السبت، 10 ديسمبر 2016

فضائل العلم وآدابه (5) د/ أحمد عرفة



فضائل العلم وآدابه (5)
ومن الآداب التي ينبغي على طالب العلم أن يتحلى بها احترام الشيخ وتوقيره، وفي ذلك يقول الإمام علي رضي الله عنه: "من حقّ العالم عليك إذا أتيته أن تسلِّم عليه خاصَّة، وعلى القوم عامّة، وتجلس قُدَّامه، ولا تشِر بيديك، ولا تغمِز بعينَيك، ولا تقُل: قال فلان خلافَ قولك، ولا تأخذ بثوبِه، ولا تُلحَّ عليه في السؤال، فإنّه بمنزلة النخلة المُرطبة التي لا يزال يسقط عليك منها شيء".(جامع بيان العلم وفضله، 1/146 ط/دار الكتب العلمية).
 وقال أيضاً: "إن من حق العالم ألا تكثر عليه بالسؤال، ولا تُعنِّته في الجواب، وألا تُلحَّ عليه إذا كسل، ولا تأخذ بثوبه إذا نهض، ولا تفشينّ له سرًّا، ولا تغتابنّ عنده أحدًا، ولا تطلبنّ عثرته، وإن زلّ قبلت معذرته، وعليك أن توقّره وتعظّمه لله ما دام يحفظ أمر الله، ولا تجلس أمامه، وإن كانت له حاجةٌ سبقت القوم إلى خدمته"(جامع بيان العلم وفضله 1/129).
    "فليكن شيخك محل إجلال منك وإكرام وتقدير وتلطف، فخذ بمجامع الآداب مع شيخك في جلوسك معه، والتحدث إليه، وحسن السؤال والاستماع، وحسن الأدب في تصفح الكتاب أمامه ومع الكتاب، وترك التطاول والمماراة أمامه، وعدم التقدم عليه بكلام أو مسير أو إكثار الكلام عنده، أو مداخلته في حديثه ودرسه بكلام منك، أو الإلحاح عليه في جواب، متجنباً الإكثار من السؤال، ولا سيما مع شهود الملأ، فإن هذا يوجب لك الغرور وله الملل، ولا تناديه باسمه مجرداً...".(حلية طالب العلم، صـ35).
            ولقد ضرب علماء السلف أروع الأمثلة في توقير العلماء، ومن ذلك ما روي عن عَنِ الشَّعْبِيِّ؛ قَالَ: رَكِبَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ، فَأَخَذَ ابْنَ عَبَّاسٍ بِرِكَابِهِ ، فَقَالَ لَهُ: لا تَفْعَلْ يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَالَ : هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ بِعُلَمَائِنَا. فَقَالَ زَيْدٌ: أَرِنِي يَدَكَ. فَأَخْرَجَ يَدَهُ، فَقَبَّلَهَا زَيْدٌ وَقَالَ: هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ بِأَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"(جامع بيان العلم وفضله 1/128)، وكان الإمام الشافعي-رحمه الله-يقول: "كنت أصفح الورقة بين يدي مالك صفحاً رفيقاً هيبة له، لئلا يسمع وقعها".
ومنها: أن يحافظ على وقته: فالوقت هو الحياة، وهو أغلى وأعز ما يملك كما قال الحسن البصري –رحمه الله-: " يا ابن آدم إنما أنت أيام مجموعة إذا مضى يوم ذهب بعضك"، ولما سُل الشعبي –رحمه الله- من أين لك هذا العلم كله؟ قال: بنفي الاعتماد، والسير في البلاد، وبكور كبكور الغراب، وصبر كصبر الحمار"، ونفي الاعتماد، يعني علو همته واعتماده على نفسه، والسير في البلاد: الحركة والسفر لجمع الفوائد من الشيوخ، وصبر كصبر الحمار: يريد شدة التحمل للمتاعب، والحمار أصبر الحيوانات، قالت العرب (أصبرُ من حمار)، وبكور كبكور الغراب: سرعة استغلال الزمان والتبكير فيه من أوله.
 ولقد ضرب علماء السلف أروع الأمثلة في المحافظة على الوقت، ومن ذلك الإمام النووي رحمه الله فقد ذكر أنه كان لا يضيع وقتاً في ليل ولا نهار إلا في وظيفة من الاشتغال بالعلم، حتى في ذهابه في الطريق ومجيئه يشتغل في تكرار محفوظة أو مطالعة، وأنه بقي على التحصيل على هذا الوجه نحو ست سنين قبل اشتغاله بالتصنيف ومجاهدة النفس، وقال ابن الجوزي –رحمه الله:"ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه، وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة، ويقدم الأفضل فالأفضل من القول والعمل، ولتكن نيته في الخير قائمة من غير فتور بما لا يعجز عنه البدن من العمل".(صيد الخاطر، صـ34).
ومنها: التواضع والحذر من الكبر: وفي ذلك يقول أمير المؤمنين  عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (تعلّموا العلم، وتعلّموا له السكينةَ والوقار، وتواضعوا لمن تعلّمون، وليتواضع لكم من تعلِّمون، ولا تكونوا جبابرة العلماء، ولا يقوم علمكم مع جهلكم)، وقال الإمام الشافعي-رحمه الله-: "لا يطلب أحد هذا العلم بالملك وعز النفس فيفلح، ولكن من طلبه بذلّ النفس وضيق العَيش وخدمة العلماء أفلح"(المجموع 1/65).
ومنها: التحلي بمكارم الأخلاق واجتناب الأخلاق السيئة: فقد قالوا: علم بلا أدب كنار بلا حطب، وأدب بلا علم كجسد بلا روح، وكان الليث بن سعد يقول: " أنتم إلى يسير من الأدب أحوج منكم إلى كثير من العلم"، وعن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال: قال لي أبي: "يا بني، ائت الفقهاء والعلماء، وتعلّم منهم، وخذ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم، فإنّ ذاك أحبّ إليّ لك من كثير من الحديث"(الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، صـ1/80 ط/ مكتبة المعارف، الرياض).
وقال ابن جماعة-رحمه الله- في (تذكرة السامع والمتكلم، صـ24): "فالحذر الحذر من هذه الصفات الخبيثة والأخلاق الرذيلة؛ فإنها باب كل شر، بل هي الشر كله، وقد بلي بعض أصحاب النفوس الخبيثة من فقهاء الزمان بكثير من هذه الصفات إلا من عصم الله تعالى، ولا سيما الحسد والعجب والرياء واحتقار الناس، وأدوية هذه البلية مستوفاة في كتب الرقائق، فمن أراد تطهير نفسه منها فعليه بتلك الكتب". والله من وراء القصد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.


                                                                               د/ أحمد عرفة
                                                                        باحث دكتوراه بجامعة الأزهر
                                                                     عضو الجمعية الفقهية السعودية
Ahmedarafa11@yahoo.coM             
نشر هذا المقال بجريدة صوت الأزهر في العدد الصادر بتاريخ 25/11/2016م

فضائل العلم وآدابه (4) د/ أحمد عرفة



فضائل العلم وآدابه(4)
و(الصبر) من الآداب التي ينبغي على طلب العلم أن يتحلى بها، وفي ذلك يقول الإمام النووي –رحمه الله- في وصفه لطالب العلم: "ينبغي أن يكون حريصًا على التعلم، مواظبًا عليه في جميع أوقاته، ليلاً ونهارًا، وسفرًا وحضرًا، ولا يُذهب من أوقاته شيئًا في غير العلم إلا بقدر الضرورة، لأكل ونوم قدرًا لابد له منه ونحوهما، كاستراحة يسيرة لإزالة الملل، وشبه ذلك من الضروريات، وليس بعاقل من أمكنه درجة ورثة الأنبياء ثمَّ فوتها!!"(التبيان في آداب حملة القرآن صـ 50، ط/دار ابن حزم).
فطالبُ العلمِ بحاجة إلى الصبر وتحمل المشقة في سبيل العلم وتحصيله، وفي ذلك يقول الإمام يحيي بن أبي كثير-رحمه الله-: "لا يستطاع العلم براحة الجسم"، والعلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، ولما قيل للشعبي–رحمه الله-: من أين لك هذا العلم كله؟ قال: بنفي الاعتماد، والسير في البلاد، وصبر كصبر الحمار، وبُكور كبكور الغُراب.
 وفي قصة موسى عليه السلام والخضر الكثير من الدروس والعبر لطالب العلم، ومن أعظمها: الصبرُ، قال تعالى: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}(الكهف:66- 69)، فموسى -عليه السلام- لما طلب التعلم، أرشده الخضر إلى أهم ما يلزم طالب العلم ألا وهو الصبر، وفي ذلك يقول الإمام الخطيب البغدادي –رحمه الله-: "قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إَنَّ فِيمَا عَانَاهُ مُوسَى مِنَ الدَّأَبِ وَالسَّفَرِ وَصَبَرَ عَلَيْهِ مِنَ التَّوَاضُعِ وَالْخُضُوعِ لِلْخِضْرِ بَعْدَ مُعَانَاةِ قَصْدِهِ مَعَ مَحِلِّ مُوسَى مِنَ اللَّهِ وَمَوْضِعِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ، وَشَرَفِ نُبُوَّتِهِ دَلَالَةٌ عَلَى ارْتِفَاعِ قَدْرِ الْعِلْمِ، وَعُلُوِّ مَنْزِلَةِ أَهْلِهِ، وَحُسْنِ التَّوَاضُعِ لِمَنْ يَلْتَمِسُ مِنْهُ وَيُؤْخَذُ عَنْهُ، وَلَوِ ارْتَفَعَ عَنِ التَّوَاضُعِ لِمَخْلُوقٍ أَحَدٌ بِارْتِفَاعِ دَرَجَةٍ، وَسُمُوِّ مَنْزِلَةٍ لَسَبَقَ إِلَى ذَلِكَ مُوسَى، فَلَمَّا أَظْهَرَ الْجَدَّ وَالِاجْتِهَادَ، وَالِانْزِعَاجَ عَنِ الْوَطَنِ وَالْحِرْصِ عَنِ الِاسْتِفَادَةِ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِالْحَاجَةِ إِلَى أَنْ يَصِلَ مِنَ الْعِلْمِ إِلَى مَا هُوَ غَائِبٌ عَنْهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهَ لَيْسَ فِي الْخَلْقِ مَنْ يَعْلُو عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، وَلَا يَكْبُرُ عَنْهَا".(الرحلة في طلب الحديث صـ102، ط/دار الكتب العلمية).
 قال قتادة: لو كان أحدٌ يكتفي من العلم بشيء، لاكتفى موسى عليه السلام ولكنه قال: (هل أتبعك على أن تعلمني مما عُلِّمت رشداً)، وقيل لابن المبارك إلى متى تطلب العلم قال: حتى الممات إن شاء الله، وقيل له مرة أخري مثل ذلك فقال: لعل الكلمة التي تنفعني لم أكتبها بعد ذلك.(جامع بيان العلم وفضله 1/95).
 ومن الصبر: القناعةُ بالقليل من الرزق للتفرغ لطلب العلم، وفي ذلك يقول الإمام مالك –رحمه الله-: "إن هذا الأمر لن يُنال حتى يُذاق فيه طعم الفقر، وذكر ما نزل بربيعة من الفقر في طلب العلم حتى باع خشب سقف بيته في طلب العلم، وحتى كان يأكل ما يُلقى على مزابل المدينة من الزبيب وعصارة التمر". (جامع بيان العلم1/97).
والصبرُ على مشقة السفر والرحلة لطلب العلم، وفي ذلك رحل الصحابةُ والتابعين رضي الله عنهم وغيرهم من سلف هذه الأمة وبذلوا في سبيل العلم وتحصيله الغالي والنفيس، ومن ذلك رحلة جابر بن عبد الله رضي الله عنه مسيرة شهر إلى عبد الله بن أُنيس في حديث واحد، وكان سعيد بن المسيب يقول: "إن كنت لأسير الليالي والأيام في طلب الحديث الواحد"، وأخرج البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "والله الذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيمن أُنزلت، ولو أعلم أحداً أعلم منى بكتاب الله تبلُغُه الإبل لركبتُ إليه".
وأخرج الإمام ابن جماعة في (تذكرة السامع والمتكلم صـ104، ط/ مكتبة ابن عباس) أن الإمام الشافعي -رحمه الله- قال: "حق على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار من علمه، والصبر على كل عارضٍ دون طلبه، وإخلاص النية لله تعالى في إدراك علمه نصًا واستنباطًا، والرغبة إلى الله تعالى في العون عليه".
ويقول الإمام ابن هشام النحوي-رحمه الله-:
ومن يصطبرْ للعلم يظفرْ بنيلهِ *** ومن يخطب الحسناءَ يصبرْ على البذلِ.
والله من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل
وللحديث بقية إن شاء الله
د/ أحمد عرفة
باحث دكتوراه بجامعة الأزهر
عضو الجمعية الفقهية السعودية
Ahmedarafa11@yahoo.com
نشر هذا المقال بجريدة صوت الأزهر في العدد الصادر بتاريخ 4/11/2016م

فضائل العلم وآدابه (3) د/ أحمد عرفة



فضائل العلم وآدابه (3)
(والعمل بالعلم) من أعظم الآداب التي ينبغي على طالب العلم أن يتحلى بها فثمرة العلم هي العمل به، فقد قيل: من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم، وفي الأثر عن الشافعي –رحمه الله- "ليس العلم ما حفِظ، العلم ما نفع"، وفي ذلك يقول الإمام الخطيب البغدادي –رحمه الله-" ثُمَّ إِنِّي مُوصِيكَ يَا طَالِبَ الْعِلْمِ بِإِخْلَاصِ النِّيَّةِ فِي طَلَبِهِ ، وَإِجْهَادِ النَّفْسِ عَلَى الْعَمَلِ بِمُوجَبِهِ ، فَإِنَّ الْعِلْمَ شَجَرَةٌ وَالْعَمَلَ ثَمَرَةٌ، وَلَيْسَ يُعَدُّ عَالِمًا مَنْ لَمْ يَكُنْ بِعِلْمِهِ عَامِلًا، وَقِيلَ: الْعِلْمُ وَالِدٌ وَالْعَمَلُ مَوْلُودٌ، وَالْعِلْمُ مَعَ الْعَمَلِ، وَالرِّوَايَةُ مَعَ الدِّرَايَةِ فَلَا تَأْنَسْ بِالْعَمَلِ مَا دُمْتَ مُسْتَوْحِشًا مِنَ الْعِلْمِ، وَلَا تَأْنَسْ بِالْعِلْمِ مَا كُنْتَ مُقَصِّرًا فِي الْعَمَلِ وَلَكِنِ اجْمَعْ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ قَلَّ نَصِيبُكَ مِنْهُمَا، وَمَا شَيْءٌ أَضْعَفُ مِنْ عَالِمٍ تَرَكَ النَّاسُ عِلْمَهُ لِفَسَادِ طَرِيقَتِهِ، وَجَاهِلٍ أَخَذَ النَّاسُ بِجَهْلِهِ لِنَظَرِهِمْ إِلَى عِبَادَتِهِ".(اقتضاء العلم العمل، صـ14ط/ المكتب الإسلامي).
 وكان علي رضي الله عنه يقول:" "يا حملة العلم، اعملوا فإنما العالم من عمل بما علم، ووافق علمه عمله، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيَهم، يخالف عملهم علمهم، ويخالف سريرتهم علانيتهم، يجلسون حِلقاً يباهي بعضهم بعضاً، حتى إنّ الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدَعَه، أولئك لا يصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله تعالى"(جامع بيان العلم وفضله 2/7).
وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن العبد مسئول عن العمل بما يتعلمه، وذلك فيما أخرجه الترمذي في سننه بسند صحيح عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع، عن عمره فيما أفناه، وعن علمه ماذا عمل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه)، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم (اللهم إني أسألك علماً نافعاً)(أخرجه ابن حبان بسند حسن)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول:( اللهم إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا)(رواه مسلم).
وقد ذم ربنا جل وعلا من لا يعمل بعلمه في مواضع كثيرة من القرآن ومنها قوله تعالى:
 { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(البقرة:44)، "والغرض: أن الله تعالى ذمهم على هذا الصنيع، ونبههم على خطئهم في حق أنفسهم، حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه، وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له، بل على تركهم له، فإن الأمر بالمعروف معروف وهو واجب على العالم، ولكن الواجب والأولى بالعالم أن يفعله مع من يأمرهم به ولا يتخلف عنهم"(تفسير ابن كثير 1/110ط/ دار الفكر).
وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من التخلف عن العمل بالعلم وبيّن أن في ذلك العذاب الشديد في الآخرة، وذلك فيما أخرجه البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يُجَاءُ بِرَجُلٍ فَيُطْرَحُ فِي النَّارِ فَيَطْحَنُ فِيهَا كَطَحْنِ الْحِمَارِ بِرَحَاهُ فَيُطِيفُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ أَيْ فُلَانُ أَلَسْتَ كُنْتَ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ فَيَقُولُ إِنِّي كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا أَفْعَلُهُ وَأَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَأَفْعَلُهُ"، وذكر الإمام ابن القيم –رحمه الله- أن من أسباب حرمان العلم عدم العمل به، حيث قال في(مفتاح دار السعادة 1/172ط/ دار الكتب العلمية):" السادس: عدم العمل به، فإن العمل به يوجب تذكره وتدبره ومراعاته والنظر فيه، فإذا أهمل العمل به نسيه. قال بعض السلف: كنا نستعين على حفظ العلم بالعمل به، وقال بعض السلف أيضاً: العلم يهتف بالعمل فإن أجابه حل وإلا ارتحل، فالعمل به من أعظم أسباب حفظه وثباته، وترك العمل به أضاعة له، فما استدر العلم ولا استجلب بمثل العمل".
            والانتفاع بالعلم على قسمين: نفع لازم وهو أنه يعمل بعلمه في نفسه من تصحيح العقيدة، والقيام بالعبادات القلبية من الخشية والتوكل والإنابة والمحبة والرجاء، وعبادات الجوارح من الصلاة والصيام والزكاة والحج وغير ذلك، ثم عليه مع ذلك تصحيح معاملاته والكف عن المحرمات والمشتبهات.
ونفع متعدٍ أي يتعدى نفعه إلى غيره من الناس فيعمل بعلمه في الناس، وذلك بنشره في الناس، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدع بالحق، ووقف علمه وكتبه لله تعالى بعد موته، لينتفع الناس وطلاب العلم به، فيجرى عليه ثواب ذلك.
ومن خلال ما سبق يتبين لنا أن العلم النافع والعمل الصالح هما مفتاح السعادة، وأساس النجاة للعبد في الدنيا والآخرة، ومن رزقه الله علماً نافعاً ووفقه لعمل الصالح؛ فقد حاز الخير، وحظي بسعادة الدارين، قال تعالى:{ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(النحل:97).
والله من وراء القصد، وللحديث بقية إن شاء الله.

                                                                            د/ أحمد عرفة
باحث دكتوراه بجامعة الأزهر
عضو الجمعية الفقهية السعودية
Ahmedarafa11@yahoo.com

نشر هذا المقال بجريدة صوت الأزهر في العدد الصادر بتاريخ 21/10/2016م.

فضائل العلم وآدابه (2) د/ أحمد عرفة



فضائل العلم وآدابه (2)
لقد بينتُ في المقال السابق بعضَ فضائلِ العلم، ومكانةَ العلماء من خلال القرآن والسنة ووصايا السلف الصالح، ونستكملُ في هذا المقالِ الحديثَ حولَ الآداب التي ينبغي على طالب العلم أن يتحلى بها، ومنها:
الإخلاص: فأولُ أدبٍ على طالب العلم هو: أن يصحح نيته في الطلب، وأن يجعلها خالصةً لله تعالى، فالإخلاصُ هو أساسُ قبول الطاعات، وطلبُ العلمِ من أفضل الطاعات والقربات، ولذلك نجدُ بعضَ السلف يقول: لا شيء يعدل ثواب طلب العلم إذا صحت فيه النية، ويؤكد سفيان الثوري هذا المعنى قائلا": ما عالجت شيئاً أشد عليَّ من نيتي، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه سبحانه، إذ يقول في الحديث الذي أخرجه النسائي في سننه بسند حسن عن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله تعالى لا يقبلُ من العمل إلا ما كان له خالصاً، وابتغي به وجهه"، فتكون النية في الطلب لنفع نفسه بالعلم أولاً ثم بنشره وتعليمه لا أن يحرصَ على العلم من أجل أن ينالَ شهادةً جامعيةً أو منصباً من المناصب أو ليصرفَ وجوهَ الناسِ إليه، ولكي يشارَ إليه بأنه العالمُ فلان أو القارئ فلان أو الباحثُ كذا وكذا وغير ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حذرنا من ذلك، وذلك فيما أخرجه ابن ماجة في سننه بسند صحيح  عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من طَلَبَ العلم ليماري به السفهاء، أو ليباهي به العلماء، أو ليصرف وجوه الناس إليه، فهو في النار"، وبيّن لنا أيضاً أن أول من تسعر بهم النار ثلاثة، وذلك فيما أخرجه النسائي في سننه بسند صحيح  عن سليمان بن يسار، قال: تفرق الناس عن أبي هريرة، فقال له قائل من أهل الشام: أيها الشيخ، حدثني حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: نعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" أول الناس يقضى لهم يوم القيامة ثلاثة : رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها ؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت ليقال فلان جريء، فقد قيل، ثم أمر به، فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها ؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال قارئ، فقد قيل ، ثم أمر به، فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه، فعرفها، فقال: ما عملت فيها ؟ قال: ما تركت من سبيل تحب " قال أبو عبد الرحمن: " ولم أفهم تحب كما أردت أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت ولكن ليقال إنه جواد، فقد قيل، ثم أمر به، فسحب على وجهه، فألقي في النار". فهذه الأعمالُ الصالحةُ الواردة في الحديث من الشهادةِ والصدقةِ وقراءةِ القرآن من أشرف وأفضل الأعمال، ومع ذلك أدَّت بأصحابها إلى النار، وذلك لأنهم لم يُخلِصوا نيتَهم فيها، وإنما كانت رياءً وسمعةً من أجل الدنيا ومدحِ الناس وغيرِ ذلك.
يقول الدكتور/ بكر أبو زيد-رحمه الله- في كتابه (حلية طالب العلم ص10): "وعليه؛ فالتَزِمْ التخلص من كل ما يشوب نيتك في صدق الطلب: كحب الظهور، والتفوق على الأقران، وجعله سلماً لأغراض وأعراض، من جاه، أو مال، أو تعظيم، أو سمعة، أو طلب محمدة، أو صرف وجوه الناس إليك، فإن هذه وأمثالها إذا شابت النية، أفسدتها، وذهبت بركة العلم، ولهذا يتعين عليك أن تحمى نيتك من شوب الإرادة لغير الله تعالى، بل وتحمى الحمى.
فاستمسك رحمك الله تعالى بالعروة الوثقى العاصمة من هذه الشوائب؛ بأن تكون - مع بذل الجهد في الإخلاص - شديد الخوف من نواقضه، عظيم الافتقار والالتجاء إليه سبحانه".
والله من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل، وللحديث بقية إن شاء الله.
د/ أحمد عرفة
باحث دكتوراه بجامعة الأزهر
عضو الجمعية الفقهية السعودية


نشر هذا المقال بجريدة صوت الأزهر في العدد الصادر بتاريخ 14/10/2016م.

فضائل العلم وآدابه (1) د/ أحمد عرفة



فضائل العلم وآدابه
من أعز وأشرف ما صُرفت فيه الأوقات وأنفقت من أجله الأموال طلب العلم الشريف الذي شرف المولى جل وعلا أهله ورفع ذكرهم وأعلى مكانتهم، ومنها أنه جل وعلا استشهد بأهله على أجل مشهود عليه وهو توحيده سبحانه قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا اله إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ اله إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[آل عمران: 18].
ونفي سبحانه التسوية بين أهله وبين غيرهم كما نفى التسوية بين أصحاب الجنة وأصحاب النار فقال سبحانه:(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) [الزمر:9]، ورفع جل وعلا درجات أهل العلم فقال:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11].
وأمر جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم بطلب المزيد منه فقال سبحانه: {وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْماً} [طه:114]. قال الإمام القرطبي رحمه الله: فلو كان شيء أشرف من العلم لأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأله المزيد منه كما أمر أن يستزيده من العلم(تفسير القرطبي 4/40).
ومن فضل العلم وعلو منزلته أن العلم حياة ونور والجهل موت وظلمة ، والشر كله عدم الحياة والنور، والخير كله سببه النور والحياة ؛ فإن النور يكشف عن حقائق الأشياء ويبين مراتبها قال تعالى: (أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)(الأنعام: 122) كان ميتاً بالجهل قلبه فأحياه بالعلم، وجعل له من الإيمان نوراً يمشى به في الناس (مفتاح دار السعادة صـ61).
وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن طلب العلم طريق إلى الجنة، وذلك فيما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبى هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله له به طريقاً إلى الجنة). قوله: طريقاً نكرها، ونكر علماً: ليتناول أنواع الطرق الموصلة إلى تحصيل العلوم الدينية، وليندرج فيه القليل والكثير، وقوله: (سهل الله له طريقاً) أي في الآخرة أو في الدنيا بأن يوفقه للأعمال الصالحة الموصلة إلى الجنة، وفيه بشارة بتسهيل العلم على طالبه؛ لأن طلبه من الطرق الموصلة إلى الجنة.(فتح الباري 1/160).
وبيّن أن العلم ميراث الأنبياء، وذلك فيما أخرجه الترمذي في سننه عن أبى الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورثّوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)، وهذا من أعظم المناقب لأهل العلم فإن الأنبياء خير خلق الله فورثتهم خير الخلق بعدهم ، ولما كان كل موروث ينتقل ميراثه إلى ورثته إذ هم الذين يقومون مقامه من بعده ولم يكن بعد الرسل من يقوم مقامهم في تبليغ ما أرسلوا به إلا العلماء كانوا أحق الناس بميراثهم. (مفتاح دار السعادة صـ73).
وفي الأثر عن معاذ بن جبل رضي الله عنه إمام العلماء وأعلم الأمة بالحلال والحرام في بيان مكانة العلم وأهله حيث قال:" (تعلموا العلم فإن تعلُّمه لله ـ أي مخلصاً به ـ خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه صدقة، وبذله لأهله قربةـ أثمن هدية وهو الأنيس في الوحدة، والصاحب في الخلوة، والدليل على الدين، والنصير في السرَّاء والضراء، والوزير عند الإخلاء, والقريـب عند القرباء، هو منـار سبيل الجنة، يرفـع الله به أقواماً يجعلهم في الخير قادة وسادة، يُقتدى بهم، يدل على الخير، وتقتفى به آثاره، يجعلك مع الملائكة والمُقَرَّبين، يسبِّح لك كل رَطْبٍ ويابس، تستغفر لك حتى الحيتان في البحر، وهوامُّ السِباع في البَر، به يطاع الله عزَّ وجل ـ وبه يُعْبَد الله عزَّ وجل، وبه يوحَّد الله عزَّ وجل، وبه يُمَجَّد الله عزَّ وجل، وبه يتورَّع الإنسان ـ يكون ورعاً ـ وبه توصل الأرحام، وبه يُعرف الحلال والحرام. هو إمام العمل يلهمه السُعداء ويحرم منه الأشقياء"(جامع بيان العلم وفضله صـ115).
وأخرج الدارمي في سننه عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: بلغني أَنَّ لُقْمَانَ الْحَكِيمَ كَانَ يَقُولُ لاِبْنِهِ: "يَا بني لاَ تَعَلَّمِ الْعِلْمَ لِتُبَاهِىَ بِهِ الْعُلَمَاءَ أَوْ لِتُمَارِىَ بِهِ السُّفَهَاءَ أَوْ ترائي بِهِ في الْمَجَالِسِ، وَلاَ تَتْرُكِ الْعِلْمَ زُهْداً فِيهِ وَرَغْبَةً في الْجَهَالَةِ، يَا بني اخْتَرِ الْمَجَالِسَ عَلَى عَيْنِكَ، وَإِذَا رَأَيْتَ قَوْماً يَذْكُرُونَ اللَّهَ فَاجْلِسْ مَعَهُمْ، فَإِنَّكَ إِنْ تَكُنْ عَالِماً يَنْفَعْكَ عِلْمُكَ، وَإِنْ تَكُنْ جَاهِلاً يُعَلِّمُوكَ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِمْ بِرَحْمَةٍ فَيُصِيبَكَ مَعَهُمْ، وَإِذَا رَأَيْتَ قَوْماً لاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ فَلاَ تَجْلِسْ مَعَهُمْ، فَإِنَّكَ إِنْ تَكُنْ عَالِماً لاَ يَنْفَعْكَ عِلْمُكَ، وَإِنْ تَكُنْ جَاهِلاً زَادُوكَ غَيًّا، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِمْ بِعَذَابٍ فَيُصِيبَكَ مَعَهُمْ". وللحديث بقية إن شاء الله.
د/ أحمد عرفة
باحث دكتوراه بجامعة الأزهر
عضو الجمعية الفقهية السعودية
Ahmedarafa11@yahoo.com

نشر هذا المقال بجريدة صوت الأزهر في العدد الصادر بتاريخ 7/10/2016م.


الجمعة، 30 سبتمبر 2016

كتاب قرأناه لك -الشيخ علي الخفيف الفقيه المجدد للأستاذ الدكتور/ محمد عثمان شبير. إعداد/ د/ أحمد عرفة



الشيخ علي الخفيف
الفقيه المجدد
هذا الكتاب ضمن سلسلة علماء ومفكرون معاصرون التي تصدرها دار القلم بدمشق، الإصدار رقم (16) يتناول هذا الكتاب السيرة العلمية لعالم كبير من علماء مصر والعالم الإسلامي إنه فضيلة الشيخ/ علي الخفيف الفقيه المجدد. تأليف الأستاذ الدكتور/ محمد عثمان شبير، ويقع الكتاب في 198 صفحة من القطع المتوسط، طبعة دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى 1423هـ-2002م.
وقد قسَّم المؤلف الكتاب إلى مقدمة وفصلين وخاتمة:
أما الفصل الأول: فقد تناول فيه لمحات من حياته، وقد اشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: لمحات من حياة الشيخ علي الخفيف، وقسمه إلى ستة مطالب:
المطلب الأول: تحدث فيه عن لمحات من حياة الشيخ من حيث ملامح عصره من الناحية السياسية والاجتماعية والعلمية.
وفي المطلب الثاني: تحدث عن نشأته وتكوينه العلمي وأنه ولد في قرية الشهداء بمحافظة المنوفية وحفظ القرآن الكريم في سن مبكرة ثم التحق بالأزهر الشريف سنة 1904م، والتحاقه بمعهد الإسكندرية الديني، ولما علم بإنشاء مدرسة القضاء الشرعي سنة 1907م انتقل إليها، وترك معهد الإسكندرية، لأن هذه المدرسة بمثابة جامعة راقية سامقة في حينها، تفوق في مناهجها ونظامها معهد الإسكندرية الديني، وقد بقي فيها مدة ثماني سنوات، حتى نال الشهادة العالية فيها التي تؤهله لتولي مناصب عديدة، ومن أقرانه الذين درسوا معه في هذه المدرسة الشيخ عبد الوهاب خلاف، والدكتور أمين الخولي، والشيخ محمد فرج السنهوري. ثم انتقل للحديث عن شيوخه وذكر منهم الشيخ أحمد إبراهيم بك، والشيخ محمد الخضري، والشيخ محمد عبد المطلب واصل.
وفي المطلب الثالث: تحدث المؤلف عن الوظائف التي تولاها الشيخ ومنها التدريس الجامعي في مدرسة القضاء الشرعي، وكلية الحقوق بجامعة القاهرة، ومعهد الدراسات العربية العليا بالقاهرة، وعمل أيضاً محامياً لدى وزارة الأوقاف ثم مديراً لشؤون المساجد ومشرفاً عليها.
وفي المطلب الرابع: تحدث عن مكانة الشيخ العلمية من حيث الملكة الفقهية وتمكنه من الفقه وأصوله حتى قال عنه الدكتور إبراهيم مدكور"" تمكن من الفقه تمكناً لا يجاريه فيه كثير من معاصريه، حذقه في بصر وبصيرة، ومارسه علماً وعملاً وضم إليه قدراً غير قليل من علوم القانون، فتوافرت له أسباب الاجتهاد"، وبيّن مكانته في الأوساط العلمية والرسمية فقد اختير عضواً بموسوعة الفقه الإسلامي بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في سنة 1961م، وفي سنة 1961م شارك في أسبوع الفقه الإسلامي ومهرجان ابن تيمية الذي عقد في دمشق، واختير عضواً بمجمع البحوث الإسلامية سنة 1962م، وفي سنة 1967م اختير عضواً بالمجلس الأعلى للأزهر، وغير ذلك.
ومما يدل على مكانته العلمية دعوته لتجديد الفقه الإسلامي وأنه لا يعني التخلص من القديم أو محاولة هدمه، بل الاحتفاظ به، وترميم ما بلى منه، وإدخال التحسين عليه. ثم تحدث عن تلاميذه وذكر منهم، الشيخ محمد أبو زهرة، والدكتور عبد الوهاب عزام، والدكتور إبراهيم مدكور.
وفي المطلب الخامس: تحدث عن شخصيته وأخلاقه وذكر منها التواضع، والشعور بالمسؤولية، والصدق وكراهية الكذب، وفي المطلب السادس: تحدث عن وفاته وثناء العلماء عليه حيث توفي الشيخ في القاهرة يوم 11/7/ 1978م بعد أن صلى المغرب والعشاء جمع تقديم بسبب المرض الذي نزل به، وأقام له مجمع اللغة العربية بالقاهرة حفل تأبين يوم الأربعاء 7 من ذي الحجة 1398هـ الموافق 8/11/1978م. جاء في كلمته التي ألقاها في حفل تأبين الشيخ علي الخفيف- رحمه الله-:
"كان من نعم الله عليه أنه كان جليلاً في كل مكان عمل به، فهو في مجمع البحوث الإسلامية ينبوع دفاق، وفي موسوعة الفقه الإسلامي سحاب غيداق، وفي مدرسة القضاء الشرعي وكليات الشريعة والحقوق علم خفاق، وفي مجمع اللغة العربية عالم مرموق، وفي تطوير التشريع الإسلامي وتيسيره رائد سباق".
وفي المبحث الثاني: تناول المؤلف آراء الشيخ في المعاملات المالية المعاصرة مثل الوقف الأهلي، والوصية الواجبة، وتحديد الملكية الفردية، والتأمين، وشهادات الاستثمار، ومنح الشخصية الاعتبارية للشركات.
وأما الفصل الثاني: فقد تناول فيه التعريف بمؤلفات الشيخ، وقسَّمه مبحثين:
المبحث الأول: سرد عام للمؤلفات المطبوعة وأماكن طباعتها.
وفي المبحث الثاني: تعريف بأهم مؤلفات الشيخ وذكر منها: الوقف الأهلي، وتأثير الموت في حقوق الإنسان والتزاماته، ومدى تعلق الحقوق بالتركة، وأحكام المعاملات الشرعية، والحق والذمة، والمنافع، وأسباب اختلاف الفقهاء، والشركات في الفقه الإسلامي، وغيرها من المؤلفات والبحوث التي نشرت في مجلات متخصصة كمجلة القانون والاقتصاد بكلية الحقوق جامعة القاهرة، وبحوث منشورة بالعديد من المؤتمرات. رحمه الله تعالى وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.اللهم آمين.


د/ أحمد عرفة
باحث دكتوراه بجامعة الأزهر
عضو الجمعية الفقهية السعودية
نشر بجريدة عقيدتي في العدد الصادر بتاريخ 27/9/2016م

كتاب قرأناه لك أيتام غيروا مجرى التاريخ . إعداد/د/ أحمد عرفة



كتاب قرأناه لك
أيتام غيروا مجرى التاريخ
هذا الكتاب من الكتب المعاصرة الفريدة في بابها، تأليف: عبد الله بن صالح الجمعة –طبعة مكتبة العبيكان –الطبعة الثانية سنة 1429هـ-2008م، يقع الكتاب في 212 صفحة، في هذا الكتاب جمع لسير من المفكرين والفقهاء والمخترعين والأدباء ورجال الأعمال والعلماء ممن اشتركوا في خصلة واحدة وارتبطوا فيما بينهم برابطة مشتركة ألا وهي اليتم، وفي النهاية حققوا ما لم يحققه غيرهم، وأنجزوا ما عجز عنه الآخرون؛ ليسجلوا أسماءهم على نجوم الإبداع وصفحات التاريخ إنها العظمة بحق.
يقول الإمام أبو حنيفة رحمه الله:(الحكايات عن العلماء ومحاسنهم أحب إلي من كثير من الفقه؛ لأنها آداب القوم)، ومن هذا المنطلق يقول المؤلف في سبب تأليفه: تشربت قصص العلماء والعظماء وآنست سيرهم، فتولدت عندي مفاهيم حول تجاوزهم العقبات الصعبة والمصائب الهائلة، حتى إنك لا تجد من وصل إلى المجد بطريق مُلئ ورداً وزهوراً، ومن هذه العقبات، اليتم، الذي يحرم الإنسان من حنين الأب ورحمة العائل، فينشأ اليتيم وحيداً يجابه مصاعب الدنيا ومشاقها. وقليل منهم من يتجاوز ذلك...وهؤلاء العظماء الذين عظمت آمالهم فخلدت آثارهم.
يقول المؤلف: وقد رأيت أن يطلع الأيتام وغيرهم على تجارب هؤلاء تأسياً بهم واقتداء بتجاربهم، إلا أنهم بالاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم أولى، وباطلاعهم على سيرته أحق وأحرى، فهو سيد البشر وخير خلق الله وأعظم من وطأت قدماه وجه البسيطة.
ثم يوضح معيار اختيار أسماء اختياره للعظماء في هذا الكتاب فيقول:المعيار الأول: أن يكون صاحب الاسم يتيماً أو في حكمه، بمعنى أنه فقد أباه قبل بلوغه، أو كان لقيطاً، والثاني: أن يكون للشخص شهرة واسعة أو آثار باقية أو أموال طائلة أكسبته تلك العظمة، بشرط أن يكون قد بنى تلك العظمة بنفسه، دون تدخل عوامل خارجية كالنسب والوراثة.
ومن العظماء في هذا الكتاب حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي المتوفى505هـ فقد أباه صبياً فرباه وصي صوفي مدة من الزمن، ثم وضعه في مدرسة خيرية يعيش ويتعلم، يعد الغزالي من كبار المفكرين المسلمين بعامة ومن كبار المفكرين بمجال الأخلاق بخاصة، ومنهم الإمام ابن الجوزي المتوفى 597هـ توفي والده علي بن محمد وله من العمر ثلاث سنين، ولكن ذلك لم يؤثر في نشأته نشأة صالحة، قال رحمه الله عن نفسه: كتبت بأصبعي ألفي مجلد، وتاب على يدي مائة ألف، وأسلم على يدي عشرون ألفاً، وكان كثير الاطلاع، شغوفاً بالقراءة، فقد حكى عن نفسه أنه طالع عشرين ألف مجلد أو أكثر، وهو ما يزال طالباً، ومنهم أمير المؤمنين في الحديث الإمام البخاري المتوفى 256هـ نشأ يتيماً، فقد توفي أبوه مبكراً، فلم يهنأ بمولوده الصغير، لكن زوجته تعهدت وليدها بالرعاية والتعليم، حتى صار شيخ المحدثين وصاحب أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى وهو صحيح البخاري، قال عنه الإمام ابن خزيمة رحمه الله: لم أر تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله ولا أحفظ من البخاري.
ومن العظماء المعاصرين الوارد ذكرهم في هذا الكتاب الفقيه القانون المصري العلامة عبد الرزاق السنهوري المتوفي 1971م من أكبر علماء القانون المدني في عصره، عاش طفولته يتيماً إذ توفي والده وعمره خمس سنوات، له العديد من المؤلفات والموسوعات التي ينهل منها الباحثين إلى يومنا هذا ومنها شرح القانون المدني في العقود، والوسيط في شرح القانون المدني ، ونظرية العقد في الفقه الإسلامي، ومنهم الإمام العلامة عبد العزيز بن باز المفتى العام السابق للملكة العربية السعودية المتوفى 1420هـ، ومنهم الإمام العلامة الفقيه المفسر عبد الرحمن بن ناصر السعدي المتوفى 1376هـ صاحب التفسير المشهور المعروف بـ(تفسير السعدي)، ومنهم الشيخ المجاهد أحمد ياسين المتوفى 2005م، ومنهم أبو الحسن الندوي المتوفى1420هـ من أشهر مؤلفاته (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين)، والرئيس ياسر عرفات الرئيس السابق لدولة فلسطين، وبيل كلينتون الرئيس السابق للولايات المتحدة الأمريكية، ونلسون مانديلا (الرجل الأسود الذي نشر السلام الأبيض) ، وجنكيز خان، ومن الشعراء الأيتام حافظ إبراهيم ، والمتنبي.
فالكتاب موسوعة علمية قيمة لتراجم هؤلاء العظماء الذين لم تؤثر فيهم هذه العقبات والمصائب والمحن التي تعرضوا لها، فما أحوج شباب المسلمين اليوم إلى الاقتداء بهؤلاء العظماء والسير على دربهم من أجل تحقيق العظمة لهم في الحياة والذكر الحسن بعد الممات.
د/أحمد عرفة
باحث دكتوراه بجامعة الأزهر
عضو الجمعية الفقهية السعودية
Ahmedarafa11@yahoo.com
نشر بجريدة عقيدتي في العدد الصادر بتاريخ 1/3/2016م.

كتاب قرأناه لك تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم . إعداد/ د/ أحمد عرفة



كتاب قرأناه لك
تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم
هذا الكتاب للإمام العلامة بدر الدين أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن جماعة الكناني الشافعي المتوفى سنة 733هـ، طبعة مكتبة ابن عباس بالمنصورة، الطبعة الأولى 1425هـ-2005م، يقع في 317 صفحة.
هذا الكتاب ثروة من ثروات المكتبة الإسلامية في عطائها، والتي تمد المجمتعات الإسلامية بذخائر ما تحويه من علوم وآداب، وهذا السفر قطرة من بحر فيضها، تظهر أهميته من جوانب متعددة:
من الجانب الشرعي، وذلك لما فيه من بيان لبعض الأحكام الشرعية المتعلقة بالطالب والشيخ، وكذا ما يحويه من ذكر لبعض القواعد الشرعية، على ما فيه من تفسير للآي، وشروح، ونكت تتعلق ببعض الأحاديث والآثار.
ومن الجانب الأدبي والتربوي، وذلك لما فيه من آداب، ومناهج تربوية لا تخص الطالب والشيخ فقط، بل إنها تعتبر نواة لمنهج تربوي قائم على أسس شرعية، تدل على أن شريعتنا مع صلاحيتها لكل زمان ومكان مراعية لمقاصد العباد على اختلاف درجاتهم، وأنها حكيمة في أحكامها، لا تقوم على العبث، ويرسم للشيخ الخطى لتدريب نفسه وتلميذه على حسن الأدب، وجميل الخصال، ويرسم للطالب الطريق السويّ لطلب العلم من خلال إرشاده إلى رأس ماله وذلك بتنظيم وقته، وتعاهد محفوظه، والاقتصاد في طلبه.
ومن الجانب التاريخي والاجتماعي، يطلعنا الكتاب على صور من الحياة التعليمية في عصر المؤلف من حيث الحياة في المدارس، وكيفية ترتيب الأوقات والطلبة فيها، وكذا كيفية تعاهد الكتب وترصيصها، وطرق كتابة الكتب وتصحيحها، وكذا تدل على نضج الفكر الاجتماعي في ذلك العصر لما ترى في الكتاب من عجيب مراعاة المصنف لنفسية كل أحد حسب مرتبته العلمية، ومكانته الاجتماعية.
وعن منهج المؤلف في الكتاب تحدث قائلاً:" وجمعت ذلك مما اتفق في المسموعات، أو سمعته من المشايخ السادات، أو مررت به في المطالعات، أو استفدته في المذاكرات، وذكرته محذوف الأسانيد والأدلة؛ كيلا يطول على مطالعه أو يمله، وقد جمعت فيه بحمد الله من تفاريق آداب هذه الأبواب ما لم أره مجموعاً في كتاب، وقدمت على ذلك باباً مختصراً في فضل العلم والعلماء...".
قال في المقدمة:" إن أهم ما يبادر به اللبيب شرخ شبابه، ويدئب نفسه في تحصيله واكتسابه حسن الأدب الذي شهد الشرع والعقل بفضله، واتفقت الآراء والألسنة على شكر أهله وإن أحق الناس بهذه الخصلة الجميلة وأولاهم بحيازة هذه المرتبة الجميلة أهل العلم الذين حلّوا به ذروة المجد والثناء، وأحرزوا به قصبات السبق إلى وراثة الأنبياء، لعلمهم بمكارم أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وآدابه وحسن سير الأئمة الأطهار من أهل بيته وأصحابه وبما كان عليه أئمة علماء السلف، واقتدى بهديهم فيه مشايخ الخلف".
وقد قسم المؤلف الكتاب إلى عدة أبواب:
في الباب الأول تحدث عن فضل العلم والعلماء وفضل تعليمه وتعلمه من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وكلام السلف الصالح في بيان عظيم شرف العلم وأهله.
ثم انتقل في الباب الثاني للحديث عن أدب العالم في نفسه ومراعاة طالبه ودرسه، وقسمه إلى ثلاثة فصول. في الفصل الأول بيّن آدابه في نفسه، وفي الفصل الثاني بيّن آدابه في درسه، وفي الفصل الثالث بيّن أدبه مع طلبته مطلقاً وفي حلقته.
وفي الباب الثالث تحدث المؤلف عن آداب المتعلم، وقسمه إلى ثلاثة فصول. في الفصل الأول بيّن آدابه في نفسه، وفي الفصل الثاني بيّن آدابه مع شيخه وقدوته وما يجب عليه من عظيم حرمته، وفي الفصل الثالث بيّن آدابه في دروسه وقراءته في الحلقة وما يعتمده فيها مع الشيخ والرفقة.
ثم انتقل المؤلف في الباب الرابع للحديث عن الأدب مع الكتب التي هي آلة العلم، وما يتعلق بتصحيحها وضبطها وحملها ووضعها وشرائها وعاريتها ونسخها وغير ذلك.

د/أحمد عرفة
باحث دكتوراه بجامعة الأزهر
عضو الجمعية الفقهية السعودية
Ahmedarafa11@yahoo.com
نشر بجريدة عقيدتي في العدد الصادر بتاريخ 24/5/2016م.

كتاب قرأناه لك - دفاع عن السنة وردّ شُبه المستشرقين والكُتَّاب المعاصرين - للشيخ الدكتور/ محمد بن محمد أبو شهبة . إعداد/ د/ أحمد عرفة



دفاع عن السنة
وردّ شُبه المستشرقين والكُتَّاب المعاصرين
للشيخ الدكتور/ محمد بن محمد أبو شهبة
يُعد هذا الكتاب من الكتب القيمة في بيان حجية السنة النبوية المصدر الثاني للتشريع الإسلامي ، وبيان الشبهات المثارة حول حجية السنة والأحاديث النبوية من الكُتاب والمفكرين المعاصرين والرد على هذا الشُبه ردا ًعلمياً متقناً يحتاج إليه المتخصص وغيره، طبع الكتاب عدة طبعات منها طبعة مكتبة السنة بالقاهرة – الطبعة الثانية سنة 1428هـ-2007م ، وقد جاء هذا الكتاب في ثلاثة أقسام:القسم الأول: (دفاع عن السنة ورد شبهات المستشرقين والكتاب المعاصرين)، القسم الثاني: (بعض الشبه الواردة على السنة قديماً وحديثاً، وردها رداً علمياً صحيحاً)، ويدل على قيمة هذا الكتاب ما قاله مؤلفه –رحمه الله- حيث قال:(هذا الكتاب الذي يعتبر عصارة ذهني ، وعقلي، وقلبي، وخلاصة عمر طويل في دراسة السنة النبوية المطهرة، والردود على ما يثار حولها من شُبه، وتجنيات وأباطيل، ما يزيد عن ثلث قرن من الزمان-ولله الحمد والمنة)، القسم الثالث: (بيان الشبه التي أوردها بعض من ينكر حجية السنة والرد عليها) للدكتور/ عبد الغني عبد الخالق –رحمه الله- وألحقت هذه الرسالة بالكتاب، تلبية لرغبة كثير من أهل العلم وطلابه، وبه يصير الكتاب موسوعة إسلامية هامة لأهل الحق.
يقول المؤلف في مقدمة الكتاب: فمرجع الشريعة الإسلامية إلى أصلين شريفين: القرآن الكريم، والسنة النبوية، والسنة: بيان للقرآن، وشرح لأحكامه، وبسط لأصوله، وتمام لتشريعاته. والسنة متى ثبت عن المعصوم صلوات الله عليه وسلامه فهي تشريع وهداية، وواجبة الاتباع ولا محالة.
تحدث المؤلف في القسم الأول عن منزلة السنة من الدين وأنها بيان للقرآن، وأن السنة تستقل بالتشريع ، ثم عرض لأدلة حجية السنة ورد شبه المنكرين لها، وبيّن مراحل تدوين السنة وعناية الصحابة بالأحاديث والسنن، والأطوار التي مر بها تدوين الحديث النبوي، وكيف كانت عناية المحدثين بالنقد والرواية ونقد الأسانيد والمتون، وعنايتهم أيضاً بفقه الأحاديث ومعانيها.
ثم انتقل إلى نقد وتحليل الشبهات الواردة في كتاب (أضواء على السنة المحمدية) لمحمود أبو رية، وذلك بعرض هذه الشبهات والرد عليها رداً علمياً صحيحاً تعرض من خلال الرد عليه إلى بيان منزلة الصحابة رضي الله عنهم وبيان عدالة الصحابة والشبهات المثارة حول بعض رواة الحديث كأبي هريرة رضي الله عنه وغيره والرد عليها، وتعرض أيضاً للرد على ما أثير حول صحيح البخاري من شبهات والتطاول على الأئمة كابن حجر وأحمد وأبو حنيفة وغيرهم والرد عليها.
ثم جاء القسم الثاني: في بيان بعض الشٌّبه الواردة على السنة قديماً وحديثاً والرد عليها رداً علمياً صحيحاً ومنها: هل أدخل أهل الكتاب أقوالاً من الإنجيل على أنها أحاديث، ورميهم للمحدثين والطعن فيهم بالجُبن والخوف، وقولهم أن المحدثين لم يتوسعوا في نقد المتن، ودعواهم أن عمر رضي الله عنه اتجه إلى تقليل رواية الحديث والرجوع إلى القرآن وحده، وشبهات المستشرقين حول الوضع في الحديث، وحديث الذبابة، وأحاديث سحر النبي صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك من الشبهات ورد عليها رداً علمياً نحن أحوج ما نكون إليه في هذه الأيام في هذه الهجمات الشرسة على الإسلام والسنة النبوية المطهرة.
وختم المؤلف كتابه ببيان أن الإسلام تعرض لعداوات كثيرة، وما لبثت أن خبت جذورها، وأن أعداء الإسلام حاولوا الطعن في القرآن ولم يستطيعوا، فحاولوا الطعن في السنة وحملة الأحاديث والآثار بقصد نفي الثقة عنهم، ولكن الله سبحانه أقام للدفاع عن دينه في كل عصر علماء للأمة في كل قُطر، ولا يزالون قائمين بهذا الواجب، ولا يزال كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم بالصلابة والقوة التي تكسرت عليها شُبّه وأباطيل وتأويلات الأعداء، كما كانا منذ أربعة عشر قرناً.
ومن التوصيات التي أوصى بها المؤلف تعاون المشتغلين بالسنة فيما بينهم على خدمة السنة النبوية والدفاع عنها ورد الشبهات المثارة حولها في كل عصر، والاهتمام بقراءة كتب الأحاديث والسُّنن كما كان يفعل العلماء والمحدثين في القرون الأولى ابتغاء وجه الله، لا رغبة في مال ولا في وظيفة، وأن خدمة كتاب الله، وخدمة سُنة نبيه صلى الله عليه وسلم، من أوجب الواجبات على الدول الإسلامية والجامعات الإسلامية.

د/ أحمد عرفة
باحث دكتوراه بجامعة الأزهر
عضو الجمعية الفقهية السعودية
Ahmedarafa11@yahoo.com
نشر بجريدة عقيدتي في العدد الصادر بتاريخ 3 ذو القعدة 1436هـ، 18/8/2015م.

كتاب قرأناه لك عصر العلم للعالم الكبير الأستاذ الدكتور/ أحمد زويل –رحمه الله- إعداد/ د/ أحمد عرفة



كتاب قرأناه لك
عصر العلم
للعالم الكبير الأستاذ الدكتور/ أحمد زويل –رحمه الله-
الدكتور/ أحمد زويل عالم كيميائي مصري حاصل على جائزة نوبل في الكيمياء لسنة 1999م لأبحاثه في مجال الفيمتو ثانية، نشر أكثر من 350 بحثاً علمياً في المجلات العلمية العالمية المتخصصة، ومن مؤلفاته هذا الكتاب القيم (عصر العلم)، وهو محاولة لفهم طبيعة هذا العصر، من العلم إلى ما وراء العلم من إيرادات سياسية وطاقات اجتماعية وثقافات للشعوب، وعليه فإن هذا الكتاب يجمع بين تجربة المؤلف الذاتية في "عصر من العلم" ورؤيته الشخصية للعالم في "عصر العلم".
وفي بداية الكتاب يتساءل المؤلف –رحمه الله- قائلاً: " إن ما يجرى يتطلب منا وقفة تاريخية، كيف وصلنا إلى هذه الدرجة من التطور؟ وما هي طريقة الوصول إليها؟ وما الذي يحمله المستقبل من جديد للناجحين والخاملين؟ ثم يقول: إنني واحد ممن ينشغلون كثيراً بهذه التساؤلات وبالبحث في طرق الإجابة عليها، وحين حصلت على جائزة نوبل في عام 1999م، والتي جاءت في عام له دلالته الرمزية، حيث يختتم القرن العشرين فتوحاته العلمية، ليستكمل "عصر العلم" فتوحات أخرى في قرن جديد منذ ذلك الحين وأنا ألتقي بكثير من الزعماء والقادة السياسيين، وبالعديد من الفلاسفة والمفكرين ورجال الاقتصاد والإدارة، فضلاً عن الاحتكاك الدائم مع أعظم علماء العصر.
وقسم المؤلف الكتاب إلى خمسة فصول:
أما عن الفصل الأول فقد جعله تحت عنوان (بين النيل والمتوسط.. البــداية) تحدث فيه عن حياته والتي كانت عام 1946م في مدينة دمنهور عاصمة محافظة البحيــرة، وارتباطه بوالديه وأهمية المسجد ودوره في تشكيل محور حياته وحياة أهل المدينة كلها، وأنه بمثابة القوة الجاذبة لنا جميعاً، وأنه اكتسب من والده خبرات عملية كثيرة منها ركوب الدراجات، والتي لم أزل أستمتع بها حتى اليوم.
ثم يقول: وكان اهتمامي منصب دائماً على الموضوعات التحليلية، مع الرغبة في السؤال: لماذا؟ وكيف؟ وقد يتعجب البعض إذا ما عرف أن أكثر هواياتي الممتعة هي قراءة التاريخ، ولدي مكتبة تضم العديد من كتب التاريخ المتنوعة والتي أستمتع بقراءة موضوعاتها استمتاعاً كبيراً.
وكانت والدتي تقول أني شغوف بالتعلم متلهف لأن أتعلم شياً جديداً، وربما تنبأت العائلة بمستقبلي من اللافتة التي علقتها على باب غرفتي باسم"الدكتور أحمد"، وكنت وقتذاك في المدرسة الإعدادية كنت شغوفاً ومهتماً بالماهية التي تعمل بها الأشياء، ولكم ساءلت نفسي: كيف تعمل الأشياء؟ ولماذا تتحول بعض المواد الصلبة كالخشب إلى غاز عند احتراقها؟ فتحول المواد من صورة لأخرى كان يثير فضولي بدرجة كبيرة.
وأما الفصل الثــاني فقد جعله تحت عنوان(إلى بلاد الأحلام .. الطــريــق): يبدأ في حكاية وصوله إلى فيلادلفيا، ويحكي عن جامعة بنسلفانيا، وعن أولى ليــاليه هو وزوجته هنــاك، والتي باتها في بناء يشبه الكنيسة يتبع للجامعة؛ لعدم امتلاكه مكاناً للمبيت فيه، ثم في شقة خاصة بزميـل له، وبدأ زويل دراسته وأبـحاثـه، وواجه عقبات فكرية وثقافية كثيرة – باختلاف أنواعها، إلا أنه استطاع التغلب عليها كلها بمرور الوقت، حتى أكمل دراسته لدرجة الدكتــوراه.
ومن كلماته عن رحلته لأمريكا "حينما وصلت إلى الولايات المتحدة وعلموا أنني قد تعلمت في جامعة الإسكندرية بادروني بالسؤال التالي: من الذي أحرق مكتبة الإسكندرية؟ وهل لمصر أن تقيم مكتبة الإسكندرية من جديد، وأن تعيد أمجادها مرة أخرى؟، وهل لكم أيها المصريون أن تعيدوا أمجاد أسلافكم من علماء مكتبة الإسكندرية القدامى"، وقال: لم أشغل فكري وبالي بالثروة والمال أو اقتناء سيارة فاخرة أو ما إلى ذلك من متع الحياة المعهودة، ولكن الذي شغل فكري واستولى على خيالي، هو أن أحصل على العلم وأن أتبوأ مركزاً في دنياه، والمرء حيث يضع نفسه.
وأما الفصل الثــالث فقد جاء تحت عنوان(الأيــام الذهبية في كاليـفورنيـا .. الانطلاق): في بيركلي في كاليفورنيا انطلق في تجارب لأبحاث أكبـر، وبدأ في السفر وإلقاء النـدوات والمحاضرات هنا وهنــاك. ثم بدأ في مصيره هل يرجع إلى مصر أم يبقى في أمريـكا ؟ وحسم أمره بالتقدم إلى صفوة جامعات أمريكا وأكثرها تقدّما فإن تلقى عرضاً استمر، وإن لم يتلَقَّ عروضاً رجع، وبــالفعل تلقى عرضا بعد فترة من جامعة تعد أفضل جامعات العالم جامعة كالتك، والتي كانت تضم قائمة طويـلة من العلمـاء البــارزين في الكيــميــاء والبيـولوجيـا والفلك والجيـولوجيا والهنـدسة، وأكمــل على نطاق أوسع في كالتك، وقد خصصت له ميزانية أبـحاث جيدة، ومع الوقت زاد عدد أعضاء مجموعة دكتور زويل العلميــة، وخصصت لهم الجامعة مزيـداً من المختبرات، وأصبح أكثر وأكثر انشغالاً بالطبع، فبجانب مسئولياته الأكاديمية انشغل بإلقاء المحاضرات أكثر فأكثر.
وأما الفصل الرابـع فقد جاء تحت عنوان( الطريق إلى نـوبـل .. الوصـول): كان عمله كما يقول في قلب الذرات حيث التحام أو انفصال الجزيـئات، كما كان يقع زمـانـاً في داخل الثـانية حيث تصبح الثـانية زمنـاً عملاقـاً، وبعد أحد عشر عاماً في الخـارج، عاد زويــل إلى وطنـه إلى مصر في زيـارة، وزار أهله ومعـــالم أيام طفولته وأيـام صبــاه. ثم في مرّة أخرى نظم مؤتمراً علميــاً عقد في مديــنة الإسكندرية، وقد نجح هذا المؤتمر نجاحاً مدويـّا، ثم عاد بعد ذلك إلى كــالتــك، وعمَد في أبـحاثه إلى استخدام أفضل للزمن، ليصل إلى وحدة قياس زمني أصغر من البيكو ثانية  وهي التي كانت أصغر وحدة لقيـاس الزمن في ذلك الوقت.
وأما الفصل الخــامس فقد جعله تحت عنوان (أيــام من الخيــال.. التـكريـم): جاءت المكالمة من ستوكهولم للدكتور زويل تعلمه بأنه قد فـاز بجائزة نوبــل، واشتهرت (الفيمتو ثانية) ونشر عنها في المجلات العالمية الأكثر شهرة، وانطلقت إلى حيِّز الوجـود، ومعها انطلق صاحبـها الدكتـور أحمد زويــل، وانطلق إلى ستوكهولم ليتسلم الجــائزة، وجــاء الإعلان الرسمي بفوز الدكتور زويل بجائزة نوبل في الكيميـاء لعام 1999، ويحكي زويـل عن تجربة احتفالات جائزة نوبـل – والتي استمرت أسبـوعاً كــاملاً – وصفه الدكتـور زويـل بأنه كان” أسبوعاً من الاحتفالات الأسطورية ”.” … وأدعوك لأن تتقدم إلى الأمــام لتتسلم جائزة نوبل في الكيــميـاء لعام 1999م من يدي جلالــة الملــك ”، وقد صاحبت جائزة نوبـل – قبلها وبعدها – احتفالات وجوائز أخرى كثيرة، منها ما كان في مصر، منها ما كان احتفالاً بالجائزة، ومنها ما كان احتفالاً بالفتح العلمي الذي فتحه الله عليه. رحمه الله تعالى وغفر لنا وله وجزاه خيراً على ما قدم من علم ونفع للإنسانية.

د/ أحمد عرفة
باحث دكتوراه بجامعة الأزهر
عضو الجمعية الفقهية السعودية

نشر بجريدة عقيدتي في العدد الصادر بتاريخ 9/8/2016م.

كتاب قرأناه لك قيمة الزمن عند العلماء للشيخ العلامة/ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله . إعداد/ د/ أحمد عرفة



كتاب قرأناه لك
قيمة الزمن عند العلماء
للشيخ العلامة/ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله
كتاب قيمة الزمن عند العلماء للشيخ العلامة/ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله، يُعد هذا الكتاب من أنفس الكتب المعاصرة التي عُنيت بالحديث عن أهمية الوقت ومنزلته مع ذكر نماذج من سير العلماء القدامى والمعاصرين في محافظتهم على الوقت وإدراك قيمته، طُبع هذا الكتاب طبعات كثيرة منها طبعة دار السلام للنشر والتوزيع بالقاهرة – الطبعة الأولى سنة 1431هـ،2010م.
يقول المؤلف رحمه الله في مقدمة كتابه:(وكتابي (قيمة الزمن عند العلماء) –على ما فيه من قصور- حصيلة نحو عشرين سنة، من مطالعاتي ومراجعاتي في كتب العلم: التفسير، والحديث، والفقه، والتاريخ، والرجال، والتراجم، والبلدان، واللغة، والنحو، والأدب، والأخلاق، وسواها، في جمع مادته، وانتخابها، وضبطها، وعزوها إلى مصادرها ومراجعها، والمقابلة بينها، وتمحيصها، وسبكها، وتحقيقها، وإخراجها بأبهى حُلَّة).
 ويُبيّن المؤلف في المقدمة قيمة الوقت وأنه أغلى ما يملك الإنسان فيقول:(يجب على المسلم أن ينتبه إلى الوقت في حياته، وإلى تنفيذ كل عمل من أعماله في توقيته المناسب، فالوقت من حيث هو معيار زمني: من أغلى ما وهب الله تعالى للإنسان، وهو في حياة العالم وطالب العلم رأس المال والربح جميعاً، فلا يسوغ للعاقل أن يُضيعه سُدى، ويعيش فيه هملاً سبهللاً، ومن أجل هذا دونت هذه الصفحات حافزاً لنفسي ولأبناء جنسي، رجاء الانتفاع بما فيها من أخبار آبائنا وسلفنا الماضين).
 افتتح الكتاب ببيان قيمة الزمن ثم تحدث عن النعم وبيّن أنها أصول وفروع، وأن من أجلٍّ أصولها وأغلاها نعمة الزمن، ثم بيان قيمة الوقت في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وبيّن أن جميع المصالح تنشأ من الوقت فمن أضاعه لم يستدركه أبداً، ونقل قول الإمام الشافعي رحمه الله: صحبت الصوفية، فلم أستفد منهم سوى حرفين، أحدهما قولهم: الوقت سيف، فإن لم تقطعه قطعك، وذكر الكلمة الأخرى: نفسك اشغلها بالحق وإلا شغلتك بالباطل، ثم تحدث عن حرص السلف على كسب الوقت وملئه بالخير قال ابن مسعود رضي الله عنه: ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي، ومن ذلك علو همتهم في طلب العلم والسهر في تحصيله حتى أن منهم من مات ابنه فوكل من قام بتجهيزه ودفنه ليحضر الدرس كالقاضي أبو يوسف، ومنهم من كانت أخته تُلقمه العشاء ليكتب الحديث ثلاثين سنة وهو الحافظ المحدث عُبيد بن يعيش، والإمام ثعلب النحوي يقرأ كتاباً وهو في الطريق وهو ابن تسعين سنة فيتردى في حفرة فتكون وفاته، ومن ذلك الإمام أبو الوفاء ابن عقيل الحنبلي كان لا يُضيع ساعة من عمره وكان يقول: إني لا يحل لي أن أُضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة أو مناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا منطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره، وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عشر الثمانين أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين سنة، ومن أجل معرفته بقيمة الوقت واستثمارها كان حصيلة ذلك كتابه (الفنون) في ثماني مئة مجلدة وهو أحد كتبه يقول عنه الإمام الذهبي رحمه الله: لم يصنف في الدنيا أكبر من هذا الكتاب، حدثني من رأى منه المجلد الفلاني بعد الأربعمائة. قال ابن رجب: وقال بعضهم: هو ثماني مئة مجلدة)، وذكر عن الإمام الحافظ المنذري رحمه الله أنه كتب بيده 90مجلدة و700 جزء من غير تصانيفه، وأن الإمام النووي رحمه الله في بداية طلبه للعلم لم يضع جنبه على الأرض نحو سنتين، وكان يحضر في اليوم اثني عشر درساً مع الضبط والتعليق، وما ذلك منه رحمه الله إلا لمعرفته بشرف ما يطلب وتقدير لقيمة الوقت وشرف الزمان.
 وذكر المؤلف أيضاً أن من علو همة السلف في حفظ الوقت كثرة مؤلفاتهم وانشغالهم بالتأليف الساعات الطويلة بل والسنوات، وذكر من هؤلاء المكثرين من التأليف الإمام ابن جرير الطبري شيخ المفسرين أعظم مؤلف في الإسلام في كثرة التأليف وحسن التصنيف، يقول عنه المؤلف: (أحرز الإمام ابن جرير الطبري قصب السبق في التصنيف، كثرة في إتقان، مع عموم النفع، وقد خلف في مصنفاته ما يقرب من ثلاث مئة ألف ورقة وخمسين ألف ورقة. وهذه أغنى التركات العلمية فيما بلغنا، فتبارك الله أحسن الخالقين)، ومن هؤلاء أيضاً شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم والإمام البيقهي يقول عنهم المؤلف: وألف تقي الدين ابن تيمية ثلاث مئة مؤلف، في فنون مختلفة، ضمن نحو خمس مئة مجلد. وتلميذه ابن قيم الجوزية نحو الخمسين مجلداً بين ضخم ولطيف. وألف الإمام البيهقي ألف جزء، كلها تآليف محررة نادرة المثال، كثيرة الفوائد، وأقام يصوم ثلاثين سنة.
ومما ذكره المؤلف في حرص السلف على قيمة الوقت أن منهم من قرأ كتاباً مرات كثيرة، يقول رحمه الله: (ومن نتائج محافظة العلماء السابقين على الأوقات، ومراعاتهم للحظات، أن تمكنوا من قراءة كتاب واحد مرات كثيرة تدهش الناظر في أخبارهم وسيرهم، ولا يتأتي النبوغ في العلم والرسوخ فيه إلا بإدامة النظر وتكرار المطالعة، لا بتلقي دروس محدودة في دقائق وساعات معدودة محددة) وذكر أن الإمام النووي رحمه الله طالع (الوسيط) للغزالي 400 مرة، وذكر عن الإمام العلامة شيخ المالكية أبو بكر الأبهري قوله:(قرأت مختصر ابن عبد الحكم خمس مئة مرة، والأسدية سبعين مرة، والموطأ خمساً وأربعين مرة، ومختصر البرقي سبعين مرة). ثم يُعلق المؤلف على هذا الكلام فيقول:(وإذا وازنت حال متخرجي اليوم بحال العلماء المتقدمين رأيت العجب يقرأ أحدهم أحاديث مختارة من (سبل السلام) نحو الخمسين حديثاً مرة واحدة في السنة، ثم يُوصف بأنه قرأ الحديث، ويقرأ من النحو عدة أبواب مختارة فيوصف بأنه درس النحو، وهكذا في الفقه والتفسير وغيرها، فإنا لله.
ومما ذكره المؤلف حُسن توزيع كل عمل على ما يناسبه من الأوقات فيقول: (ومما يحسن لفت النظر إليه في شأن الزمن: أن العمل العلمي يُنزل منزلته من الوقت الملائم له، فمن الأعمال العلمية ما يصلح له كل وقت وذهن، لخفته ويُسر القيام به، مثل النسخ والمطالعة الخفيفة والقراءة العابرة ونحوها، مما لا يحتاج إلى ذهن صاف ويقظة تامة وتفكير دقيق عميق، ومن الأعمال العلمية ما لا يكتمل حصوله على وجهه الأتم، إلا في الأوقات التي تصفو فيها الأذهان، وتنشط فيها القرائح والأفهام، وتكثر فيها البركات والنفحات، كساعات الأسحار والفجر والصباح، وساعات هدأة الليل والفراغ التام والسكون الكامل للمكان).
ثم يختم المؤلف كتابه بوصية للإمام الغزالي ينبه فيها إلى تنظيم الأوقات حيث يقول رحمه الله:( ولا ينبغي أن تكون أوقاتك مهملة، فتشتغل في كل وقت بما اتفق كيف اتفق، بل ينبغي أن تحاسب نفسك، وترتب وظائفك في ليلك ونهارك، وتُعين لكل وقت شُغلاً لا يتعداه ولا تؤثر فيه سواه، فيه تظهر بركة الأوقات. فأما من ترك نفسه مهملاً سُدى، إهمال البهائم، لا يدري بم يستقبل كل وقت، فتنقضي أكثر أوقاته ضائعة).
وفي النهاية يقول أمير الشعراء أحمد شوقي رحمه الله:
دقات قلب المرء قائلة له:                  إن الحياة دقائق وثوان
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها              فالذكر للإنسان عُمرُ ثاني

د/ أحمد عرفة
باحث دكتوراه بجامعة الأزهر
عضو الجمعية الفقهية السعودية
نشر بجريدة عقيدتي في العدد الصادر بتاريخ 8/3/2016م.