الجمعة، 23 مارس 2018

وبالوالدين إحسانا د/ أحمد عرفة



وبالوالدين إحسانا
إن المتأمل في كتاب الله تعالى يجد أن المولى سبحانه قد رفع شأن الوالدين، وأمر بالإحسان إليهما، وحذر من عقوقهما والإساءة إليهما، وبيّن أن حقهما من أعظم الحقوق بعد حقه جل وعلا، وجعل الأمر بالإحسان إليها بعد الأمر بتوحيده سبحانه وتعالى فقال سبحانه: " وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا"(النساء: 36)، وقال جل وعلا: "وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا"(الإسراء: 23، 24).
كما نجد أيضاً أنه سبحانه قرن شكره بشكر الوالدين في قوله تعالى: "أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ"(لقمان:14). فأحق الناس بعد الخالق المنان بالشكر والإحسان والتزام البر والطاعة له والإذعان من قرن الله الإحسان إليه بعبادته وطاعته وشكره بشكره وهما الوالدان.(تفسير القرطبي 5/182).
ونجد سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما يقرر أن هناك ثلاث آيات في القرآن نزلت مقرونة بثلاث لا تقبل واحدة بغير قرينتها، ومنها قول الله تعالى: "أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ" فمن شكر لله ولم يشكر لوالديه لم يتقبل منه شيء.
والناظر في السنة النبوية المطهرة يجد الأحاديث الكثيرة التي تبين فضل بر الوالدين والإحسان إليهما، والتحذير من عقوقهما، ومنها أنه من أحب الأعمال إلى الله، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله ؟ قال: "الصلاة على وقتها "، قال: ثم أي ؟ قال: "ثم بر الوالدين"قال: ثم أي؟ قال: "الجهاد في سبيل الله"(رواه البخاري).
كما أوصانا بحسن صحبة الوالدين، وبيّن أن بر الأم مقدم على بر الأب، وذلك فيما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ، من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال: "أمك" قال: ثم من ؟ قال: "ثم أمك" قال: ثم من ؟ قال: " ثم أمك" قال: ثم من ؟ قال: "ثم أبوك".
وبيّن أن بر الوالدين سبب في تفريج الكربات، ونجد ذلك واضحاً جلياً في قصة أصحاب الغار التي أخرجها البخاري في صحيحه وفيها أحدهم دعا الله بعمله الصالح وهو بره بوالديه حيث قال:" اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران، ولي صبية صغار، كنت أرعى عليهم ، فإذا رحت عليهم فحلبت بدأت بوالدي أسقيهما قبل ولدي، وإنه ناء بي الشجر، فما أتيت حتى أمسيت فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب، فجئت بالحلاب فقمت عند رءوسهما، أكره أن أوقظهما من نومهما، وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما، والصبية يتضاغون عند قدمي، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا فرجة نرى منها السماء. ففرج الله لهم فرجة حتى يرون منها السماء...".
كما أخبرنا أن رضا الرب سبحانه في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما، وذلك كما في الحديث الذي أخرجه الطبراني في الكبير عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رضا الرب في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما".
ومن عظيم بر الوالدين والأمر بالإحسان إليهما نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم قدمه على الجهاد في سبيل الله، وذلك في أحاديث كثيرة منها ما جاء عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: أجاهد؟ قال: "لك أبوان"؟ قال: نعم، قال: "ففيهما فجاهد")(رواه البخاري ومسلم)، وجاء أحدهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إني أردت أن أغزو فجئت أستشيرك. قال: " ألك والدة ؟ " قال: نعم، قال: "اذهب فالزمها، فإن الجنة عند رجليها"(أخرجه النسائي).
كما أن بر الوالدين لا يقتصر على حال حياتهما، ولكنه يمتد بعد الوفاة أيضًا، وقد وضح ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة منها ما أخرجه ابن ماجة في سننه بسند صحيح عن أبي أسيد "مالك بن ربيعة الساعدي قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل من بني سلمة، فقال: يا رسول الله هل بقي من بر أبواي شيء أبرهما بعد موتهما؟ قال: نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما، قال الرجل: ما أكثر هذا يا رسول الله وأطيبه قال: "فاعمل به".
وحذرنا من عقوق الوالدين والإساءة إليهما وبيّن أنه كبيرة من الكبائر، وذلك كما في الصحيحين عن أبي بكرة – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر "ثلاثاً" قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، ألا وشهادة الزور، أو قول الزور" وكان متكئاً فجلس – فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت".
وقد علق الإمام ابن حجر الهيتمي على هذا الحديث في كتابه (الزواجر عن اقتراف الكبائر:2/651) فقال: "فانظر كيف قرن الإساءة إليهما وعدم البر والإحسان إليهما بالإشراك بالله تعالى وأكد ذلك بأمره بمصاحبتهما بالمعروف وإن كانا يجاهدان الولد على أن يشرك بالله تعالى قال تعالى :( وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)(لقمان:15) فإذا أمر الله تعالى بمصاحبة هذين بالمعروف مع هذا القبح العظيم الذي يأمران ولدهما به وهو الإشراك بالله تعالى فما الظن بالوالدين المسلمين سيما إن كانا صالحين تالله إن حقهما لمن أشد الحقوق وآكدها وإن القيام به على وجهه أصعب الأمور وأعظمها فالموفق من هدي إليها والمحروم كل المحروم من صرف عنها".
د/ أحمد عرفة
باحث دكتوراه بجامعة الأزهر
عضو الجمعية الفقهية السعودية

نشر هذا المقال بجريدة عقيدتي في العدد الصادر بتاريخ 20/3/2018م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق