهو موضوع بالغ الأهمية، نظراً لأن التميز هدفٌُ ينشده كافة الباحثين , وسمة لا بد أن تتحقق في كافة البحوث - خصوصاً البحوث الفقهية المعاصرة - ، وبما أن أثر علم أصول الفقه في تحقيقه يظهر في جانبين , جانب المنهج، وجانب المحتوى أو المادة العلمية , فستكون ورقتي هذه في أثر علم الأصول في تحقيق التميز في جانب المحتوى والمادة العلمية للبحث  .
وسأبدأ من سؤال مستحق لا أشك أنه يدور في خلد الجميع، وهو:
 ما العلاقة بين أصول الفقه والتميز ؟
 وإجابة على هذا السؤال أقول:
لا أظن أنني سأجد مثل هذه الفرصة للثناء على العلم الذي نشرف جميعاً بالانتساب إليه , خصوصاً وأن التهم تكال إليه من كل جانب , فمن رامٍ له بالجمود والصعوبة , إلى لامزٍ لأعلامه، إلى درجة التطاول على  إمامه , والناس كما قيل : أعداء لما جهلوا .
 وبما أن شهادتي في هذا العلم مجروحة ، فسأكون مجرد ناقلٍ لأقوال بعض العلماء في أهميته، وتميزه عن بقية علوم الإسلام .
وقد استوقفتني في هذا السياق عبارة ابن خلدون في مقدمته , حيث خصه – وهو المحايد ـ من بين سائر العلوم بديباجة من الثناء قبل إن يعرفه فقال : " اعلم أن أصول الفقه من أعظم العلوم  الشرعية وأجلها قدراً وأكثرها فائدة " ، في حين أنه كان يدخل في تعاريف  العلوم الأخرى مباشرة .
 وكان قد أشار إلى وظيفة  هذا العلم حين قال : " لا بد في استنباط هذه الأحكام من أصولها من وجه قانوني يفيد العلم بكيفية هذا الاستنباط , وهذا هو أصول الفقه ".
والشافعي حين صنف الرسالة كان من أهم مقاصده من تأليفها : ضبط عملية الاجتهاد، ووضع القوانين التي تنظم النظر في الأدلة بهدف استنباط الأحكام.
 فصارت قواعد هذا العلم هي الأساس  الذي يعتمد عليه في الاجتهاد، ولهذا يقول ابن دقيق العيد رحمه الله : (( أصول الفقه هو الذي يقضي ولا يقضى عليه  )).
ويعود السر في هذا إلى أن أصول الفقه هو العلم الذي يؤسس لاستعمال العقل في الشرع , أو لنقل باللغة الشائعة  : هو القانون الذي ينظم  استثمار العقول في قضايا الشرع .
يقول الغزالي رحمه الله " وأشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع واصطحب فيه الرأي والشرع وعلم الفقه وأصوله من هذا القبيل، فإنه يأخذ من صفو الشرع والعقل سواء السبيل , فلا هو تصرف بمحض العقول  بحيث لا يتلقاه  الشرع بالقبول، ولا هو مبنى على محض التقليد الذي لا يشهد له العقل بالتأييد والتسديد ".
ويقول الشوكاني : " فإن علم أصول الفقه لما كان هو العلم الذي يأوي إليه الأعلام , والملجأ الذي يُلجأ إليه عند تحرير المسائل وتقرير الدلائل في غالب الأحكام , وكانت مسائله المقررة وقواعده المحررة تؤخذ مسلمة عند كثير من الناظرين كما تراه في مباحث الباحثين وتصنيف المصنفين , فإن أحدهم إذا استشهد لما قاله بكلمة من كلام أهل الأصول أذعن له المنازعون وإن كانوا من الفحول لاعتقادهم أن مسائل هذا الفن قواعد مؤسسة على الحق الحقيق بالقبول، مربوطة بأدلة علمية من المعقول والمنقول ,  تقصر عن القدح في شيء منها أيدي الفحول ، وإن تبالغت في الطول " .
وليس في كلام الشوكاني هذا أدنى مبالغة لأنه يعنى به تلك القواعد السمعية والعقلية واللغوية المجردة التي استنفر الأصوليون  عقولهم , واستنفذوا أوقاتهم , ومداد كلماتهم، لضبطها وتأصيلها ،حتى غدت من المسلمات القطعية , وهذا هو شأن العلوم التي تعنى بفلسفة الديانات و أصول التشريعات، كأصول القانون مثلاً .
ولأجل هذا المعنى فإن العلم بأصول الفقه , وارتياد كتبه , ومعرفة مناهج أربابه يضفي على طالب العلم تميزاً ظاهراً في كل ما يطرحه شفاهة، أو كتابة، في المنهج ، والمضمون .
ولعل هذا هو السر في وصف الإمام أحمد لرائد هذا العلم الإمام الشافعي بقوله : الشافعي  فيلسوف في أربعة أشياء : في اللغة , واختلاف الناس , والمعاني , والفقه  ".
 وقد أسهب الأستاذ مصطفى عبد الرازق في الحديث عن مظاهر التفكير الفلسفي عند الشافعي كالعناية بضبط الفروع والجزئيات بقواعد عامة , واعتماد الاتجاه المنطقي في البدء بالحدود والتعاريف ،ثم الأخذ بالتقسيم مع التمثيل والاستشهاد لكل قسم ,،،، ثم قال : " ومنها أسلوبه الجدلي المشبع بصور المنطق ومعانيه حتى لتكاد تحسبه لما فيه من دقة  البحث ولطف الفهم وحسن التصرف في الاستدلال والنقض ومراعاة النظام المنطقي حواراً فلسفياً على رغم  اعتماده على النقل أولاً ، وبالذات، واتصاله بأمور شرعية خالصة " .
وبما أن هذه الورقة متمحضة في بيان أثر هذا العلم في تحقيق التميز في الدراسات الفقهية المعاصرة في جانب المحتوى والمضمون ، فسأجعل الكلام فيها على وفق العناصر الآتية :
1-   أثر علم الأصول في تحقيق التميز في اختيار موضوع البحث .
2-   أثره في تحقيق التميز والدقة في التعبير عن المراد.
3-   أثره في تحقيق التميز في الاستدلال .
4-   أثره في تحقيق التميز في المناقشة ونقد الأدلة .
5-   أثر ه في تحقيق في الترجيح .
6-   أثره في تحقيق التميز في تخريج أحكام النوازل.
أولاً: أثره في تحقيق التميز في اختيار موضوع البحث :
 يلاحظ على كثير من الباحثين الذين تصدوا لدراسة بعض المسائل الفقهية عدم التنبه لفقه الأولويات , وتقديم الأهم على المهم  , فربما نجد أحدهم يذهب وقته وجهده في دراسة مسألة لا تمس إليها الحاجة، فضلاً عن الضرورة مع أن هذا العصر يشهد تسارعاً مذهلاً في النوازل التي  يحتاجها الناس , بل قد يكون بعضها من قبيل الضروريات .
ويعود هذا الخلل في اختيار موضوع البحث في ظني إلى الجهل بفقه الأولويات , وهو الأمر الذي يمكن أن يكتسبه الباحث من هذا العلم ، أعني أصول الفقه، من خلال ملاحظة طريقة الأصوليين في ترتيب الأوامر إلي واجبات ومندوبات ،والنواهي إلى محرمات ومكروهات , وطريقتهم في تقسيم مقاصد الشريعة بحسب مراتبها إلى الضروريات ،والحاجيات ،والتحسينيات , وما أدخلوه من الأبواب الفقهية في كل مرتبة , وما يعد مقصداً أصلياً ، أو تابعاً ، أو مكملاً .
كما يمكنه أن يكتسب هذا الأمر من خلال ملاحظته لمنهجهم في دراسة المسائل، وترتيب الأدلة ،وترتيب الدلالات , وترتيب الأنواع , والأقسام , فهم غالباً يعتمدون المنهج القائم  على تقديم الأهم على المهم , والقطعي على الظني , والأصلي على التابع  . 
ثانياً: أثره في تحقيق التميز والدقة في التعبير عن المراد :
العلم بأصول الفقه يكسب الباحث ملكة الدقة في التعبير عن مراده، والتميز في صياغة المادة العلمية بالأسلوب العلمي الصحيح والمباشر، من دون مبالغة، أو إجمال ، أو إبهام , وذلك لأن الأصوليين من أبرع الناس في هذا الجانب ، فلا يخفى على المنصف ذلك الجهد الجبار الذي بذله علماء هذا الفن في ضبط المصطلحات المتعلقة بالأحكام ، والأدلة، والدلالات , والتمييز بين حقائقها , بالحدود , والأمثلة , والفروق , وتحرير محل النزاع في المشكل والملتبس منها . 
وإضافة إلى هذا فدلالات الألفاظ  تشكل جزءً لا يستهان به من مادة هذا العلم , وإتقان هذه الدلالات يمكن الباحث من التعبير الصحيح، والمناسب، سواء في نسبة الأقوال، أوفي صياغة الأدلة ،وبيان وجه الاستدلال منها .
والناظر في بعض البحوث الفقهية المعاصرة يلاحظ شيئاً من عدم الدقة في الفهم ،أو في التعبير , ولو كان الباحث متمكناً من أبواب العموم والخصوص، والإجمال والبيان , والإطلاق والتقييد , والأمر والنهي , والحقيقة والمجاز ,والمنطوق والمفهوم , ونحوها من دلالات الألفاظ لتجنب الوقوع في مثل هذه الأخطاء .
ثالثاً: أثره في تحقيق التميز في الاستدلال :
لا بد قبل بيان هذا الأثر من التنبيه إلى أن المراد بالاستدلال هنا :( معناه العام) وهو الاحتجاج عموماً , أو: إقامة الأدلة السمعية أو العقلية على المسألة الفقهية , وليس المراد به المعنى الخاص في اصطلاح الأصوليين وهو : "  ما ليس بنص ولا إجماع ولا قياس " .
وفي هذا الإطار أقول :   
لا يخفي على الجميع أن أصول الفقه – بغض النظر عن واقع مؤلفاته – هو أدلة الفقه , فالأدلة كما هو معلوم هي موضوعه الأصلي، بحسب رأي أكثر علمائه من المتقدمين والمتأخرين .
 ومن هنا صرف الأصوليون جل جهدهم ومدادهم في حصر الأدلة بأنواعها المختلفة، السمعية منها، والعقلية، وبينوا ضوابط الاحتجاج بها, وكيفية استثمار الأحكام منها , فكفوا الفقهاء عناء البحث في ما يصلح للاحتجاج، ومالا يصلح , ورتبوا لهم طريقة الاستدلال بوجوهه المختلفة , ويظهر أثر علم أصول الفقه في تحقيق التميز في البحوث الفقهية المعاصرة في هذا الجانب من وجوه :
الأول : ترتيب الأدلة , يقول الشافعي -  في كيفية البحث عن حكم الواقعة - : " إذا وقعت الواقعة فأحوج المجتهد إلي طلب الحكم فيها , فينظر أولاً في نصوص الكتاب , فان وجد مسلكاً دالاً على الحكم فهو المراد , وإن أعوزه انحدر إلى نصوص الأخبار المتواترة فإن وجده  وإلا  انحط إلى نصوص أخبار الآحاد ,،،،إلى أن قال رحمه الله : (( فإن عدم المطلوب في هذه الدرجات لم يخض في القياس بعد , ولكن ينظر في كليات الشريعة ومصالحها العامة ))
فمن ينشد التميز في الاستدلال فلا بد له من مراعاة القواعد التي حررها الأصوليون في ترتيب الأدلة، ويسير على وفقها .
الثاني : ضبط الاستدلال بالنصوص , و هذه المهارة يمكن أن يكتسبها الباحث في القضايا الفقهية المعاصرة من خلال استيعاب ما قرره علماء هذا الفن في باب ضبط الاجتهاد في النص وما يتعلق بذلك من تحقيق المناط ، و تنزيل الدليل على محله ، مع المعرفة العميقة بدلالات الألفاظ  بأنواعها المختلفة، وضوابط الاستدلال بالإجماع.
 ونحن نلاحظ كثرة الخلل في هذا الجانب، ويظهر هذا بوضوح من خلال ما نراه من ليّ أعناق النصوص ، والتعسف والتكلف في الاستدلال، أو تحميل الدليل ما لا يحتمل، والتساهل في ادعاء الإجماع، مع أن هذا الأمر في غاية الخطورة .
الثالث : معرفة العلاقة بين الأدلة الجزئية الخاصة بالمسألة الفقهية التي يستهدفها البحث من أجل التوصل إلى الحكم الصحيح , فإن هذا الأمر لا يمكن أن يتم على وجهه الصحيح إلا لمن استوعب القواعد الأصولية المتعلقة بالعلاقة بين الأدلة الإجمالية , وما حرره علماء الأصول من الأحكام المتعلقة بالبيان، والنسخ ،والزيادة ،والتخصيص ،والتقييد , فالباحث المتميز هو الذي يعرف منزلة السنة من القرآن، وأوجه بيانها له, وموقع القياس من النص , وحكم الاحتجاج بالمصلحة إذا عارضت نصاً , ومتى يعدل عن القياس إلى الاستحسان ،وهكذا .
الرابع : ضبط الاستدلال بالأدلة الاجتهادية :
المعرفة بأصول الفقه تجعل الباحث متمكناً من إدراك الفرق بين الأحكام التي يجوز الاجتهاد فيها والأحكام التي لا مجال فيها للاجتهاد , وآليات الاجتهاد عند عدم النص ، وذلك لأن هذا العلم هو الذي يرسم خارطة الطريق في استنباط أحكام النوازل ، وهو الذي يحدد وسائل الاجتهاد فيها , والمنهج الصحيح الواجب اتباعه في كل وسيلة من هذه الوسائل .
فإن رام الباحث الاستدلال بالقياس ، فالأصوليون هم أرباب هذا الدليل ومنظروه , وكل قياس لا يخرج من مشكاتهم فليس بقياس صحيح ، كيف وهم الذين ضبطوا حقيقته، وأركانه، وشروطه , وأنواعه , وكيفية الاحتجاج  به , وأهم القوادح التي يمكن أن ترد عليه , وكيفية السلامة منها , وهم كذلك من ضبط التعليل، ورتب مسائله وفق تسلسل منطقي يدل على سعة العقول، وصفاء الأذهان , والوقوف على ما حرروه في هذا الشأن يكسب الناظر         – بالإضافة إلى المعرفة – مهارة التفكير المنظم , والمنهج المنطقي في التوصل إلى النتائج بواسطة العقل فيما يمكن أن يوكل إليه، ولعل إبداعاتهم العقلية في مسالك العلة , والسبر والتقسيم، ودليل الاستقراء، وقوادح القياس خير شاهد على هذا الأمر , وأحسب أنهم في هذه القضايا وغيرها قد سبقوا أرباب مدارس التفكير الحديثة فيما بات يعرف الآن بالعصف الذهني ,  ونحوه.
وإن كان الباحث يريد الاستدلال الصحيح بالمصلحة، أو الاعتماد على ما يعرف بالاجتهاد المقاصدي فلا غنى له عما قرره الأصوليون في هذه الأبواب من ضوابط الاحتجاج بالمصلحة , وآليات النظر في المقاصد , وكيفية الموازنة بينها وبين الأدلة الجزئية الخاصة , فالأصوليون هم الذين وضعوا الحد الفاصل بين تحكيم الرأي والهوى - الذي يمكن أن يمارس باسم إعمال المقاصد- وبين الاجتهاد المقاصدي الصحيح القائم على النظر في الكليات مع الموازنة بينها وبين الأدلة الجزئية الخاصة , وهذا الأمر- بالمناسبة- يعد مركباً عسيراً وطريقاً وعرة، ولذا سماه شيخ الإسلام :(خاصة الفقه) .
وهكذا الحال إن رام الباحث الاحتجاج بالقواعد الفقهية , أو التمسك بالأدلة المختلف فيها , أو استعمال الأدلة العقلية الأخرى،  فإنه حتماً لن  يقارب الصواب – فضلاً عن أن يكون متميزاً – مالم يكن متمكنا من المادة الأصولية المتعلقة بهذا الضرب من الاستدلال .    
رابعاً: أثره في تحقيق التميز في المناقشة ونقد الأدلة :
القدح في الاستدلال ومناقشة الدليل ليسا مجرد حكم إنشائي يعنّ للباحث , أو فكرة معينة تخطر على باله تجاه الدليل , بل هما فن دقيق يقوم على أسس ومباديء حددها علماء الأصول، وبينوها غاية البيان .
فالاعتراضات الواردة على الاستدلال بالأدلة السمعية والعقلية أنواع متعددة، منها ما يعم كافة الأدلة , ومنها ما يختص بدليل بعينه ولا يرد على غيره , فهناك اعتراضات ترد على الاستدلال بالكتاب , وأخرى ترد على الاستدلال بالسنة , وثالثة ترد على الاستدلال بالإجماع , ورابعة ترد على الاستدلال بالقياس .
 وبغض النظر عن كون القوادح من صميم هذا العلم، أو أنها من قضايا علم الجدل - كما يرى الغزالي وغيره - فإن الأصوليين قديماً وحديثاً مازالوا يفردون لها مباحث خاصة من كتبهم , بل ربما كان بيانهم لها، والتمثيل عليها – وهم الذين تصدوا لخدمة الأدلة – أكثر من بيان علماء الجدل أنفسهم، ومن القوادح ما يتجاوز الدليل إلى الدلالة فيحتاج معه الباحث إلى المعرفة بوجوه الدلالات , وأنواعها , ومراتبها , وهو الأمر الذي لا يمكن أن يكتسب من غير أصول الفقه .
وبالمقابل فإن نقد المناقشة , والجواب عن الاعتراض , ودعوى سلامة الدليل لا يغني فيها مجرد التحكم ، أو السفسطة، بل لها أدواتها ووسائلها التي جرى الاصطلاح عليها , ولا يمكن  أن يسلم الدليل من المناقشة ما لم يكن الباحث عارفاً بهذه الأدوات، ومتقناً لها .

خامساً : أثر ه في تحقيق التميز في الموازنة و الترجيح  :
الباحث المتميز هو الذي يحترم عقل القارئ , ويدرك قدرة الآخرين على التمييز بين الأدلة , فيتجرد عن التعصب ، والاختيارات القائمة على التعسف والتكلف , ويعمد إلى الموازنة بين الأدلة على أساس علمي ومنهجي ، ووفق المعايير التي رسمها الأصوليون في مباحث التعارض والترجيح , فللموازنة أصول وقوانين , وللترجيح بين الأدلة السمعية أدوات ووسائل ، بعضها يعود إلى السند، وبعضها يعود إلى المتن , وبعضها  يعود إلى أمر خارجي , وللترجيح بين الأقيسة والمعاني أدوات خاصة، بعضها يتعلق بالأصل، وبعضها يتعلق بالفرع، وبعضها يتعلق بالعلة ، وبعضها يتعلق بأمر خارجي, ولعلماء المقاصد بحث دقيق في الترجيح بين الضروريات  الخمس , وأيها يقدم عند التعارض ؟ ولا يمكن للباحث أن يكون موضوعياً في هذا الباب ما لم يكن متمكنا من هذا الأدوات .
وإذا انتهى الباحث بعد الموازنة بين الأدلة - على وفق هذه المعايير-  إلى قول أو رأي , فلا بد له كذلك من بيان أسباب الترجيح ،ومسوغاته، بأسلوب علمي صحيح ومقنع , مع البعد عن المبالغة في الألفاظ , واختيار التعبير المناسب للمقام , فلا يعبر مثلاً عن الصحيح بالحق ،ولا عن الراجح بالصحيح ،حتى لا يفهم القاريء الحكم بضد هذه الأوصاف على القول المقابل , وعليه كذلك أن يجتنب القطع فيما شأنه الظن , والجزم فيما شأنه الاحتمال , وهكذا..
سادساً: أثره في تحقيق التميز في تخريج أحكام النوازل :
يمكن القول بأن المعرفة بأصول الفقه تسهم بشكل جوهري في تكوين العقل المبدع المتمكن من سعة النظر , والتركيب، والتحليل , والمقارنة،  وإدراك المعاني الجامعة , والإحاطة بالكليات والمقاصد , وهذا العقل ييسر على صاحبه ملاحظة الأشباه والنظائر , ومعرفة الفروق والخصائص , ويجعله من أقدر الناس على تطبيق القواعد , وتحقيق المناط , ورد الفروع إلى الأصول، وتخريج أحكام الحوادث الجديدة .
فالباحث في القضايا الفقهية المعاصرة _ على نور من هذا العلم - لا تشكل عليه المسائل، ولا يعوزه التكييف الفقهي للنازلة , فيمكنه – وقد عرف أدوات الاجتهاد – أن يلجأ إلى قياسها على نظيرها ، إن كان ثمة نظير , أو يلحقها بأصل كلي مجمع عليه - كحفظ الدين , أو النفس , أو العقل , أو المال , أو النسل , أو غيرها - , أو يستنبط حكمها  من خلال النظر في المصالح والمفاسد ,  أو بواسطة الاستصحاب ,  أوسد الذرائع , أو النظر في المآلات ,أو غير ذلك من أنواع الاستدلال المعروفة , أو يخرٍّج حكمها من خلال قاعدة فقهية متفق عليها، كالقواعد الخمس الكبرى ،أو غيرها من القواعد الكلية الثابتة .
وخاتمة القول أن هذا العلم كفيل بتحقيق التميز للباحث في القضايا الفقهية المعاصرة , وذلك لأنه يكسب المرء - بالإضافة إلى الجانب المعرفي- مهارات التصور الصحيح، والترتيب ,والتعليل , والتركيب , فطريقة الأصوليين في ترتيب الأوامر والنواهي , ومراتب مقاصد الشريعة تجعل الإنسان متميزاً في الترتيب والتنظيم وفقه الأولويات , وطريقتهم في النظر إلي العلل والمعاني الجامعة في الأحكام الجزئية الخاصة ،وفي الشريعة عموماً تجعل الإنسان متميزاً في ملاحظة الحِكم والمقاصد العامة , ومنهجهم في ضم الأدلة وملاحظة العلاقة بينها , واستقراء الجزئيات للوصول إلى الكليات، وبناء القواعد الأصولية من مقدمات وقضايا  لغوية أو شرعية أو عقلية - قطعية أو ظنية - تجعل الإنسان متميزاً في التركيب وبناء القواعد والأدلة على وفق الأسس العلمية الصحيحة .
فالأصول بالنسبة للباحث في القضايا الفقهية المعاصرة هو بمثابة المصباح الذي يهتدي به حينما تشكل عليه المسائل , وتدلهم عليه النوازل , وبقدر معرفته به يكون التميز والإبداع .
أسأل الله سبحانه أن يرزقنا - جميعاً - السداد في الأقوال والأعمال، إنه سميع مجيب ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.
الرابط


المصدر : ملتقى المذاهب الفقهية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق