السبت، 10 ديسمبر 2016

فضائل العلم وآدابه (4) د/ أحمد عرفة



فضائل العلم وآدابه(4)
و(الصبر) من الآداب التي ينبغي على طلب العلم أن يتحلى بها، وفي ذلك يقول الإمام النووي –رحمه الله- في وصفه لطالب العلم: "ينبغي أن يكون حريصًا على التعلم، مواظبًا عليه في جميع أوقاته، ليلاً ونهارًا، وسفرًا وحضرًا، ولا يُذهب من أوقاته شيئًا في غير العلم إلا بقدر الضرورة، لأكل ونوم قدرًا لابد له منه ونحوهما، كاستراحة يسيرة لإزالة الملل، وشبه ذلك من الضروريات، وليس بعاقل من أمكنه درجة ورثة الأنبياء ثمَّ فوتها!!"(التبيان في آداب حملة القرآن صـ 50، ط/دار ابن حزم).
فطالبُ العلمِ بحاجة إلى الصبر وتحمل المشقة في سبيل العلم وتحصيله، وفي ذلك يقول الإمام يحيي بن أبي كثير-رحمه الله-: "لا يستطاع العلم براحة الجسم"، والعلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، ولما قيل للشعبي–رحمه الله-: من أين لك هذا العلم كله؟ قال: بنفي الاعتماد، والسير في البلاد، وصبر كصبر الحمار، وبُكور كبكور الغُراب.
 وفي قصة موسى عليه السلام والخضر الكثير من الدروس والعبر لطالب العلم، ومن أعظمها: الصبرُ، قال تعالى: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}(الكهف:66- 69)، فموسى -عليه السلام- لما طلب التعلم، أرشده الخضر إلى أهم ما يلزم طالب العلم ألا وهو الصبر، وفي ذلك يقول الإمام الخطيب البغدادي –رحمه الله-: "قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إَنَّ فِيمَا عَانَاهُ مُوسَى مِنَ الدَّأَبِ وَالسَّفَرِ وَصَبَرَ عَلَيْهِ مِنَ التَّوَاضُعِ وَالْخُضُوعِ لِلْخِضْرِ بَعْدَ مُعَانَاةِ قَصْدِهِ مَعَ مَحِلِّ مُوسَى مِنَ اللَّهِ وَمَوْضِعِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ، وَشَرَفِ نُبُوَّتِهِ دَلَالَةٌ عَلَى ارْتِفَاعِ قَدْرِ الْعِلْمِ، وَعُلُوِّ مَنْزِلَةِ أَهْلِهِ، وَحُسْنِ التَّوَاضُعِ لِمَنْ يَلْتَمِسُ مِنْهُ وَيُؤْخَذُ عَنْهُ، وَلَوِ ارْتَفَعَ عَنِ التَّوَاضُعِ لِمَخْلُوقٍ أَحَدٌ بِارْتِفَاعِ دَرَجَةٍ، وَسُمُوِّ مَنْزِلَةٍ لَسَبَقَ إِلَى ذَلِكَ مُوسَى، فَلَمَّا أَظْهَرَ الْجَدَّ وَالِاجْتِهَادَ، وَالِانْزِعَاجَ عَنِ الْوَطَنِ وَالْحِرْصِ عَنِ الِاسْتِفَادَةِ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِالْحَاجَةِ إِلَى أَنْ يَصِلَ مِنَ الْعِلْمِ إِلَى مَا هُوَ غَائِبٌ عَنْهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهَ لَيْسَ فِي الْخَلْقِ مَنْ يَعْلُو عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، وَلَا يَكْبُرُ عَنْهَا".(الرحلة في طلب الحديث صـ102، ط/دار الكتب العلمية).
 قال قتادة: لو كان أحدٌ يكتفي من العلم بشيء، لاكتفى موسى عليه السلام ولكنه قال: (هل أتبعك على أن تعلمني مما عُلِّمت رشداً)، وقيل لابن المبارك إلى متى تطلب العلم قال: حتى الممات إن شاء الله، وقيل له مرة أخري مثل ذلك فقال: لعل الكلمة التي تنفعني لم أكتبها بعد ذلك.(جامع بيان العلم وفضله 1/95).
 ومن الصبر: القناعةُ بالقليل من الرزق للتفرغ لطلب العلم، وفي ذلك يقول الإمام مالك –رحمه الله-: "إن هذا الأمر لن يُنال حتى يُذاق فيه طعم الفقر، وذكر ما نزل بربيعة من الفقر في طلب العلم حتى باع خشب سقف بيته في طلب العلم، وحتى كان يأكل ما يُلقى على مزابل المدينة من الزبيب وعصارة التمر". (جامع بيان العلم1/97).
والصبرُ على مشقة السفر والرحلة لطلب العلم، وفي ذلك رحل الصحابةُ والتابعين رضي الله عنهم وغيرهم من سلف هذه الأمة وبذلوا في سبيل العلم وتحصيله الغالي والنفيس، ومن ذلك رحلة جابر بن عبد الله رضي الله عنه مسيرة شهر إلى عبد الله بن أُنيس في حديث واحد، وكان سعيد بن المسيب يقول: "إن كنت لأسير الليالي والأيام في طلب الحديث الواحد"، وأخرج البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "والله الذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيمن أُنزلت، ولو أعلم أحداً أعلم منى بكتاب الله تبلُغُه الإبل لركبتُ إليه".
وأخرج الإمام ابن جماعة في (تذكرة السامع والمتكلم صـ104، ط/ مكتبة ابن عباس) أن الإمام الشافعي -رحمه الله- قال: "حق على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار من علمه، والصبر على كل عارضٍ دون طلبه، وإخلاص النية لله تعالى في إدراك علمه نصًا واستنباطًا، والرغبة إلى الله تعالى في العون عليه".
ويقول الإمام ابن هشام النحوي-رحمه الله-:
ومن يصطبرْ للعلم يظفرْ بنيلهِ *** ومن يخطب الحسناءَ يصبرْ على البذلِ.
والله من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل
وللحديث بقية إن شاء الله
د/ أحمد عرفة
باحث دكتوراه بجامعة الأزهر
عضو الجمعية الفقهية السعودية
Ahmedarafa11@yahoo.com
نشر هذا المقال بجريدة صوت الأزهر في العدد الصادر بتاريخ 4/11/2016م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق