الأحد، 10 سبتمبر 2023

الفتاوى الإلكترونية وخطورتها على الفرد والمجتمع

 الفتاوى الإلكترونية وخطورتها على الفرد والمجتمع
إن للفتوى في الإسلام منزلة عظيمة، ولما لا وهي توقيع عن رب العالمين، وبيان لحكم الله تعالى في الوقائع والنوازل والقضايا المستجدة وغيرها.
ولذا كان للفتوى خطورتها على الفرد والمجتمع، لا سيما إذا كانت من غير المتخصص، والذي يتجاسر ويتجرأ على الفتوى والقول على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بغير علم، وهذا مما نراه ونشاهده وللأسف الشديد كل يوم في ظل انتشار مواقع التواصل الاجتماعي، ووسائل الإعلام المختلفة المقروءة والمسموعة والمرئية.
وعندما نتأمل حال السلف الصالح رضوان الله عليهم نجدهم يتورعون عن الفتوى، وعدم الخوض فيها، وإحالة السائل إلى غيرهم، وغيرهم يحيل إليهم وهكذا، وهذا كله منهم لعلمهم بمدى خطورة الفتوى ومكانتها، ومن ذلك ما جاء عن ابن أبي ليلى رحمه الله قال: أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أراه قال في المسجد، فما كان منهم محدث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث، ولا مفت إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا.
ومن صور الفتوى ومجالاتها الفتاوى عبر شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، وذلك من خلال المواقع المتخصصة، ومواقع العلماء وطلبة العلم هنا وهناك، وهذه الفتاوى الإلكترونية لها خطورتها إذ أن من قواعد الفتوى وضوابطها أن تختلف باختلاف الزمان والمكان والعرف والعادة، وكذلك تختلف الفتوى بحسب الأشخاص والأحوال والبلدان، ولذلك نرى العلماء رحمهم الله تعالى يحذرون من مجرد الفتوى بالمنقول من الكتب والجمود عليه دون مراعاة لتغير الحال والعرف.
وقد بين الإمام ابن القيم رحمه الله أهمية الفتوى ومكانتها ومنزلتها في شريعة الإسلام، وأنها تتغير بتغير الزمان والمكان والعرف والعادة حيث قال: (فصلٌ: في تغيّر الفتوى، واختلافها بحسب تغيّر الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد.
ثم قال: (هذا فصلٌ عظيمُ النفع جدًا، وقع بسبب الجهلِ به غَلَطٌ عظيم على الشريعة أوْجَبَ من الحرج والمشقة وتكليفِ ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي هي في أعلى رُتَب المصالح لا تأتي به.
فإنَّ الشريعة مَبْنَاها وأساسَهَا على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عَدْلٌ كلُّها، ورحمةٌ كلها، ومصالحُ كلها، وحكمةٌ كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجَوْر، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة وإن أُدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عَدْل اللَّه بين عبادة، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتَمَّ دلالةٍ وأصدقَهَا...) إعلام الموقعين، ٣/ ٣ وما بعدها).
كما أنه لا بد من مراعاة تغير العرف وأحوال الناس وعاداتهم، وأنه لا ينبغي الجمود على مجرد المنقول في الكتب دون مراعاة ذلك، وفي هذا يقول الإمام القرافي رحمه الله حيث قال: (فمهما تجدد من العرف؛ اعتبِرْه, ومهما سقط؛ أسقِطْه , ولا تجمُد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك؛ لا تُجرِه على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده، وأجْرِه عليه، وأفته به دون عرف بلدك والمقررِّ في كتبك، فهذا هو الحق الواضح, والجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين).(الفروق، ١/ ٣٢١).
ثم علق الإمام ابن القيم رحمه الله على ذلك فقال: (ومَن أفتى الناسَ بمُجرّد المنقول في الكتب -على اختلاف عُرْفهم ، وعوائدهم ، وأزمنتهم ، وأمكنتهم ، وأحوالهم، وقرائن أحوالهم-؛ فقد ضلّ وأضلّ، وكانت جنايتُه على الدين أعظمَ مِن جناية مَن طبّب الناسَ –كلَّهم- على اختلاف بلادهم ، وعوائدهم ، وأزمنتهم ، وطبائعهم - بما في كتابٍ مِن كُتُب الطِّبِّ- على أبدانهم!
بل هذا الطبيبُ الجاهلُ - وهذا المفتي الجاهلُ- أضرُّ ما على أديانِ الناسِ وأبدانِهم - والله المستعان). (إعلام الموقعين، ٣ / ٧٨).
وعليه فإن الناظر في هذه الفتاوى الإلكترونية المنشورة على شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي يجد أن تختلف من بلد إلى أخرى، ومن سائل إلى آخر، وكذلك هيئة الفتوى مختلفة، فقد تكون هيئة الفتوى في بلد، والسائل في بلد، وقد يختلف المذهب الفقهي المفتى به في هذه البلد عن الأخرى، وكذلك حال السائل أيضا.
وبناء على ما سبق فإنه ينبغي أن يكون نقل الفتوى من متخصص يعلم ما هو منشور، ويميز بين الصحيح وغيره، وذلك حسب السائل مع مراعاة عرف أهل كل بلد، فإن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعرف والعادة.
كذلك لا بد أن تكون هذه المواقع المتخصصة في الفتاوى هي لهيئات علمية معروفة، وبإشراف من أهل العلم المشهود لهم في مجال الفتوى، وأن تكون هناك رقابة على ما ينشر من فتاوى عبر مواقع التواصل الاجتماعي هنا وهناك سواء من قبل المتخصصين أو غيرهم، وذلك عملا على وحدة الأمة والحذر من الفرقة والاختلاف.
وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه اللهم آمين يارب العالمين
والله من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل
كتبه
د: أحمد عرفة
عضو هيئة التدريس بقسم الفقه المقارن
بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنين بالديدامون شرقية
جامعة الأزهر الشريف

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق