الخميس، 17 يوليو 2014

عظيم الأجر في اغتنام العشر


عظيم الأجر في اغتنام العشر
  إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وبعد:
  فإن الله عز وجل اختص شهر رمضان بخصائص عظيمة عن غيره من الشهور، فهو شهر الصيام والقيام والقرآن ، وشهر الجهاد والانتصارات ، شهر الجود والخيرات والبركات والنفحات ، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم الخير كله ، وفيه لله عز وجل فى كل ليلة عتقاء من النار ، ومن أفضل أيام وليالى هذا الشهر ، العشر الأواخر التي فيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر ، فما هو فضل هذه الأيام العشر ، وما هي الأعمال المستحبة فيها ، وكيف كان حال النبي صلى الله عليه وسلم مع هذه الأيام العشر الأواخر من رمضان.
  أولاً : حال النبي صلى الله عليه وسلم فى هذه العشر:
  أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله r إذا دخل العشر شدّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله).
  وفي رواية لمسلم عنها قالت: (كان رسول الله r يجتهد في العشر الأواخر مالا يجتهد في غيره).
   قال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله:
   كان النبي r يخصّ العشر الأواخر من رمضان بأعمال لا يعملها في بقية الشهر فمنها:
   أولاً:إحياء الليل:
   يحتمل أن المراد إحياء الليل كله، وقد روي من حديث عائشة من وجه فيه ضعف بلفظ: (وأحيا الليل كله) وفي المسند من وجه آخر عنها قالت: (كان النبي r يخلط العشرين بصلاة ونوم، فإذا كان العشر ـ يعني الأخير ـ شمر وشد المئزر)( أخرجه أحمد فى مسنده ).
  وخرج الحافظ أبو نعيم بإسناد فيه ضعف عن أنس قال: (كان النبي r إذا شهد رمضان قام ونام، فإذا كان أربعا وعشرين لم يذق غمضا).
  ويحتمل أن يريد بإحياء الليل إحياء غالبه.
  وقال مالك في الموطأ: بلغني أن ابن المسيب قال: من شهد ليلة القدر يعني في جماعة  فقد أخذ بحظه منها.
  وقال الشافعي في القديم: من شهد العشاء والصبح ليلة القدر فقد أخذ بحظه منها.
  ثانياً: أن النبي r كان يوقظ أهله للصلاة في ليالي العشر دون غيره من الليالي:
  في حديث أبي ذر أن النبي r لما قام بهم ليلة ثلاث وعشرين وخمس وعشرين ذكر أنه دعا أهله ونساءه ليلة سبع وعشرين خاصة.
  وهذا يدل على أنه يتأكد إيقاظهم في أكد الأوتار التي ترجى فيها ليلة القدر.
  وخرج الطبراني من حديث علي: (أن النبي r كان يوقظ أهله في العشر الأواخر من رمضان وكل صغير وكبير يطيق الصلاة).
  قال سفيان الثوري رحمه الله: أحب إلي إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجد بالليل، ويجتهد فيه وينهض أهله وولده إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك.
  وقد صح عن النبي r (أنه كان يطرق فاطمة وعليا ليلا، فيقول لهما: ألا تقومان فتصليان، وكان يوقظ عائشة بالليل إذا قضى تهجده وأراد أن يوتر) وورد الترغيب في إيقاظ أحد الزوجين صاحبه للصلاة، ونضح الماء في وجهه.
   ثالثاً: أن النبي r كان يشد المئزر:
  اختلفوا في تفسيره فمنهم من قال: هو كناية عن شدة جده واجتهاده في العبادة، كما يقال فلان يشد وسطه ويسعى في كذا وهذا فيه نظر فإنها قالت: جد وشد المئزر فعطفت شد المئزر على جده.
   والصحيح: أن المراد: اعتزاله النساء، وبذلك فسره السلف والأئمة المتقدمون، منهم: سفيان الثوري.
  وقد ورد ذلك صريحا من حديث عائشة وأنس، وورد تفسيره بأنه لم يأو إلى فراشه حتى ينسلخ رمضان، وفي حديث أنس (وطوى فراشه واعتزل النساء) وقد كان النبي r غالبا يعتكف العشر الأواخر.
  والمعتكف ممنوع من قربان النساء بالنص والإجماع، وقد قالت طائفة من السلف في تفسير قوله تعالى: (فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم) إنه طلب ليلة القدر.
   قال الإمام ابن رجب رحمه الله:
  والمعنى فى ذلك: أن الله تعالى لما أباح مباشرة النساء في ليالي الصيام إلى أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود أمر مع ذلك بطلب ليلة القدر، لئلا يشتغل المسلمون في طول ليالي الشهر بالاستمتاع المباح فيفوتهم طلب ليلة القدر، فأمر مع ذلك بطلب ليلة القدر بالتهجد من الليل، خصوصا في الليالي المرجو فيها ليلة القدر، فمن ههنا كان النبي r يصيب من أهله في العشرين من رمضان ثم يعتزل نساءه، ويتفرغ لطلب ليلة القدر في العشر الأواخر.( لطائف المعارف : صـ268).
 رابعاً: تأخيره للفطور إلى السحر:
  وروي عنه من حديث عائشة وأنس: (أنه r كان في ليالي العشر يجعل عشاءه سحوراً).( أخرجه الطبرانى فى المعجم الأوسط ).
 خامساً: اغتساله بين العشاءين:
 روي من حديث علي أن النبي r كان يغتسل بين العشاءين كل ليلة يعني من العشر الأواخر) وفي إسناده ضعف.
 وقال ابن جرير رحمه الله : كانوا يستحبون أن يغتسلوا كل ليلة من ليالي العشر الأواخر.
  وكان إبراهيم النخعي رحمه الله : يغتسل في العشر كل ليلة.
  ومنهم من كان يغتسل ويتطيب في الليالي التي تكون أرجى لليلة القدر، فأمر ذر بن حبيش بالاغتسال ليلة سبع وعشرين من رمضان.
  وروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أنه إذا كان ليلة أربع وعشرين اغتسل وتطيّب ولبس حلة إزار أو رداء، فإذا أصبح طواهما فلم يلبسهما إلى مثلها من قابل.
  ( لطائف المعارف : صـ272).
 وكان أيوب السختياني رحمه الله: يغتسل ليلة ثلاث وعشرين وأربع وعشرين، ويلبس ثوبين جديدين ويستجمر، ويقول: ليلة ثلاث وعشرين هي ليلة أهل المدينة، والتي تليها ليلتنا يعني البصريين.
  وقال حماد بن سلمة رحمه الله:كان ثابت البناني وحميد الطويل يلبسان أحسن ثيابهما ويتطيّبان، ويطيبون المسجد بالنضوح والدخنة في الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر.
  وقال ثابت رحمه الله: كان لتميم الداري حلة اشتراها بألف درهم، وكان يلبسها في الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر.
   قال الإمام ابن رجب رحمه الله:
  فتبين بهذا أنه يستحب في الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر التنظف والتزين والتطيب بالغسل والطيب واللباس الحسن، كما يشرع ذلك في الجمع والأعياد، وكذلك يشرع أخذ الزينة بالثياب في سائر الصلوات، كما قال تعالى: ( يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ)( سورة الأعراف : الآية : 31).
  وقال ابن عمر رضي الله عنهما: الله أحق أن يتزين له.( لطائف المعارف : صـ272).
  ثانياً: الأعمال المستحبة فى هذه الأيام :
    1- الاعتكاف:
  عن ابن عمر رضي الله عنهما : " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان ".(رواه مسلم).
  قال الإمام ابن بطال رحمه الله:
  فهذا يدل على أن الاعتكاف من السنن المؤكدة ؛ لأنه مما واظب عليه النبى عليه السلام فينبغى للمؤمنين الاقتداء فى ذلك بنبيهم ، وذكر ابن المنذر عن ابن شهاب أنه كان يقول : عجبًا للمسلمين تركوا الاعتكاف ، وإن النبى عليه السلام لم يتركه منذ دخل المدينة كل عام فى العشر الأواخر حتى قبضه الله.(شرح صحيح البخاري : لابن بطال جـ4 صـ181).
  وقال القاضى عياض رحمه الله:
  وفيه استحباب كونه فى العشر الأواخر من رمضان لمواظبة النبى صلى الله عليه وسلم على ذلك لقوله : (كان يعتكف) ، وأكثر ما يستعمل هذا فيما كان   يداوم عليه ، مع ما دلت عليه نصوص الآثار من تكراره ، ولأن ليلة القدر مطلوبة فى تلك العشر.( إكمال المعلم شرح صحيح مسلم: جـ4 صـ151).
   وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي r كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى).( رواه البخاري ومسلم).
   وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله r يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين).( أخرجه البخاري فى صحيحه).
  قال الإمام ابن رجب رحمه الله:
  وإنما كان يعتكف النبي r في هذا العشر التي يطلب فيها ليلة القدر قطعاً لأشغاله، وتفريغا للياليه، وتخليا لمناجاة ربه وذكره ودعائه.
 وكان يحتجر حصيراً يتخلى فيها عن الناس فلا يخالطهم ولا يشتغل بهم.( لطائف المعارف : صـ273).
  فمعنى الاعتكاف وحقيقته: قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق، وكلما قويت المعرفة بالله والمحبة له والأنس به أورثت صاحبها الانقطاع إلى الله تعالى بالكلية على كل حال، كان بعضهم لا يزال منفردا في بيته خاليا بربه فقيل له: أما تستوحش ؟ قال: كيف أستوحش وهو يقول: أنا جليس من ذكرني.( لطائف المعارف : صـ273).
  وقال الإمام ابن القيم رحمه الله:
  ومقصود الاعتكاف وروحُه عكوفُ القلبِ على الله تعالى، وجمعيَّتُه عليه، والخلوةُ به، والانقطاعُ عن الاشتغال بالخلق والاشتغال به وحده سبحانه، بحيث يصير ذِكره وحبه، والإقبالُ عليه فى محل هموم القلب وخطراته، فيستولى عليه بدلَها، ويصير الهمُّ كُلُّه به، والخطراتُ كلُّها بذكره، والتفكُر فى تحصيل مراضيه وما يُقرِّب منه، فيصيرُ أُنسه بالله بدَلاً عن أُنسه بالخلق، فيعده بذلك لأنسه به يوم الوَحشة فى القبور حين لا أنيس له، ولا ما يفرحُ به سواه، فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم.( زاد المعاد : جـ2صـ87).
   2- أن فى هذه الأيام ليلة القدر:
    قال تعالى: (    إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ).
      (سورة القدر:1-5).
6- من الأعمال الفاضلة فى هذه الأيام العشر الدعاء:
  من الأعمال المستحبة فى هذه الليالى العشر الإكثار من الدعاء ، فالدعاء عبادة لله عز وجل ، وقد بين لنا المولى سبحانه وتعالى أنه قريب من عباده يستجيب لهم إذا دعوه فقال جل وعلا:(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ).( سورة البقرة : الآية: 186 )
   وقال تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ).( سورة غافر : الآية : 60).
  وأخرج الحاكم فى المستدرك بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : أفضل العبادة الدعاء).
  وأخرج أبو دواد فى سننه عن النعمان بن بشير ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الدعاء هو العبادة ، قال ربكم ادعوني أستجب لكم ".( أخرجه أبو داود في سننه وصححه الألبانى فى صحيح سنن أبى دواد حديث رقم 1479).
  وقال يحيى بن أبي كثير رحمه الله : أفضل العبادة كلها الدعاء.
  وروى أبو معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه: أنه كان يواظب على حزبه من الدعاء كما يواظب على حزبه من القرآن.
  وقال ابن مسعود رضي الله عنه: لكل شيء ثمرة ، وثمرة الصلاة الدعاء.(التمهيد لما فى الموطأ من المعانى والأسانيد:جـ10 صـ300)0
  فيستحب للإنسان الإكثار من الدعاء فى هذه الأيام والليالى المباركة:
  فعن أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : إن وافقني ليلة القدر فماذا أقول ؟ فقال : " قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني ".( أخرجه الترمذي فى سننه وصححه الألبانى فى صحيح سنن الترمذي حديث رقم 3513).
  قال الإمام ابن رجب رحمه الله:
  وإنما أمر بسؤال العفو في ليلة القدر بعد الاجتهاد في الأعمال فيها و في ليالي العشر لأن العارفين يجتهدون في الأعمال ثم لا يرون لأنفسهم عملا صالحا و لا حالا و لا مقالا فيرجعون إلى سؤال العفو كحال المذنب المقصر.
  قال يحيى بن معاذ رحمه الله: ليس بعارف من لم يكن غاية أمله من الله العفو.
 (إن كنت لا أصلح للقرب ... فشأنك عفو عن الذنب).( لطائف المعارف : صـ228).
  العَفُوّ: من أسماء الله تعالى، وهو المتجاوز عن سيئات عباده، الماحي لآثارها عنهم، وهو يحب العفو، فيحب أن يعفو عن عباده، ويحب من عباده أن يعفو بعضهم عن بعض، فإذا عفا بعضهم عن بعض عاملهم بعفوه، وعفوه أحب إليه من عقوبته، فالرحمة من صفات الذات والغضب من صفات الفعل، فكان النبي r يقول: "أعوذ برضاك من سخطك، وعفوك من عقوبتك".( أخرجه مسلم فى صحيحه ).
  قال يحيي بن معاذ - رحمه الله -: "لو لم يكن العفو أحب الأشياء إليه لم يبتل بالذنب أكرم الناس عليه"( لطائف المعارف : صـ228).
  قال الإمام  ابن رجب رحمه الله:
  قال سفيان الثوري رحمه الله :"الدعاء في تلك الليلة أحب إليَّ من الصلاة".
  ومراده: أن كثرة الدعاء أفضل من الصلاة التي لم يكثر فيها الدعاء، وإن قرأ ودعا كان حسناً.
  وقد كان النبي r يتهجَّد في ليالي رمضان، ويقرأ قراءة مرتَّلةً، لا يمر بآية فيها رحمة إلا سأل، ولا بآية فيها عذاب إلا تعوَّذ، فجمع بين الصلاة والقراءة والدعاء والتفكُّر، وهذا أفضل الأعمال وأكملها في ليالي العشر وغيرها... والله أعلم" ( لطائف المعارف : صـ228).
  كانت هذه بعض الأعمال الصالحة التى يستحب فعلها فى هذه الأيام والليالى العشر المباركة وبيان فضلها ، نسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه ، وأن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال اللهم آمين.



سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
والله من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل                                       
                                                                                             

                                                                                             كتبه
أبو معاذ أحمد بن عرفة
محاضر بوزارة الأوقاف
ومعيد بقسم الفقه المقارن جامعة الأزهر
وعضو الجمعية الفقهية السعودية
00201119133367

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق