السبت، 10 ديسمبر 2016

فضائل العلم وآدابه (5) د/ أحمد عرفة



فضائل العلم وآدابه (5)
ومن الآداب التي ينبغي على طالب العلم أن يتحلى بها احترام الشيخ وتوقيره، وفي ذلك يقول الإمام علي رضي الله عنه: "من حقّ العالم عليك إذا أتيته أن تسلِّم عليه خاصَّة، وعلى القوم عامّة، وتجلس قُدَّامه، ولا تشِر بيديك، ولا تغمِز بعينَيك، ولا تقُل: قال فلان خلافَ قولك، ولا تأخذ بثوبِه، ولا تُلحَّ عليه في السؤال، فإنّه بمنزلة النخلة المُرطبة التي لا يزال يسقط عليك منها شيء".(جامع بيان العلم وفضله، 1/146 ط/دار الكتب العلمية).
 وقال أيضاً: "إن من حق العالم ألا تكثر عليه بالسؤال، ولا تُعنِّته في الجواب، وألا تُلحَّ عليه إذا كسل، ولا تأخذ بثوبه إذا نهض، ولا تفشينّ له سرًّا، ولا تغتابنّ عنده أحدًا، ولا تطلبنّ عثرته، وإن زلّ قبلت معذرته، وعليك أن توقّره وتعظّمه لله ما دام يحفظ أمر الله، ولا تجلس أمامه، وإن كانت له حاجةٌ سبقت القوم إلى خدمته"(جامع بيان العلم وفضله 1/129).
    "فليكن شيخك محل إجلال منك وإكرام وتقدير وتلطف، فخذ بمجامع الآداب مع شيخك في جلوسك معه، والتحدث إليه، وحسن السؤال والاستماع، وحسن الأدب في تصفح الكتاب أمامه ومع الكتاب، وترك التطاول والمماراة أمامه، وعدم التقدم عليه بكلام أو مسير أو إكثار الكلام عنده، أو مداخلته في حديثه ودرسه بكلام منك، أو الإلحاح عليه في جواب، متجنباً الإكثار من السؤال، ولا سيما مع شهود الملأ، فإن هذا يوجب لك الغرور وله الملل، ولا تناديه باسمه مجرداً...".(حلية طالب العلم، صـ35).
            ولقد ضرب علماء السلف أروع الأمثلة في توقير العلماء، ومن ذلك ما روي عن عَنِ الشَّعْبِيِّ؛ قَالَ: رَكِبَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ، فَأَخَذَ ابْنَ عَبَّاسٍ بِرِكَابِهِ ، فَقَالَ لَهُ: لا تَفْعَلْ يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَالَ : هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ بِعُلَمَائِنَا. فَقَالَ زَيْدٌ: أَرِنِي يَدَكَ. فَأَخْرَجَ يَدَهُ، فَقَبَّلَهَا زَيْدٌ وَقَالَ: هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ بِأَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"(جامع بيان العلم وفضله 1/128)، وكان الإمام الشافعي-رحمه الله-يقول: "كنت أصفح الورقة بين يدي مالك صفحاً رفيقاً هيبة له، لئلا يسمع وقعها".
ومنها: أن يحافظ على وقته: فالوقت هو الحياة، وهو أغلى وأعز ما يملك كما قال الحسن البصري –رحمه الله-: " يا ابن آدم إنما أنت أيام مجموعة إذا مضى يوم ذهب بعضك"، ولما سُل الشعبي –رحمه الله- من أين لك هذا العلم كله؟ قال: بنفي الاعتماد، والسير في البلاد، وبكور كبكور الغراب، وصبر كصبر الحمار"، ونفي الاعتماد، يعني علو همته واعتماده على نفسه، والسير في البلاد: الحركة والسفر لجمع الفوائد من الشيوخ، وصبر كصبر الحمار: يريد شدة التحمل للمتاعب، والحمار أصبر الحيوانات، قالت العرب (أصبرُ من حمار)، وبكور كبكور الغراب: سرعة استغلال الزمان والتبكير فيه من أوله.
 ولقد ضرب علماء السلف أروع الأمثلة في المحافظة على الوقت، ومن ذلك الإمام النووي رحمه الله فقد ذكر أنه كان لا يضيع وقتاً في ليل ولا نهار إلا في وظيفة من الاشتغال بالعلم، حتى في ذهابه في الطريق ومجيئه يشتغل في تكرار محفوظة أو مطالعة، وأنه بقي على التحصيل على هذا الوجه نحو ست سنين قبل اشتغاله بالتصنيف ومجاهدة النفس، وقال ابن الجوزي –رحمه الله:"ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه، وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة، ويقدم الأفضل فالأفضل من القول والعمل، ولتكن نيته في الخير قائمة من غير فتور بما لا يعجز عنه البدن من العمل".(صيد الخاطر، صـ34).
ومنها: التواضع والحذر من الكبر: وفي ذلك يقول أمير المؤمنين  عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (تعلّموا العلم، وتعلّموا له السكينةَ والوقار، وتواضعوا لمن تعلّمون، وليتواضع لكم من تعلِّمون، ولا تكونوا جبابرة العلماء، ولا يقوم علمكم مع جهلكم)، وقال الإمام الشافعي-رحمه الله-: "لا يطلب أحد هذا العلم بالملك وعز النفس فيفلح، ولكن من طلبه بذلّ النفس وضيق العَيش وخدمة العلماء أفلح"(المجموع 1/65).
ومنها: التحلي بمكارم الأخلاق واجتناب الأخلاق السيئة: فقد قالوا: علم بلا أدب كنار بلا حطب، وأدب بلا علم كجسد بلا روح، وكان الليث بن سعد يقول: " أنتم إلى يسير من الأدب أحوج منكم إلى كثير من العلم"، وعن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال: قال لي أبي: "يا بني، ائت الفقهاء والعلماء، وتعلّم منهم، وخذ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم، فإنّ ذاك أحبّ إليّ لك من كثير من الحديث"(الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، صـ1/80 ط/ مكتبة المعارف، الرياض).
وقال ابن جماعة-رحمه الله- في (تذكرة السامع والمتكلم، صـ24): "فالحذر الحذر من هذه الصفات الخبيثة والأخلاق الرذيلة؛ فإنها باب كل شر، بل هي الشر كله، وقد بلي بعض أصحاب النفوس الخبيثة من فقهاء الزمان بكثير من هذه الصفات إلا من عصم الله تعالى، ولا سيما الحسد والعجب والرياء واحتقار الناس، وأدوية هذه البلية مستوفاة في كتب الرقائق، فمن أراد تطهير نفسه منها فعليه بتلك الكتب". والله من وراء القصد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.


                                                                               د/ أحمد عرفة
                                                                        باحث دكتوراه بجامعة الأزهر
                                                                     عضو الجمعية الفقهية السعودية
Ahmedarafa11@yahoo.coM             
نشر هذا المقال بجريدة صوت الأزهر في العدد الصادر بتاريخ 25/11/2016م

فضائل العلم وآدابه (4) د/ أحمد عرفة



فضائل العلم وآدابه(4)
و(الصبر) من الآداب التي ينبغي على طلب العلم أن يتحلى بها، وفي ذلك يقول الإمام النووي –رحمه الله- في وصفه لطالب العلم: "ينبغي أن يكون حريصًا على التعلم، مواظبًا عليه في جميع أوقاته، ليلاً ونهارًا، وسفرًا وحضرًا، ولا يُذهب من أوقاته شيئًا في غير العلم إلا بقدر الضرورة، لأكل ونوم قدرًا لابد له منه ونحوهما، كاستراحة يسيرة لإزالة الملل، وشبه ذلك من الضروريات، وليس بعاقل من أمكنه درجة ورثة الأنبياء ثمَّ فوتها!!"(التبيان في آداب حملة القرآن صـ 50، ط/دار ابن حزم).
فطالبُ العلمِ بحاجة إلى الصبر وتحمل المشقة في سبيل العلم وتحصيله، وفي ذلك يقول الإمام يحيي بن أبي كثير-رحمه الله-: "لا يستطاع العلم براحة الجسم"، والعلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، ولما قيل للشعبي–رحمه الله-: من أين لك هذا العلم كله؟ قال: بنفي الاعتماد، والسير في البلاد، وصبر كصبر الحمار، وبُكور كبكور الغُراب.
 وفي قصة موسى عليه السلام والخضر الكثير من الدروس والعبر لطالب العلم، ومن أعظمها: الصبرُ، قال تعالى: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}(الكهف:66- 69)، فموسى -عليه السلام- لما طلب التعلم، أرشده الخضر إلى أهم ما يلزم طالب العلم ألا وهو الصبر، وفي ذلك يقول الإمام الخطيب البغدادي –رحمه الله-: "قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إَنَّ فِيمَا عَانَاهُ مُوسَى مِنَ الدَّأَبِ وَالسَّفَرِ وَصَبَرَ عَلَيْهِ مِنَ التَّوَاضُعِ وَالْخُضُوعِ لِلْخِضْرِ بَعْدَ مُعَانَاةِ قَصْدِهِ مَعَ مَحِلِّ مُوسَى مِنَ اللَّهِ وَمَوْضِعِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ، وَشَرَفِ نُبُوَّتِهِ دَلَالَةٌ عَلَى ارْتِفَاعِ قَدْرِ الْعِلْمِ، وَعُلُوِّ مَنْزِلَةِ أَهْلِهِ، وَحُسْنِ التَّوَاضُعِ لِمَنْ يَلْتَمِسُ مِنْهُ وَيُؤْخَذُ عَنْهُ، وَلَوِ ارْتَفَعَ عَنِ التَّوَاضُعِ لِمَخْلُوقٍ أَحَدٌ بِارْتِفَاعِ دَرَجَةٍ، وَسُمُوِّ مَنْزِلَةٍ لَسَبَقَ إِلَى ذَلِكَ مُوسَى، فَلَمَّا أَظْهَرَ الْجَدَّ وَالِاجْتِهَادَ، وَالِانْزِعَاجَ عَنِ الْوَطَنِ وَالْحِرْصِ عَنِ الِاسْتِفَادَةِ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِالْحَاجَةِ إِلَى أَنْ يَصِلَ مِنَ الْعِلْمِ إِلَى مَا هُوَ غَائِبٌ عَنْهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهَ لَيْسَ فِي الْخَلْقِ مَنْ يَعْلُو عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، وَلَا يَكْبُرُ عَنْهَا".(الرحلة في طلب الحديث صـ102، ط/دار الكتب العلمية).
 قال قتادة: لو كان أحدٌ يكتفي من العلم بشيء، لاكتفى موسى عليه السلام ولكنه قال: (هل أتبعك على أن تعلمني مما عُلِّمت رشداً)، وقيل لابن المبارك إلى متى تطلب العلم قال: حتى الممات إن شاء الله، وقيل له مرة أخري مثل ذلك فقال: لعل الكلمة التي تنفعني لم أكتبها بعد ذلك.(جامع بيان العلم وفضله 1/95).
 ومن الصبر: القناعةُ بالقليل من الرزق للتفرغ لطلب العلم، وفي ذلك يقول الإمام مالك –رحمه الله-: "إن هذا الأمر لن يُنال حتى يُذاق فيه طعم الفقر، وذكر ما نزل بربيعة من الفقر في طلب العلم حتى باع خشب سقف بيته في طلب العلم، وحتى كان يأكل ما يُلقى على مزابل المدينة من الزبيب وعصارة التمر". (جامع بيان العلم1/97).
والصبرُ على مشقة السفر والرحلة لطلب العلم، وفي ذلك رحل الصحابةُ والتابعين رضي الله عنهم وغيرهم من سلف هذه الأمة وبذلوا في سبيل العلم وتحصيله الغالي والنفيس، ومن ذلك رحلة جابر بن عبد الله رضي الله عنه مسيرة شهر إلى عبد الله بن أُنيس في حديث واحد، وكان سعيد بن المسيب يقول: "إن كنت لأسير الليالي والأيام في طلب الحديث الواحد"، وأخرج البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "والله الذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيمن أُنزلت، ولو أعلم أحداً أعلم منى بكتاب الله تبلُغُه الإبل لركبتُ إليه".
وأخرج الإمام ابن جماعة في (تذكرة السامع والمتكلم صـ104، ط/ مكتبة ابن عباس) أن الإمام الشافعي -رحمه الله- قال: "حق على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار من علمه، والصبر على كل عارضٍ دون طلبه، وإخلاص النية لله تعالى في إدراك علمه نصًا واستنباطًا، والرغبة إلى الله تعالى في العون عليه".
ويقول الإمام ابن هشام النحوي-رحمه الله-:
ومن يصطبرْ للعلم يظفرْ بنيلهِ *** ومن يخطب الحسناءَ يصبرْ على البذلِ.
والله من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل
وللحديث بقية إن شاء الله
د/ أحمد عرفة
باحث دكتوراه بجامعة الأزهر
عضو الجمعية الفقهية السعودية
Ahmedarafa11@yahoo.com
نشر هذا المقال بجريدة صوت الأزهر في العدد الصادر بتاريخ 4/11/2016م

فضائل العلم وآدابه (3) د/ أحمد عرفة



فضائل العلم وآدابه (3)
(والعمل بالعلم) من أعظم الآداب التي ينبغي على طالب العلم أن يتحلى بها فثمرة العلم هي العمل به، فقد قيل: من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم، وفي الأثر عن الشافعي –رحمه الله- "ليس العلم ما حفِظ، العلم ما نفع"، وفي ذلك يقول الإمام الخطيب البغدادي –رحمه الله-" ثُمَّ إِنِّي مُوصِيكَ يَا طَالِبَ الْعِلْمِ بِإِخْلَاصِ النِّيَّةِ فِي طَلَبِهِ ، وَإِجْهَادِ النَّفْسِ عَلَى الْعَمَلِ بِمُوجَبِهِ ، فَإِنَّ الْعِلْمَ شَجَرَةٌ وَالْعَمَلَ ثَمَرَةٌ، وَلَيْسَ يُعَدُّ عَالِمًا مَنْ لَمْ يَكُنْ بِعِلْمِهِ عَامِلًا، وَقِيلَ: الْعِلْمُ وَالِدٌ وَالْعَمَلُ مَوْلُودٌ، وَالْعِلْمُ مَعَ الْعَمَلِ، وَالرِّوَايَةُ مَعَ الدِّرَايَةِ فَلَا تَأْنَسْ بِالْعَمَلِ مَا دُمْتَ مُسْتَوْحِشًا مِنَ الْعِلْمِ، وَلَا تَأْنَسْ بِالْعِلْمِ مَا كُنْتَ مُقَصِّرًا فِي الْعَمَلِ وَلَكِنِ اجْمَعْ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ قَلَّ نَصِيبُكَ مِنْهُمَا، وَمَا شَيْءٌ أَضْعَفُ مِنْ عَالِمٍ تَرَكَ النَّاسُ عِلْمَهُ لِفَسَادِ طَرِيقَتِهِ، وَجَاهِلٍ أَخَذَ النَّاسُ بِجَهْلِهِ لِنَظَرِهِمْ إِلَى عِبَادَتِهِ".(اقتضاء العلم العمل، صـ14ط/ المكتب الإسلامي).
 وكان علي رضي الله عنه يقول:" "يا حملة العلم، اعملوا فإنما العالم من عمل بما علم، ووافق علمه عمله، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيَهم، يخالف عملهم علمهم، ويخالف سريرتهم علانيتهم، يجلسون حِلقاً يباهي بعضهم بعضاً، حتى إنّ الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدَعَه، أولئك لا يصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله تعالى"(جامع بيان العلم وفضله 2/7).
وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن العبد مسئول عن العمل بما يتعلمه، وذلك فيما أخرجه الترمذي في سننه بسند صحيح عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع، عن عمره فيما أفناه، وعن علمه ماذا عمل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه)، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم (اللهم إني أسألك علماً نافعاً)(أخرجه ابن حبان بسند حسن)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول:( اللهم إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا)(رواه مسلم).
وقد ذم ربنا جل وعلا من لا يعمل بعلمه في مواضع كثيرة من القرآن ومنها قوله تعالى:
 { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(البقرة:44)، "والغرض: أن الله تعالى ذمهم على هذا الصنيع، ونبههم على خطئهم في حق أنفسهم، حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه، وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له، بل على تركهم له، فإن الأمر بالمعروف معروف وهو واجب على العالم، ولكن الواجب والأولى بالعالم أن يفعله مع من يأمرهم به ولا يتخلف عنهم"(تفسير ابن كثير 1/110ط/ دار الفكر).
وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من التخلف عن العمل بالعلم وبيّن أن في ذلك العذاب الشديد في الآخرة، وذلك فيما أخرجه البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يُجَاءُ بِرَجُلٍ فَيُطْرَحُ فِي النَّارِ فَيَطْحَنُ فِيهَا كَطَحْنِ الْحِمَارِ بِرَحَاهُ فَيُطِيفُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ أَيْ فُلَانُ أَلَسْتَ كُنْتَ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ فَيَقُولُ إِنِّي كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا أَفْعَلُهُ وَأَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَأَفْعَلُهُ"، وذكر الإمام ابن القيم –رحمه الله- أن من أسباب حرمان العلم عدم العمل به، حيث قال في(مفتاح دار السعادة 1/172ط/ دار الكتب العلمية):" السادس: عدم العمل به، فإن العمل به يوجب تذكره وتدبره ومراعاته والنظر فيه، فإذا أهمل العمل به نسيه. قال بعض السلف: كنا نستعين على حفظ العلم بالعمل به، وقال بعض السلف أيضاً: العلم يهتف بالعمل فإن أجابه حل وإلا ارتحل، فالعمل به من أعظم أسباب حفظه وثباته، وترك العمل به أضاعة له، فما استدر العلم ولا استجلب بمثل العمل".
            والانتفاع بالعلم على قسمين: نفع لازم وهو أنه يعمل بعلمه في نفسه من تصحيح العقيدة، والقيام بالعبادات القلبية من الخشية والتوكل والإنابة والمحبة والرجاء، وعبادات الجوارح من الصلاة والصيام والزكاة والحج وغير ذلك، ثم عليه مع ذلك تصحيح معاملاته والكف عن المحرمات والمشتبهات.
ونفع متعدٍ أي يتعدى نفعه إلى غيره من الناس فيعمل بعلمه في الناس، وذلك بنشره في الناس، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدع بالحق، ووقف علمه وكتبه لله تعالى بعد موته، لينتفع الناس وطلاب العلم به، فيجرى عليه ثواب ذلك.
ومن خلال ما سبق يتبين لنا أن العلم النافع والعمل الصالح هما مفتاح السعادة، وأساس النجاة للعبد في الدنيا والآخرة، ومن رزقه الله علماً نافعاً ووفقه لعمل الصالح؛ فقد حاز الخير، وحظي بسعادة الدارين، قال تعالى:{ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(النحل:97).
والله من وراء القصد، وللحديث بقية إن شاء الله.

                                                                            د/ أحمد عرفة
باحث دكتوراه بجامعة الأزهر
عضو الجمعية الفقهية السعودية
Ahmedarafa11@yahoo.com

نشر هذا المقال بجريدة صوت الأزهر في العدد الصادر بتاريخ 21/10/2016م.

فضائل العلم وآدابه (2) د/ أحمد عرفة



فضائل العلم وآدابه (2)
لقد بينتُ في المقال السابق بعضَ فضائلِ العلم، ومكانةَ العلماء من خلال القرآن والسنة ووصايا السلف الصالح، ونستكملُ في هذا المقالِ الحديثَ حولَ الآداب التي ينبغي على طالب العلم أن يتحلى بها، ومنها:
الإخلاص: فأولُ أدبٍ على طالب العلم هو: أن يصحح نيته في الطلب، وأن يجعلها خالصةً لله تعالى، فالإخلاصُ هو أساسُ قبول الطاعات، وطلبُ العلمِ من أفضل الطاعات والقربات، ولذلك نجدُ بعضَ السلف يقول: لا شيء يعدل ثواب طلب العلم إذا صحت فيه النية، ويؤكد سفيان الثوري هذا المعنى قائلا": ما عالجت شيئاً أشد عليَّ من نيتي، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه سبحانه، إذ يقول في الحديث الذي أخرجه النسائي في سننه بسند حسن عن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله تعالى لا يقبلُ من العمل إلا ما كان له خالصاً، وابتغي به وجهه"، فتكون النية في الطلب لنفع نفسه بالعلم أولاً ثم بنشره وتعليمه لا أن يحرصَ على العلم من أجل أن ينالَ شهادةً جامعيةً أو منصباً من المناصب أو ليصرفَ وجوهَ الناسِ إليه، ولكي يشارَ إليه بأنه العالمُ فلان أو القارئ فلان أو الباحثُ كذا وكذا وغير ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حذرنا من ذلك، وذلك فيما أخرجه ابن ماجة في سننه بسند صحيح  عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من طَلَبَ العلم ليماري به السفهاء، أو ليباهي به العلماء، أو ليصرف وجوه الناس إليه، فهو في النار"، وبيّن لنا أيضاً أن أول من تسعر بهم النار ثلاثة، وذلك فيما أخرجه النسائي في سننه بسند صحيح  عن سليمان بن يسار، قال: تفرق الناس عن أبي هريرة، فقال له قائل من أهل الشام: أيها الشيخ، حدثني حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: نعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" أول الناس يقضى لهم يوم القيامة ثلاثة : رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها ؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت ليقال فلان جريء، فقد قيل، ثم أمر به، فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها ؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال قارئ، فقد قيل ، ثم أمر به، فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه، فعرفها، فقال: ما عملت فيها ؟ قال: ما تركت من سبيل تحب " قال أبو عبد الرحمن: " ولم أفهم تحب كما أردت أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت ولكن ليقال إنه جواد، فقد قيل، ثم أمر به، فسحب على وجهه، فألقي في النار". فهذه الأعمالُ الصالحةُ الواردة في الحديث من الشهادةِ والصدقةِ وقراءةِ القرآن من أشرف وأفضل الأعمال، ومع ذلك أدَّت بأصحابها إلى النار، وذلك لأنهم لم يُخلِصوا نيتَهم فيها، وإنما كانت رياءً وسمعةً من أجل الدنيا ومدحِ الناس وغيرِ ذلك.
يقول الدكتور/ بكر أبو زيد-رحمه الله- في كتابه (حلية طالب العلم ص10): "وعليه؛ فالتَزِمْ التخلص من كل ما يشوب نيتك في صدق الطلب: كحب الظهور، والتفوق على الأقران، وجعله سلماً لأغراض وأعراض، من جاه، أو مال، أو تعظيم، أو سمعة، أو طلب محمدة، أو صرف وجوه الناس إليك، فإن هذه وأمثالها إذا شابت النية، أفسدتها، وذهبت بركة العلم، ولهذا يتعين عليك أن تحمى نيتك من شوب الإرادة لغير الله تعالى، بل وتحمى الحمى.
فاستمسك رحمك الله تعالى بالعروة الوثقى العاصمة من هذه الشوائب؛ بأن تكون - مع بذل الجهد في الإخلاص - شديد الخوف من نواقضه، عظيم الافتقار والالتجاء إليه سبحانه".
والله من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل، وللحديث بقية إن شاء الله.
د/ أحمد عرفة
باحث دكتوراه بجامعة الأزهر
عضو الجمعية الفقهية السعودية


نشر هذا المقال بجريدة صوت الأزهر في العدد الصادر بتاريخ 14/10/2016م.

فضائل العلم وآدابه (1) د/ أحمد عرفة



فضائل العلم وآدابه
من أعز وأشرف ما صُرفت فيه الأوقات وأنفقت من أجله الأموال طلب العلم الشريف الذي شرف المولى جل وعلا أهله ورفع ذكرهم وأعلى مكانتهم، ومنها أنه جل وعلا استشهد بأهله على أجل مشهود عليه وهو توحيده سبحانه قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا اله إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ اله إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[آل عمران: 18].
ونفي سبحانه التسوية بين أهله وبين غيرهم كما نفى التسوية بين أصحاب الجنة وأصحاب النار فقال سبحانه:(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) [الزمر:9]، ورفع جل وعلا درجات أهل العلم فقال:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11].
وأمر جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم بطلب المزيد منه فقال سبحانه: {وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْماً} [طه:114]. قال الإمام القرطبي رحمه الله: فلو كان شيء أشرف من العلم لأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأله المزيد منه كما أمر أن يستزيده من العلم(تفسير القرطبي 4/40).
ومن فضل العلم وعلو منزلته أن العلم حياة ونور والجهل موت وظلمة ، والشر كله عدم الحياة والنور، والخير كله سببه النور والحياة ؛ فإن النور يكشف عن حقائق الأشياء ويبين مراتبها قال تعالى: (أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)(الأنعام: 122) كان ميتاً بالجهل قلبه فأحياه بالعلم، وجعل له من الإيمان نوراً يمشى به في الناس (مفتاح دار السعادة صـ61).
وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن طلب العلم طريق إلى الجنة، وذلك فيما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبى هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله له به طريقاً إلى الجنة). قوله: طريقاً نكرها، ونكر علماً: ليتناول أنواع الطرق الموصلة إلى تحصيل العلوم الدينية، وليندرج فيه القليل والكثير، وقوله: (سهل الله له طريقاً) أي في الآخرة أو في الدنيا بأن يوفقه للأعمال الصالحة الموصلة إلى الجنة، وفيه بشارة بتسهيل العلم على طالبه؛ لأن طلبه من الطرق الموصلة إلى الجنة.(فتح الباري 1/160).
وبيّن أن العلم ميراث الأنبياء، وذلك فيما أخرجه الترمذي في سننه عن أبى الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورثّوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)، وهذا من أعظم المناقب لأهل العلم فإن الأنبياء خير خلق الله فورثتهم خير الخلق بعدهم ، ولما كان كل موروث ينتقل ميراثه إلى ورثته إذ هم الذين يقومون مقامه من بعده ولم يكن بعد الرسل من يقوم مقامهم في تبليغ ما أرسلوا به إلا العلماء كانوا أحق الناس بميراثهم. (مفتاح دار السعادة صـ73).
وفي الأثر عن معاذ بن جبل رضي الله عنه إمام العلماء وأعلم الأمة بالحلال والحرام في بيان مكانة العلم وأهله حيث قال:" (تعلموا العلم فإن تعلُّمه لله ـ أي مخلصاً به ـ خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه صدقة، وبذله لأهله قربةـ أثمن هدية وهو الأنيس في الوحدة، والصاحب في الخلوة، والدليل على الدين، والنصير في السرَّاء والضراء، والوزير عند الإخلاء, والقريـب عند القرباء، هو منـار سبيل الجنة، يرفـع الله به أقواماً يجعلهم في الخير قادة وسادة، يُقتدى بهم، يدل على الخير، وتقتفى به آثاره، يجعلك مع الملائكة والمُقَرَّبين، يسبِّح لك كل رَطْبٍ ويابس، تستغفر لك حتى الحيتان في البحر، وهوامُّ السِباع في البَر، به يطاع الله عزَّ وجل ـ وبه يُعْبَد الله عزَّ وجل، وبه يوحَّد الله عزَّ وجل، وبه يُمَجَّد الله عزَّ وجل، وبه يتورَّع الإنسان ـ يكون ورعاً ـ وبه توصل الأرحام، وبه يُعرف الحلال والحرام. هو إمام العمل يلهمه السُعداء ويحرم منه الأشقياء"(جامع بيان العلم وفضله صـ115).
وأخرج الدارمي في سننه عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: بلغني أَنَّ لُقْمَانَ الْحَكِيمَ كَانَ يَقُولُ لاِبْنِهِ: "يَا بني لاَ تَعَلَّمِ الْعِلْمَ لِتُبَاهِىَ بِهِ الْعُلَمَاءَ أَوْ لِتُمَارِىَ بِهِ السُّفَهَاءَ أَوْ ترائي بِهِ في الْمَجَالِسِ، وَلاَ تَتْرُكِ الْعِلْمَ زُهْداً فِيهِ وَرَغْبَةً في الْجَهَالَةِ، يَا بني اخْتَرِ الْمَجَالِسَ عَلَى عَيْنِكَ، وَإِذَا رَأَيْتَ قَوْماً يَذْكُرُونَ اللَّهَ فَاجْلِسْ مَعَهُمْ، فَإِنَّكَ إِنْ تَكُنْ عَالِماً يَنْفَعْكَ عِلْمُكَ، وَإِنْ تَكُنْ جَاهِلاً يُعَلِّمُوكَ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِمْ بِرَحْمَةٍ فَيُصِيبَكَ مَعَهُمْ، وَإِذَا رَأَيْتَ قَوْماً لاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ فَلاَ تَجْلِسْ مَعَهُمْ، فَإِنَّكَ إِنْ تَكُنْ عَالِماً لاَ يَنْفَعْكَ عِلْمُكَ، وَإِنْ تَكُنْ جَاهِلاً زَادُوكَ غَيًّا، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِمْ بِعَذَابٍ فَيُصِيبَكَ مَعَهُمْ". وللحديث بقية إن شاء الله.
د/ أحمد عرفة
باحث دكتوراه بجامعة الأزهر
عضو الجمعية الفقهية السعودية
Ahmedarafa11@yahoo.com

نشر هذا المقال بجريدة صوت الأزهر في العدد الصادر بتاريخ 7/10/2016م.