الجمعة، 23 مارس 2018

وبالوالدين إحسانا د/ أحمد عرفة



وبالوالدين إحسانا
إن المتأمل في كتاب الله تعالى يجد أن المولى سبحانه قد رفع شأن الوالدين، وأمر بالإحسان إليهما، وحذر من عقوقهما والإساءة إليهما، وبيّن أن حقهما من أعظم الحقوق بعد حقه جل وعلا، وجعل الأمر بالإحسان إليها بعد الأمر بتوحيده سبحانه وتعالى فقال سبحانه: " وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا"(النساء: 36)، وقال جل وعلا: "وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا"(الإسراء: 23، 24).
كما نجد أيضاً أنه سبحانه قرن شكره بشكر الوالدين في قوله تعالى: "أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ"(لقمان:14). فأحق الناس بعد الخالق المنان بالشكر والإحسان والتزام البر والطاعة له والإذعان من قرن الله الإحسان إليه بعبادته وطاعته وشكره بشكره وهما الوالدان.(تفسير القرطبي 5/182).
ونجد سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما يقرر أن هناك ثلاث آيات في القرآن نزلت مقرونة بثلاث لا تقبل واحدة بغير قرينتها، ومنها قول الله تعالى: "أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ" فمن شكر لله ولم يشكر لوالديه لم يتقبل منه شيء.
والناظر في السنة النبوية المطهرة يجد الأحاديث الكثيرة التي تبين فضل بر الوالدين والإحسان إليهما، والتحذير من عقوقهما، ومنها أنه من أحب الأعمال إلى الله، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله ؟ قال: "الصلاة على وقتها "، قال: ثم أي ؟ قال: "ثم بر الوالدين"قال: ثم أي؟ قال: "الجهاد في سبيل الله"(رواه البخاري).
كما أوصانا بحسن صحبة الوالدين، وبيّن أن بر الأم مقدم على بر الأب، وذلك فيما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ، من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال: "أمك" قال: ثم من ؟ قال: "ثم أمك" قال: ثم من ؟ قال: " ثم أمك" قال: ثم من ؟ قال: "ثم أبوك".
وبيّن أن بر الوالدين سبب في تفريج الكربات، ونجد ذلك واضحاً جلياً في قصة أصحاب الغار التي أخرجها البخاري في صحيحه وفيها أحدهم دعا الله بعمله الصالح وهو بره بوالديه حيث قال:" اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران، ولي صبية صغار، كنت أرعى عليهم ، فإذا رحت عليهم فحلبت بدأت بوالدي أسقيهما قبل ولدي، وإنه ناء بي الشجر، فما أتيت حتى أمسيت فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب، فجئت بالحلاب فقمت عند رءوسهما، أكره أن أوقظهما من نومهما، وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما، والصبية يتضاغون عند قدمي، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا فرجة نرى منها السماء. ففرج الله لهم فرجة حتى يرون منها السماء...".
كما أخبرنا أن رضا الرب سبحانه في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما، وذلك كما في الحديث الذي أخرجه الطبراني في الكبير عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رضا الرب في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما".
ومن عظيم بر الوالدين والأمر بالإحسان إليهما نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم قدمه على الجهاد في سبيل الله، وذلك في أحاديث كثيرة منها ما جاء عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: أجاهد؟ قال: "لك أبوان"؟ قال: نعم، قال: "ففيهما فجاهد")(رواه البخاري ومسلم)، وجاء أحدهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إني أردت أن أغزو فجئت أستشيرك. قال: " ألك والدة ؟ " قال: نعم، قال: "اذهب فالزمها، فإن الجنة عند رجليها"(أخرجه النسائي).
كما أن بر الوالدين لا يقتصر على حال حياتهما، ولكنه يمتد بعد الوفاة أيضًا، وقد وضح ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة منها ما أخرجه ابن ماجة في سننه بسند صحيح عن أبي أسيد "مالك بن ربيعة الساعدي قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل من بني سلمة، فقال: يا رسول الله هل بقي من بر أبواي شيء أبرهما بعد موتهما؟ قال: نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما، قال الرجل: ما أكثر هذا يا رسول الله وأطيبه قال: "فاعمل به".
وحذرنا من عقوق الوالدين والإساءة إليهما وبيّن أنه كبيرة من الكبائر، وذلك كما في الصحيحين عن أبي بكرة – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر "ثلاثاً" قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، ألا وشهادة الزور، أو قول الزور" وكان متكئاً فجلس – فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت".
وقد علق الإمام ابن حجر الهيتمي على هذا الحديث في كتابه (الزواجر عن اقتراف الكبائر:2/651) فقال: "فانظر كيف قرن الإساءة إليهما وعدم البر والإحسان إليهما بالإشراك بالله تعالى وأكد ذلك بأمره بمصاحبتهما بالمعروف وإن كانا يجاهدان الولد على أن يشرك بالله تعالى قال تعالى :( وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)(لقمان:15) فإذا أمر الله تعالى بمصاحبة هذين بالمعروف مع هذا القبح العظيم الذي يأمران ولدهما به وهو الإشراك بالله تعالى فما الظن بالوالدين المسلمين سيما إن كانا صالحين تالله إن حقهما لمن أشد الحقوق وآكدها وإن القيام به على وجهه أصعب الأمور وأعظمها فالموفق من هدي إليها والمحروم كل المحروم من صرف عنها".
د/ أحمد عرفة
باحث دكتوراه بجامعة الأزهر
عضو الجمعية الفقهية السعودية

نشر هذا المقال بجريدة عقيدتي في العدد الصادر بتاريخ 20/3/2018م

الثلاثاء، 6 مارس 2018

سلسلة أخطاء المصلين (5) مسابقة الإمام أثناء الصلاة د/ أحمد عرفة

سلسلة أخطاء المصلين (5)
مسابقة الإمام أثناء الصلاة
من الأخطاء التي يقع فيها بعض المصلين مسابقة الإمام أثناء الصلاة فتجد البعض منهم ربما يركع قبل الإمام أو يسجد قبله أو ربما يسلم معه أو قبله، وهذا الفعل نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم وحذر منه تحذيراً شديداً، وذلك فيما أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار أو يجعل صورته صورة حمار".
قال الإمام ابن بطال رحمه الله: "معنى هذا الحديث الوعيد لمن خالف إمامه في أفعال الصلاة، ومن خالف الإمام ، فقد خالف سنة المأموم ، وأجزأته صلاته عند جمهور العلماء ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل إن من فعل ذلك فصلاته فاسدة"(شرح صحيح البخاري 2/318).
وقال الإمام ابن رجب –رحمه الله-: "وفيه : دليل صريح عَلَى تحريم تعمد رفع المأموم رأسه قَبْلَ الإمام فِي ركوعه وسجوده ؛ فإنه توعد عَلِيهِ بالمسخ ، وَهُوَ من أشد العقوبات، وإنما اختص الحمار بالذكر دون سائر الحيوانات عَلَى الرواية الصحيحة المشهورة - والله أعلم -؛ لأن الحمار من أبلد الحيوانات وأجهلها، وبه يضرب المثل فِي الجهل؛ ولهذا مثل الله بِهِ عالم السوء الذي يحمل العلم ولا ينتفع بِهِ فِي قوله: ( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً (الجمعة: 5).فكذلك المتعبد بالجهل يشبه الحمار، فإن الحمار يحرك رأسه ويرفعه ويخفضه لغير معنى، فشبه من يرفع رأسه قَبْلَ إمامه بالحمار، وكذلك شبه من يتكلم وإمامه يخطب بالحمار يحمل أسفاراً؛ لأنه لَمْ ينتفع بسماع الذكر، فصار كالحمار فِي المعنى".(فتح الباري شرح البخاري، لابن رجب 4/164).
ولكن على المأموم أن يتابع الإمام فإذا استوى راكعاً ركع، وإذا استوى ساجداً سجد، ولا يسبق الإمام ولا يـتأخر عنه، بل يتابعه،  وذلك لما أخرجه البخاري ومسلم عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كنا خلف النبي صلى الله عليه وسلم: "فكان إذا انحط من قيامه للسجود لا يحني أحدٌ منا ظهره حتى يضع رسول الله صلى الله عليه وسلم جبهته على الأرض"، وفي الصحيحين عن عَبْداللَّهِ بْن يَزِيد قال: حَدَّثَنِي الْبَرَاءُ - وَهُوَ غَيْرُ كَذوبٍ - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَالَ: « سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ » لَمْ يَحْنِ أَحَدٌ مِنَّا ظَهْرَهُ حَتَّى يَقَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَاجِدًا، ثُمَّ نَقَعُ سُجُودًا بَعْدَهُ.
وبناء على ما سبق فإنه ينبغي على المأموم أن يتابع إمامه في الصلاة، وألا يسبقه في شيء من الصلاة كأن يركع قبله أو يسجد قبله وهكذا، وذلك لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن مسابقة الإمام في الصلاة كما ورد في الأحاديث التي ذكرناها. والله أعلم.
















الجمعة، 2 مارس 2018

من أخطاء المصلين (4) رفع البصر إلى السماء . د/ أحمد عرفة



من أخطاء المصلين (4)
رفع البصر إلى السماء
من الأخطاء التي يقع فيها كثير من المصلين رفع البصر إلى السماء عند الدعاء، وهذا الفعل منهي عنه، وذلك لما أخرجه البخاري في صححيه عن أَنَس بْن مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي صَلَاتِهِمْ فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ : لَيَنْتَهُنَّ عَنْ ذَلِكَ أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ".
قال الإمام النووي –رحمه الله-:"فيه النهي الأكيد والوعيد الشديد في ذلك"(شرح النووي على مسلم 4/152).
والعلة في ذلك أن رفع البصر أثناء الصلاة ينافي الخشوع ، ويعرض المصلي للانشغال بما يراه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " فلما كان رفع البصر إلى السماء ينافي الخشوع حرمه النبي صلى الله عليه وسلم وتوعد عليه"."القواعد النورانية" (ص 46) .
وقال القاضي عياض –رحمه الله-:" رفع البصر إلى السماء فيه نوع إعراض عن القبلة، وخروج عن هيئة الصلاة، وقال ابن حزم: لا يحل ذلك، وبه قال قوم من السلف، وقال ابن بطال وابن التين: أجمع العلماء: على كراهة النظر إلى السماء في الصلاة لهذا الحديث".(عمدة القاري 5/308).
وقد اختلف الفقهاء في حكم رفع البصر إلى السماء في الصلاة على قولين:
القول الأول: يكره رفع البصر إلى السماء في الصلاة ، وهذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، وقد استدلوا على ذلك بحديث  أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْه، عنْ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: "ما بالُ أقوامٍ، يَرفعونَ أَبصارَهمْ إلى السَّماءِ في صلاتهمْ! فاشْتَدَّ قولُهُ في ذلكَ، حتى قال: ليَنْتَهُنَّ عن ذلكَ، أو لتُخْطَفَنَّ أبصارُهُمْ"
القول الثاني: يحرم رفع البصر إلى السماء في الصلاة، وهذا ما ذهب إليه ابن حزم، واختاره ابن تيمية،
واستدلوا بحديثُ أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْه، عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: "ما بالُ أقوامٍ، يَرفعونَ أبصارهمْ إلى السَّماءِ في صلاتهمْ! فاشْتَدَّ قولُهُ في ذلكَ، حتى قال: ليَنْتَهُنَّ عن ذلكَ، أو لتُخْطَفَنَّ أبصارُهُمْ".حيث تَوعَّدهم بالعقوبةَ على ذلِك بقوله: "ليَنْتَهُنَّ عن ذلكَ، أو لتُخْطَفَنَّ أبصارُهُمْ"، والعقوبة بالعَمى لا تكونُ إلَّا على مُحرَّم.
والراجح ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من أن النهي هنا محمول على الكراهة، وعليه فيكره للمصلي رفع البصر إلى السماء، والله أعلم.




من أخطاء المصلين (3) الإسراع في الصلاة وعدم الطمأنينة. د/ أحمد عرفة



من أخطاء المصلين (3)
الإسراع في الصلاة وعدم الطمأنينة
من الأخطاء التي يقع فيها كثير من المصلين الإسراع في الصلاة وعدم الطمأنينة فيها، ولا يعلم هؤلاء أن الطمأنينة  ركن من أركان الصلاة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد رد الرجل المسيء صلاته ثلاث مرات قائلاً له "ارجع فصل فإنك لم تصل"، ثم لما علمه النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة قال له: ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِيَ قَائِمًا ، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا "(رواه البخاري)، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن نقر الصلاة، والسرقة منها، وبين أن ما يفعله كثير من المصلين اليوم من الإسراع في الصلاة وعدم الطمأنينة إنما هو سرقة في الصلاة، وذلك فيما أخرجه ابن حبان في صحيحه، والبيهقي في السنن  عن أبي هريرة ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسوأ الناس سرقة الذي يسرق صلاته "، قال: وكيف يسرق صلاته ؟ قال: " لا يتم ركوعها، ولا سجودها "
وأخرج أبو داود في سننه بسند حسن عن عبد الرحمن بن شبل، قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نقرة الغراب، وافتراش السبع، وأن يوطن الرجل المكان في المسجد كما يوطن البعير".
قال الإمام المناوي –رحمه الله-: قوله: (نهى عن نقرة الغراب) أي تخفيف السجود وعدم المكث فيه بقدر وضع الغراب منقاره للأكل (وافتراش السبع) بأن يبسط ذراعيه في سجوده ولا يرفعهما عن الأرض (وأن يوطن الرجل المكان في المسجد كما يوطن البعير) أي يألف محلا منه يلازم الصلاة فيه لا يصلي في غيره كالبعير لا يلوي عن عطنه إلا لمبرك قد اتخذه مناخاً لا يبرك إلا فيه. (تنبيه) قال ابن القيم –رحمه الله-: نهى المصطفى صلى الله عليه وسلم في الصلاة عن التشبه بالحيوانات فنهى عن بروك كبروك البعير، والتفات كالتفات الثعلب، وافتراش كافتراش السبع، وإقعاء كإقعاء الكلب، ونقر كنقر الغراب، ورفع الأيدي وقت السلام كأذناب الخيل فهدي المصلي مخالف لهدي الحيوانات.(فيض القدير 6/439 وما بعدها).
وأخرج البيهقي في السنن بسند حسن عن أبي عبد الله الأشعري قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه، ثم جلس في طائفة منهم فدخل رجل فقام يصلي فجعل لا يركع وينقر في سجوده ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه ، فقال: " أترون هذا لو مات مات على غير ملة محمد ؟ ينقر صلاته كما ينقر الغراب الدم، إنما مثل الذي يصلي ولا يركع، وينقر في سجوده كالجائع لا يأكل إلا تمرة أو تمرتين، فماذا تغنيان عنه فأسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار، وأتموا الركوع والسجود ".
وأخرج الترمذي في سننه عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ الْبَدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يُقِيمُ فِيهَا الرَّجُلُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ". قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ يَرَوْنَ أَنْ يُقِيمَ الرَّجُلُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، وقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاق: مَنْ لَمْ يُقِمْ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ، لِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ فِيهَا صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ".
وأما عن حد الطمأنينة في الصلاة فقال الإمام النووي –رحمه الله- في المجموع (1/250):
" وتجب الطمأنينة في الركوع بلا خلاف لحديث المسيء صلاته، وأقلها أن يمكث في هيئة الركوع حتى تستقر أعضاؤه وتنفصل حركة هويه عن ارتفاعه من الركوع".
وجاء في الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي –رحمه الله- (2/861-862):"وأقلها: أن تستقرَّ الأعضاء في الركوع مثلاً، بحيث ينفصل الرفعُ عن الهوي، كما قال الشافعية، وذلك بقدر الذِّكر الواجب لذاكره، وأما الناسي: فبقدر أدنى سكون، كما قال بعضُ الحنابلة، والصحيح من المذهب: أنها السكونُ وإن قل.أو هي: تسكين الجوارح قدر تسبيحة في الركوع والسجود، والرفع منهما، كما قال الحنفية. أو هي: استقرار الأعضاء زمنًا ما في جميعِ أركان الصلاة، كما قال المالكية".

ومما سبق يتبين لنا أن الطمأنينة في الصلاة ركن من أركانها كما ذهب إلى ذلك جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة، وأن الصلاة تبطل بتركها، وذلك لحديث المسيء صلاته لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة الصلاة، والأمر بالإعادة دليل على فساد الصلاة لكون الطمأنينة ركن من أركانها، وقد أفسده بهذا الإسراع وعدم إعطاء هذا الركن حقه. قال الإمام ابن حجر –رحمه الله- في الفتح (2/242): "لا ينقضي عجبي ممن يتعمد ترك قراءة الفاتحة منهم، وترك الطمأنينة فيصلي صلاة يريد أن يتقرب بها إلى الله تعالى، وهو يتعمد ارتكاب الإثم فيها مبالغة في تحقيق مخالفته لمذهب غيره" والله أعلم.




من أخطاء المصلين (2) الالتفات في الصلاة . د/ أحمد عرفة



من أخطاء المصلين (2)
 الالتفات في الصلاة
من الأخطاء التي يقع فيها كثير من المصلين الالتفات في الصلاة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه، وذلك فيما أخرجه البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها، قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة ؟ فقال: "هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد"، وأخرج الإمام أحمد في مسنده عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال الله مقبلاً على العبد وهو مقبل عليه في صلاته، ما لم يلتفت، فإذا التفت انصرف عنه"، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله ينصب وجهه لوجه عبده مَا لَمْ يلتفت، فإذا صليتم فلا تلتفتوا" (أخرجه أحمد والترمذي وصححه).
قال ابن بطال -رحمه الله-: "الالتفات في الصلاة مكروه عند العلماء، وذلك أنه إذا أومأ ببصره وثنى عنقه يمينًا وشمالاً ترك الإقبال على صلاته ، ومن فعل ذلك فقد فارق الخشوع المأمور به في الصلاة، ولذلك جعله النبي اختلاسًا للشيطان من الصلاة ، وأما إذا التفت لأمرٍ يَعِنُّ له من أمر الصلاة أو غيرها فمباح له ذلك وليس من الشيطان".
وقال المهلب-رحمه الله-: قوله: ( هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد )، هو حض على إحضار المصلى ذهنه ونيته لمناجاة ربه ، ولا يشتغل بأمر دنياه ، وذلك أن العبد لا يستطيع أن يخلص صلاته من الفكر في أمور دنياه؛ لأن الرسول قد أخبر أن الشيطان يأتي إليه في صلاته، فيقول له: اذكر كذا اذكر كذا (شرح صحيح البخاري 2/365).
ولا بأس بالالتفات في الصلاة إذا كان للحاجة، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم:" " ما لي رأيتكم أكثرتم التصفيق، من رابه شيء في صلاته، فليسبح فإنه إذا سبح التفت إليه، وإنما التصفيق للنساء"(رواه البخاري)، وفي هذا الحديث أن الالتفات فِي الصلاة لحاجة عرضت غير مكروه، وإنما يكره لغير حاجةٍ، أن الالتفات وكثرة التصفيق لحاجة غير مبطل للصلاة"(فتح الباري شرح البخاري: لابن رجب 4/129).
وبناء على ما سبق فإن الالتفات في الصلاة لغير حاجة مكروه كما ذهب إليه جمهور الفقهاء، وأنه لا يُبطل الصلاة باتفاق الفقهاء، وحمله جمهور الفقهاء على إذا لم يستدبر القبلة بصدره، وإلا كان الالتفات مبطلاً للصلاة؛ لأنه بذلك يكون قد انحرف عن اتجاه القبلة الذي هو شرط من شروط صحة الصلاة، ويجوز الالتفات في الصلاة للحاجة. والله أعلم.