الجمعة، 23 ديسمبر 2011

صلة الأرحام تزيد في الأعمار وتبارك الأرزاق


صلة الأرحام تزيد في الأعمار وتبارك الأرزاق
د / أحمد عرفة
عناصر الخطبة:
1-    فضائل صلة الرحم في القرآن والسنة.
2-    ما هي الرحم التي تحب صلتها وتحرم قطيعتها.
3-    التحذير من قطيعة الأرحام وخطورة ذلك.
الموضوع وأدلته
أولاً: فضائل صلة الرحم في القرآن والسنة:
قال الله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً)
 [النساء: 1].
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) يقول: اتقوا الله الذي تساءلون به، واتقوا الأرحام وصلوها.
وعن عكرمة في قوله: (الذي تساءلون به والأرحام) قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: صلوا أرحامكم فإنه أبقى لكم في الحياة الدنيا، وخير لكم في آخرتكم).
وأخرج ابن جرير عن الضحاك أن ابن عباس كان يقرأ (والأرحام) يقول: اتقوا الله لا تقطعوها.
وقال تعالى: (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب. الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق. والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب. والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار. جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آباءهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب. سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) [الرعد: 19-24].
وقال سبحانه: (فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون) [الروم: 38].
قال سعيد بن جبير في قوله تعالى: (والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل) يعني من الإيمان بالنبيين وبالكتب كلها ويخشون ربهم يعني يخافون من قطع ما أمر الله به أن يوصل أي كالرحم ويخافون سوء الحساب يعني شدة العذاب.

وأما عن فضل صلة الرحم في السنة المطهرة فإن فضلها عظيم وثوابها كبير كما بين ذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة من سنته الشريفة ومن ذلك الآتي:
1- صلة الرحم تزيد في العمر وتبارك في الرزق:
أخرج البخاري        ومسلم عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سره أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه) [ينسأ معناه: يؤخر له في أجله ويزداد له في عمره].
وأخرج الإمام أحمد في مسنده والبيهقي عن عائشة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلة الرحم، وحسن الخلق، وحسن الجوار، يعمرن الديار، ويزدن في الأعمار) [صححه العلامة في صحيح الجامع (3767)].
وأخرج الطيالسي عن عمرو بن سهل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلة القرابة مثراة في المال، محبة في الأهل، منسأة في الأجل) [صححه العلامة الألباني في صحيح الجامع (3768)].
ومما قاله العلماء في معنى زيادة العمر وبسط الرزق الواردين في هذه الأحاديث ما يلي:
1- أن المقصود بالزيادة أن يبارك الله تعالى في عمر الإنسان الواصل ويهبه قوة في الجسم ورجاحة في العقل، ومضاء في العزيمة فتكون حياته حافلة بجلائل الأعمال.
2- أن الزيادة على حقيقتها فالذي يصل رحمه يزيد الله له في عمره ويوسع له في رزقه.
قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم ج16، ص88:
وأما التأخير في الأجل ففيه سؤال مشهور، وهو أن الآجال والأرزاق مقدرة لا تزيد ولا تنقص (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) [الأعراف: 34].
وأجاب العلماء بأجوبة الصحيح منها أن هذه الزيادة بالبركة في عمره، وبالتوفيق للطاعات، وعمارة أوقاته بما ينفعه في الآخرة، وصيانتها عن الضياع في غير ذلك والثاني أنه بالنسبة إلى ما يظهر للملائكة وفي اللوح المحفوظ ونحو ذلك، فيظهر لهم في اللوح أن عمره ستون سنة إلا أن يصل رحمه فإن وصلها زيد له أربعون، وقد علم الله سبحانه وتعالى ما سيقع له من ذلك وهو من معنى قوله تعالى: (يمحو الله ما يشاء ويثبت) [الرعد: 39] فبالنسبة إلى علم الله تعالى وما سبق له قدرة لا زيادة بل هي مستحيلة، وبالنسبة إلى ما ظهر للمخلوقين تتصور الزيادة وهو مراد الحديث.
2- صلة الرحم دليل على الإيمان بالله واليوم الآخر:
أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت).
3- من وصل رحمه وصله الله عز وجل:
أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله عز وجل: أنا الله وأنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسماً من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته- أو قال: "بتته" أي قطعته).
4- أفضل الصدقة الصدقة على الأرحام:
أخرج ابن خزيمة والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم عن أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الصدقة صدقة على ذي الرحم الكاشح) [صححه العلامة الألباني في صحيح الجامع (1110)].
ومعنى الحديث: أن أفضل الصدقة على ذي الرحم الذي اضمر العداوة في كشحه؛ لأنها تكون صلة وصدقة لذي رحم مقاطع.
5- مضاعفة ثواب الصدقة على ذوي الأرحام:
أخرج الإمام أحمد في مسنده والترمذي في سننه بسند صحيح عن سلمان بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي الرحم اثنتان = صدقة وصلة) [صححه العلامة الألباني في صحيح الجامع (3858)].
وأخرج الطيالسي عن سلمان بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صدقة ذي الرحم على ذي الرحم صدقة وصلة) [حسنه العلامة في صحيح الجامع (3763)].
قال الإمام المناوي في فيض القدير ج4، ص253:
وفئة التصريح بأن العمل قد يجمع ثواب عملين لتحصيل مقصودهما به، فلعامله سائر ما ورد في ثوابهما بفضل الله ومنته.
6- صلة الرحم سبب من أسباب دخول الجنة:
أخرج الإمام الترمذي في سننه وقال: حديث حسن صحيح عن عبدالله بن سلام رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام).
وقال صلى الله عليه وسلم: (أطب الكلام، وأفش السلام، وصل الأرحام، وصل بالليل والناس نيام، ثم ادخل الجنة بسلام) [رواه ابن حبان وصححه الألباني في صحيح الجامع (1019)].
7- صل رحمك وإن قطعك:
أخرج الإمام أحمد في مسنده بإسناد جيد عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أخبرني بفواضل الأعمال؟ فقال: (يا عقبة صل من قطعك، وأعط من حرمك، وأعف عمن ظلمك).
وأخرج البخاري وغيره عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها).
وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله إن لي قرابة، أصل ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إليّ، وأحلم عليهم ويجهلون علي، فقال: إن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل- الرماد الحار- ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك).
ثانياً: ما هي الرحم التي تجب صلتها وتحرم قطيعتها؟:
اختلف العلماء في حد الرحم التي تجب صلتها وتحرم قطيعتها على قولين:
الأول: قالوا بأن الرحم التي تجب صلتها خاصة بكل رحم محرم بحيث لو كان أحدهما ذكراً والآخر أنثى حرمت مناكحتها  وعلى هذا القول لا يدخل أولاد الأعمام ولا أولاد الأخوال في الأرحام.
الثاني: قالوا بأن الرحم تطلق على الأقارب الذين يجمعك وإياهم نسب واحد سواء كان ذا محرم أم بينك وبينه توارث أم لا وهذا هو الصواب الذي رجحه النووي والقرطبي وابن حجر وغيرهم ويستدل بصحة هذا القول بحديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنكم ستفتحون أرضاً يذكر فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيراً فإن لهم ذمة ورحماً) رواه مسلم.
فالرحم التي توصل ثلاثة أنواع:
1- رحم عامة: وهم من تربطك بهم علاقة الإسلام وهؤلاء كما يقول الإمام القرطبي: يجب مواصلتهم بملازمة الإيمان والمحبة لأهله ونصرتهم، والنصيحة لهم وترك مضارتهم.
2- رحم خاصة: وهي رحم القرابة من طرفي الرجل أبيه وأمه وتجب لهم من الحقوق ما للعامة وزيادة كالنفقة وتفقد أحوالهم وترك التغافل عن أحوالهم وتعاهدهم في أوقات ضروراتهم.
3- رحم القريب غير المسلم: فأجاز الإسلام صلتهم بالبر والإحسان إليهم وليس ذلك بمحرم ولا منهي عنه لأن مجرد فعل المعروف معهم وصلتهم لا يستلزم المودة والتحابب المنهي عنه والدليل على ذلك قوله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) [الممتحنة: 8].
قال العلماء: وحقيقة الصلة العطف والرحمة، فصلة الله سبحانه وتعالى عبارة عن لطفه بهم ورحمته إياهم وعطفه بإحسانه ونعمه أو صلتهم بأهل ملكوته الأعلى وشرح صدورهم لمعرفته وطاعته.
وقال القاضي عياض: ولا خلاف أن صلة الرحم واجبة في الجملة وقطيعتها معصية كبيرة.
وقال الإمام النووي: واختلفوا في حد الرحم التي تجب صلتها فقيل: هو كل رحم محرم بحيث لو كان أحدهما ذكراً أو أنثى حرمت مناكحتها، وقيل: هو عام في كل رحم من ذوي الأرحام في الميراث يستوي في ذلك المحرم وغيره وهو الصواب. [شرح صحيح مسلم، ج16، ص87].
وقال الإمام النووي رحمه الله: صلة الرحم هي الإحسان إلى الأقارب على حسب حال الواصل والموصول فتارة تكون بالمال وتارة بالخدمة وتارة بالزيادة والسلام وغير ذلك.
ثالثاً: التحذير من قطيعة الرحم وخطورة ذلك:
قال تعالى: (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم. أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم) [محمد: 22، 23].
وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك، قالت: بلى، قال: فذاك لك، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرءوا إن شئتم: (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم. أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم) [محمد: 21- 23].
وأخرج الإمام الترمذي في سننه والحاكم في المستدرك وقال: صحيح الإسناد عن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من ذنب أجدر أي أحق- أن يجعل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم).
وأخرج البخاري ومسلم عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة قاطع) قال سفيان: يعني قاطع رحم.
وأخرج الإمام أحمد في مسنده بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أعمال بني آدم تعرض كل خميس وليلة جمعة فلا يقبل عمل قاطع رحم).
وأخرج أبو يعلى بإسناد جيد عن رجل من خثعم قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في نفر من أصحابه فقلت: أنت الذي تزعم أنك رسول الله؟ قال: "نعم" قال: قلت: يا رسول الله، أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: الإيمان بالله، قلت: يا رسول الله، ثم مه؟ قال: "ثم صلة الرحم" قلت: يا رسول الله: أي الأعمال أبغض إلى الله؟ قال: "الإشراك بالله" قلت: يا رسول الله: ثم مه؟ قال: "قطيعة الرحم" قلت: يا رسول الله: ثم مه؟ قال: "ثم الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف").
وروي عن الباقر أن أباه زين العابدين رضي الله عنهما قال: لا تصاحب قاطع الرحم فإني وجدته ملعوناً في كتاب الله في ثلاثة مواضع:
1- الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون) [البقرة: 27].
2- والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار) [الرعد: 25].
3- فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم. أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم) [محمد: 22، 23].
آية سورة القتال واللعن فيها صريح والرعد واللعن فيها بطريق العموم لأن ما أمر الله به أن يوصل يشمل الأرحام وغيرها، والبقرة واللعن فيها بطريق الاستلزام إذ هو من لوازم الخسران.
وقد نقل الإمام القرطبي في تفسيره اتفاق الأمة على وجوب صلة الرحم وحرمة قطعها. (الزواجر عن اقتراف الكبائر: ج2، ص138).


والله من وراء القصد
وهو حسبنا ونعم الوكيل

 للتواصل مع الكاتب
0119133367
Ahmedarafa11@yahoo.com

تذكير الأبرار بحقوق الجار


تذكير الأبرار بحقوق الجار
د / أحمد عرفة
عناصر الخطبة:
1-    الوصية بالجار في القرآن والسنة.
2-    حقوق الجار فى الإسلام
الموضوع وأدلته
أولاً: الوصية بالجار في القرآن والسنة:
قال تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً) [النساء: 36].
قطوف من أقوال السلف في قوله تعالى: (والجار ذي القربى والجار الجنب):
عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: (والجار ذي القربى) يعني الذي بينك وبينه قرابة، (والجار الجنب) الذي ليس بينك وبينه قرابة.
وقال بعضهم: (والجار ذي القربى) يعني المسلم، و (الجار الجنب) اليهودي والنصراني.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (والجار ذي القربى) يعني المرأة.
وقال مجاهد في قوله (والجار الجنب) يعني الرفيق في السفر.
وأخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورثه).
أي: ظننت أنه سيبلغني عن الله الأمر بتوريث الجار جاره، وفي هذا توكيد عظيم على الحث على رعاية حقوقه.
وأخرج الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره) [صححه العلامة الألباني في صحيح الجامع (3270)].
وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره) وفي رواية لمسلم: (فليحسن إلى جاره).
وأخرج الإمام الترمذي في سننه بسند صحيح عن ابن عمرو رضي الله عنهما أنه ذبحت له شاة في أهله، فلما جاء قال: أهديتم لجارنا اليهودي؟ أهديتم لجارنا اليهودي؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) [صححه العلامة الألباني في إرواء العليل (891)].
وأخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن!) قيل: من يا رسول الله؟ قال: (الذي لا يأمن جاره بوائقه) البوائق: الغوائل والشرور، والمفرد: بائقة.
وأخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها، وتعاهد جيرانك).
وأخرج الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (ما تقولون في الزنا؟) قالوا: حرام حرمه الله ورسوله، فهو حرام إلى يوم القيامة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره، قال: (ما تقولون في السرقة؟) قالوا: (حرمها الله ورسوله فهي حرام) قال: (لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من بيت جاره). [صححه العلامة الألباني في صحيح الجامع (5043)].
وأخرج البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: (أن تجعل لله نداً وهو خلقك) قلت: ثم أي؟ قال: (أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك)، قلت: ثم أي؟ قال: (أن تزاني حليلة جارك).
وأخرج الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الجيران عند الله عز وجل خيرهم لجاره) [صححه العلامة الألباني في صحيح الجامع (3270)].
وأخرج الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل: (يا رسول الله! إن فلانة تصلي الليل، وتصوم النهار، وفي لسانها شيء، تؤذي جيرانها- سليطة) قال: (لا خير فيها هي في النار) وقيل له: (إن فلانة تصلي المكتوبة، وتصوم رمضان، وتتصدق بالأثوار وليس بها شيء غيره، ولا تؤذي أحداً قال: (هي في الجنة).
ولفظ الإمام أحمد: (ولا تؤذي بلسانها جيرانها).
بالأثوار: هو اللبن الجامد المستحجر.
[صححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب (2560)].
وأخرج الإمام الترمذي في سننه بسند حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يأخذ عني هذه الكلمات فيعمل بهن أو يعلم من يعمل بهن) فقال أبو هريرة: قلت: أنا يا رسول الله، فأخذ بيدي فعد خمساً فقال: (اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمناً، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلماً، ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب). [حسنه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة (930)].
أخي: الجيران ثلاثة:
قال العلماء: (الجيران ثلاثة: جار له حق واحد، وجار له حقان، وجار له ثلاثة حقوق).
فالجار الذي له ثلاثة حقوق هو الجار المسلم ذو الرحم، فله حق الجوار، وحق الإسلام، وحق القرابة، وأما الذي له حقان، فالجار المسلم له حق الجوار وحق الإسلام. وأما الذي له حق واحد فالجار المشرك. [انظر: الحقوق الإسلامية: محمود المصري ج2، ص573].
ثانياً: حقوق الجار فى الإسلام:
لقد شرع الإسلام للجار حقوقاً عظيمة منها:
الحق الأول: الإحسان إليه:
فقد أمر الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز بالإحسان إلى الجيران فقال سبحانه: (وبالوالدين إحساناً وذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب) [النساء: 36].
وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره).
وأخرج البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره) فإكرامك لجيرانك دليل على إيمانك.
فالإحسان إلى الجار أمر مطلوب ولو كان شيئاً يسيراً، بل حتى ولو كان كراع شاة أو مرق لحم وذلك لما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة).
قال الجوهري: (الفرس من البعير كالحافر من الدابة) قال: (وربما استعير في الشاة).
الحق الثاني: أن يحب لجاره ما يحب لنفسه من الخير:
إن من الإحسان إلى الجيران سلامة القلب عليهم، وحب الخير لهم، فقد أخرج البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده، لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره ما يحب لنفسه).
وفي هذا تأكيد حق الجار، وأن الذي لا يحب لجاره ما يحب لنفسه من الخير فإنه ناقص الإيمان، وفي هذا غاية التحذير ومنتهى التنفير عن إضمار السوء للجار قريباً كان أو بعيداً.
إن من الإحسان إلى الجار الحرص على بذل الخير له قليلاً كان أو كثيراً، كما قال الله تعالى: (لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسراً) [الطلاق: 7].
الحق الثالث: كف الأذى عنه:
ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن) قيل: من يا رسول الله؟ قال: (الذي لا يأمن جاره بوائقه).
أي: لا يأمن شره وخطره، وفي رواية لمسلم قال: (لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه).
وهذا فيه تعظيم حق الجار ووجوب كف الأذى عنه، وأن إضراره من كبائر الذنوب، وعظائم المعاصي وقد عظم الله عز وجل إلحاق الأذى بالجار، وغلظ فيه العقوبة ففي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم؟ فقال: (أن تجعل لله نداً وهو خلقك) قلت: ثم أي؟ قال: (أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك) قلت: ثم أي؟ قال: (أن تزني حليلة جارك).
وروي أن رجلاً جاء إلى ابن مسعود رضي الله عنه فقال له: (إن لي جاراً يؤذيني ويشتمني ويضيق عليّ، فقال ابن مسعود: اذهب فإن عصى الله فيك فأطع الله فيه).
وشكا بعضهم كثرة الفأرة في داره فقيل له: لو اقتنيت هراً؟ فقال: أخشى أن يسمع الفأر صوت الهر فيهرب إلى دور الجيران فأكون قد أحببت لهم ما لا أحب لنفسي!!
فاتقوا الله عباد الله، وأحسنوا إلى جيرانكم، مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر، ابذلوا لهم الخير ما استطعتم وردوا عنهم الشر ما ملكتم، تلطفوا إليهم بالهدية والزيادة، فإن لم تجدوا خيراً تبذلونه فلا أقل من كف الشر عنهم. [الحقوق الإسلامية: محمود المصري، ج2، ص585].
الحق الرابع: احتمال الأذى:
قال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله: (واعلم أنه ليس حق الجوار كف الأذى فقط بل احتمال الأذى فإن الجار أيضاً قد كف أذاه فليس في ذلك قضاء حقه، ولا يكفي احتمال الأذى بل لابد من الرفق وإسداء الخير والمعروف، إذ يقال: إن الجار الفقير يتعلق بجاره الغني يوم القيامة فيقول: يا رب سل هذا لم منعني معروفه وسد بابه دوني) [الحقوق الإسلامية: المصري، ج2، ص586].
ولهذا تحمل السلف الصالح رضوان الله عليهم إيذاء جيرانهم وصبروا على ذلك:
فقد كان لمالك بن دينار رحمه الله جار يهودي فحول اليهودي مستحمه إلى جوار بيت مالك.. وكان الجدار متهدماً.. فكانت تدخل منه النجاسات.. ومالك يقوم على تنظيف هذه النجاسات.. وهو صابر على هذا الإيذاء.. وطالت المدة.. حتى أن اليهودي ضاق صبره من صبر مالك رحمه الله حتى قال له: يا مالك لقد آذيتك كثيراً.. وأنت صابر.. فما الذي حملك على هذا؟ فقال: قال رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) فندم اليهودي وأسلم، وحسن إسلامه.
[الآداب الإسلامية: محمد عبدالعاطي بحيري، ص266].
الحق الخامس: مواساته بالمال والطعام إذا احتاج أو افتقر:
قال الإمام أبو الليث السمرقندي رحمه الله: تمام حسن الجوار في أربعة:
أولها: أن يواسيه بما عنده.
ثانيها: أن لا يطمع فيما عنده.
ثالثها: أن يمنع أذاه عنه.
رابعها: أن يصبر على أذاه.
فينبغي على المسلم الحق أن يتفقد جاره وأن يواسيه بما عنده من مال إن كان محتاجاً فقد روى البخاري في الأدب المفرد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع).
وأخرج الإمام مسلم في صحيحه وأحمد في مسنده عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (يا أبا ذر إذا طبخت قدراً فأكثر المرقة، وتعاهد جيرانك، أو أقسم بين جيرانك).
وروي عن سفيان الثوري أنه قال: عشرة أشياء من الجفاء:
أولها: رجل أو امرأة يدعو لنفسه ولا يدعو لوالديه والمؤمنين.
والثاني: رجل يقرأ القرآن ولا يقرأ في كل يوم مائة آية.
والثالث: رجل دخل المسجد وخرج ولم يصل ركعتين.
والرابع: رجل يمر على المقابر ولم يسلم عليهم ولم يدع لهم.
والخامس: رجل دخل مدينة في يوم الجمعة ثم خرج ولم يصل الجمعة.
والسادس: رجل أو امرأة نزل في محلتهما عالم ولم يذهب إليه أحد ليتعلم منه شيئاً عن العلم.
والسابع: رجلان ترافقا ولم يسأل أحدهما عن اسم صاحبه.
والثامن: رجل دعاه رجل إلى ضيافة فلم يذهب إلى الضيافة.
والتاسع: شاب يضيع شبابه وهو فارغ ولم يطلب العلم والأدب.
والعاشر: رجل شبعان وجاره جائع ولا يعطيه شيئاً من طعامه.
[تنبيه الغافلين: ص94].
الحق السادس: ألا يمنع جاره من غرس خشبة في جداره:
إذا احتاج الجار إلى ذلك، فينبغي أن يسمح له بغرس هذه الخشبة، ولا يمنعه من الانتفاع بها فقد أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يمنع جار جاره أن يغرس خشبة في جداره) ثم قال أبو هريرة: (مالي أراكم عنها معرضين؟ والله لأرمين بها بين أكتافكم).
أي لأصرحن ولأحدثن بها بينكم مهما ساءكم ذلك وأوجعكم.
الحق السابع: نصحه وتوجيهه:
إذا رآه منحرفاً، أو رآه محتاجاً إلى نصيحته وإرشاداته، ونصحه وتوجيهه ضمن الأمور الواجبة له.. والحقوق التي ينبغي أن يفعلها المسلم لجاره المسلم وهي كما نص عليها حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبع جنازته) [رواه البخاري وأحمد وهو في صحيح الجامع (3151)].
الحق الثامن: تعظيم حرمة الجار وصيانة عرضه وعدم خيانته:
أخرج الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (ما تقولون في الزنا)؟ قالوا: حرام حرمه الله ورسوله فهو حرام إلى يوم القيامة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره). قال: (ما تقولون في السرقة)؟ قالوا: حرمها الله ورسوله فهي حرام. قال: (لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره).
الحق التاسع: مشاركته في أفراحه وأحزانه:
فإذا كان عند جاره مناسبة سارة فينبغي له أن يذهب إليه، وأن يشاركه ويقاسمه فرحه، ما لم يكن فيه معصية، وإذا ألمت به نازلة فينبغي له أن يحضره، وأن يشاركه ويقاسمه حزنه، ويواسيه بالكلمة الطيبة الصالحة ويشد من أزره، وكل هذا من حق المسلم أصلاً على أخيه المسلم، والجار أولى بهذه الحقوق من غيره). [الحقوق الإسلامية: المصري، ج2، ص597].
الحق العاشر: أن يعرض عليه البيت قبل غيره إذا أراد التحول عنه:
فإذا أراد أن ينتقل من داره فليعرضها على جاره قبل غيره، فقد يرغب ف شرائها، وكذلك أي أرض أو عقار، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كانت له أرض فأراد بيعها فليعرضها على جاره). [رواه ابن ماجة وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة (2358)].

والله من وراء القصد
وهو حسبنا ونعم الوكيل

 للتواصل مع الكاتب
0119133367
Ahmedarafa11@yahoo.com

التوبة وشروط قبولها


التوبة وشروط قبولها
عناصر الخطبة:
1-    الحث على التوبة في القرآن والسنة.
2-    التوبة النصوح وشروط قبولها.
3-    فوائد التوبة.
4-    من قصص التائبين.
الموضوع وأدلته
أولاً: الحث على التوبة في القرآن والسنة:
قال تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم) [الزمر: 53].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله عند تفسيره لهذه الآية:
هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة وإخبار بأن الله تبارك وتعالى يغفر الذنوب جميعاً لمن تاب منها ورجع عنها وإن كانت مهما كانت وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر. [تفسير ابن كثير ج4، ص58].
وقال عز وجل: (وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون) [النور: 31].
وقال سبحانه: (أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم) [المائدة: 74].
ودعا الله عز وجل الناس جميعاً إلى التوبة الصادقة والعودة إليه سبحانه حتى المشركين دعاهم إلى التوبة فقال سبحانه: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون) [التوبة: 11].
وقال سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جناتٍ تجري من تحتها الأنهار) [التحريم: 8].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله عند تفسيره لهذه الآية:
أي توبة صادقة جازمة تمحو ما قبلها من السيئات وتلم شعث التائب وتجمعه وتكفه عما كان يتعاطاه من الدناءات.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: التوبة النصوح أن يتوب من الذنب ثم لا يعود فيه أو لا يريد أن يعود فيه.
وسئل عمر عن التوبة النصوح فقال: أن يتوب الرجل من العمل السيئ ثم لا يعود إليه أبداً. [تفسير ابن كثير: ج4، ص391 وما بعدها].
وأخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة).

وأخرج الإمام مسلم في صحيحه عن الأغر بن يسار المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة).
وأخرج البخاري ومسلم عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فآيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد آيس من راحلته فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال- من شدة الفرح- اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح) [صحيح الجامع للألباني رقم 5033].
وأخرج الإمام الترمذي في سننه بسند صحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: (يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة) [صححه العلامة الألباني في صحيح الجامع (4338)].
وأخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها) [صحيح الجامع: 1871].
وأخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه).
وأخرج الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح عن الأغر بن يسار المزني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة).
وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعدون له في المجلس الواحد قبل أن يقوم: (رب اغفر لي وتب عليَّ إنك أنت التواب الغفور مائة مرة) [رواه ابن ماجة بسند صحيح].
ثانياً: التوبة النصوح وشروط قبولها:
ما هي التوبة النصوح؟؟
قيل النصح في التوبة: هو تخليصها من كل غشٍ ونقصٍ، وفساد.
وقال الحسن البصري رحمه الله:
هي أن يكون العبد نادماً على ما مضى، مجمعاً على ألا يعود فيه.
وقال الكلبي: أن يستغفر باللسان، ويندم بالقلب، ويمسك بالبدن.

وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: النصح في التوبة يتضمن ثلاثة أشياء:
الأول: تعميم جميع الذنوب واستغراقها، بحيث لا تدع ذنباً إلا تناولته.
الثاني: إجماع العزم والصدق بكليته عليها، بحيث لا يبقى عنده تردد. ولا تلوم ولا انتظار، بل يجمع عليها كل إرادته وعزيمته مبادراً بها.
الثالث: تخليصها من الشوائب والعلل القادحة في إخلاصها، ووقوعها لمحض الخوف من الله وخشيته، والرغبة فيما لديه والرهبة مما عنده، لا كمن يتوب لحفظ حاجته وحرمته ومنصبه.
[صور من حياة الأنبياء والصحابة والتابعين: للشيخ محمود المصري، ج1، ص77].
وقال ذو النون المصري رحمه الله:
أن تضيق عليك الأرض بما رحبت حتى لا يكون لك قرار، ثم تضيق عليك نفسك كما أخبر الله تعالى في كتابه: (حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت...) [التوبة: 118].
وقال الجنيد رحمه الله: التوبة على ثلاثة أركان:
الندم على ما فات، والعزم على ترك المعاودة لما نهى الله عنه، والسعي في أداء المظالم.
وقال أبو بكر الواسطي: التوبة النصوح أن لا يبقى على صاحبها أثر من المعصية سراً ولا جهراً ومن كانت توبته نصوحاً لا يبالي كيف أمسى ولا كيف أصبح.
وقال ابن عطاء الله السكندري: التوبة توبتان: توبة الإنابة وتوبة الاستجابة، فتوبة الإنابة أن يتوب العبد خوفاً من عقوبته، وتوبة الاستجابة أن يتوب حياءً من كرمه سبحانه.
وقال محمد بن كعب القرظي: التوبة النصوح يجمعها أربعة أشياء: الاستغفار باللسان، والإقلاع بالأبدان، وإضمار ترك العود بالجنان، ومهاجرة سيء الإخوان. [الوصايا المنبرية: محمد بحيري ج2، ص32 وما بعدها].
وقال أبو علي الدقاق: التوبة على ثلاثة أقسام:
أولها: التوبة، وأوسطها: الإنابة، وآخرها: الأوبة.
فالتوبة بداية، والإنابة واسطة، والأوبة نهاية.
فكأن من تاب لخوف العقوبة كان صاحب توبة، ومن تاب طمعاً في الثواب أو رهبة من العقاب كان صاحب إنابة، ومن تاب مراعاة لأمر لا لرغبة في الثواب أو رهبة من العقاب كان صاحب أوبة.
وقال سهل بن عبدالله التستري: التوبة تبديل الحركات المذمومة بالحركات المحمودة ولا يتم ذلك إلا بالخلوة والصمت وأكل الحلال.
وقال أيضاً: التوبة ترك التسويف. [الوصايا المنبرية: ج2، ص32 وما بعدها].
وأخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: (يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم).
شروط التوبة:
قال الإمام النووي رحمه الله:
قال العلماء: التوبة واجبة من كل ذنب، فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى لا تتعلق بحق آدمي، فلها ثلاثة شروط: أحدها: أن يقلع عن المعصية. والثاني: أن يندم على فعلها. والثالث: أن يعزم ألا يعود إليها أبداً، فإن فقد أحد الثلاثة لم تصح توبته.
وإن كانت المعصية تتعلق بآدمي فشروطها أربعة: هذه الثلاثة وأن يبرأ من صاحبها، فإن كانت مالاً أو نحوه رده إليه، وإن كانت حد قذف ونحوه مكنه منه أو طلب عفوه وإن كانت غيبةً استحله منها. ويجب أن يتوب من جميع الذنوب، فإن تاب من بعضها صحت توبته عند أهل الحق من ذلك الذنب وبقي عليه الباقي.
ويزاد على هذه الشروط أن تكون في زمن تقبل فيه التوبة فإن تاب في زمن لا تقبل فيه التوبة لم تنفعه التوبة وذلك على نوعين:
النوع الأول: باعتبار كل إنسان بحسبه.
والنوع الثاني: باعتبار العموم.
أما الأول: فلابد أن تكون التوبة قبل حلول الأجل يعني الموت، فإن كانت بعد حلول الأجل فإنها لا تنفع التائب لقول الله سبحانه: (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن) [النساء: 18] هؤلاء ليس لهم توبة.
وأخرج الإمام الترمذي بسند حسن عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) أي: ما لم تصل الروح الحلقوم، فإذا وصلت الروح الحلقوم فلا توبة.
النوع الثاني: وهو العموم فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن: (الهجرة لا تنقطع حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها).
فإذا طلعت الشمس من مغربها لم تنفع أحداً توبة. قال الله سبحانه: (يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً) [الأنعام: 158] وهذا البعض هو طلوع الشمس من مغربها كما فسر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم. [شرح رياض الصالحين: للشيخ محمد صالح العثيمين ج1، ص62-67].
جاء رجل قد أسرف على نفسه في المعاصي إلى الإمام الزاهد إبراهيم بن أدهم قال أريد أن أتوب فماذا أصنع؟ قال له يا هذا: عليك بخمس خصال لتكون من أهل التوبة ولتترك المعاصي:
1- أما الأولى: إذا أردت أن تعصي الله فلا تأكل من رزق الله، قال الرجل سبحان الله كيف ذلك وهل الأرزاق كلها إلا لله يا إبراهيم (إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين) وما دابة في الأرض إلا على الله رزقها، فقال له: فهل يجدر بك أن تأكل رزقه وتعصيه.
2- الثانية: إذا أردت أن تعصي الله فابحث عن أرض ليست لله فاعصه هنالك فقال الرجل يا إبراهيم الأرض كلها لله (إن الأرض لله يورثها من يشاء) فكيف تقول ذلك قال إبراهيم: فهل يجدر بك أن تعصي الله في ملك الله.
3- إذا أردت أن تعصي الله فابحث عن مكان أمين لا يراك الله فيه قال كيف ذلك يا إبراهيم والله يقول: (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور) فقال إبراهيم فهل يجدر بك أن تعصي الله وأنت على يقين أن الله يراك.
4- إذا أردت أن تعصي الله وجاءت ملك الموت فقل له أخر قبض روحي حتى أتوب إلى الله قال كيف ذلك والله يقول: (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) فقال أنت تعلم ذلك وكيف تريد النجاة.
5- إذا أردت أن تعصي الله وجاءتك زبانية جهنم ليسوقوك إلى العذاب فلا تذهب معهم فبكى الرجل وانطلق وهو يقول: أستغفر الله وأتوب إليه أستغفر الله وأتوب إليه.
[من شروط فضل الدعاء لفضيلة الشيخ محمد حسان].
من علامات قبول التوبة
قال بعض الحكماء:
إنما تعرف توبة الرجل في أربعة أشياء:
أحدها:أن يمسك لسانه من الفضول والغيبة والكذب، والثاني : أن لا يرى لأحد في قلبه حسداً ولا عداوة، والثالث:  أن يفارق أصحاب السوء، والرابع : أن يكون مستعداً للموت نادماً مستغفراً لما سلف من ذنوبه مجتهداً في طاعة ربه.
وقيل لبعض الحكماء هل للتائب من علامة يعرف بها هل قبلت توبته؟ قال: نعم علامته أربعة أشياء:
أولها: أن ينقطع عن أصحاب السوء ويريهم هيبة من نفسه ويخالط الصالحين. والثاني: أن يكون منقطعاً من كل ذنب مقبلاً على جميع الطاعات. والثالث: أن يذهب فرح الدنيا كلها من قلبه ويرى حزن الآخرة كلها دائماً في قلبه، والرابع: أن يرى نفسه فارغاً عما ضمن الله تعالى له من الرزق مشتغلاً بما أمره به فإذا وجدت فيه هذه العلامات فهو من الذين قال الله تعالى في جهنم: (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين).
ووجب له على الناس أربعة أشياء:
أولها: أن يحبوه فإن الله تعالى قد أحبه، والثاني: أن يحفظوه بالدعاء على أن يثبته الله على التوبة، والثالث: أن لا يعيروه بما سلف من ذنوبه، والرابع: أن يجالسوه ويذاكروه ويعينوه.
ويكرمه الله تعالى بأربع كرامات:
إحداها: أن يخرجه الله تعالى من الذنوب، كأنه لم يذنب قط، والثاني: أن يحبه الله تعالى، والثالث: أن يسلط عليه الشيطان ويحفظه منه، والرابع: أن يؤمنه الخوف قبل أن يخرج من الدنيا لأنه عز وجل قال: (تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون) [فصلت: 30]. (تنبيه الغافلين: ص69 وما بعدها].
ثالثاً: فوائد التوبة
إن فوائد التوبة لا نستطيع أن نكتبها أو أن نحيط بها، لكن حسبنا أن نستشعر أن التوبة:
1- سبب لمحبة الله جل وعلا:
قال تعالى: (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) [البقرة: 222].
2- سبب للخروج من دائرة الظالمين:
قال تعالى: (ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون) [الحجرات: 11].
3- طاعة لأمر الله:
قال تعالى: (وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون) [النور: 31].
4- سبب لمحو الذنوب:
أخرج ابن ماجة في سننه بسند حسن عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) [حسنه الألباني في صحيح الجامع (3008)].
5- سبب للفلاح في الدنيا والآخرة:
قال تعالى: (فأما من تاب وآمن وعمل صالحاً فعسى أن يكون من المفلحين) [القصص: 67].
وقال تعالى: (إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئاً) [مريم: 60].
6- تبدل السيئات إلى حسنات:
قال تعالى: (إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً) [الفرقان: 79].
7- سبب في الرزق والقوة:
قال تعالى عن لسان نبيه نوح عليه السلام: (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً. يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً) [نوح: 10-12].
8- تجعل العبد يهرب من العذاب والوحشة إلى الأنس والرحمة:
 قال تعالى: (ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين) [الذاريات: 50].
9- سبب في الحياة الهادئة المطمئنة:
قال تعالى: (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضلٍ فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير) [هود: 3].
10- تطهر قلب التائب:
أخرج الإمام أحمد في مسنده والترمذي في سننه بسند حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو على قلبه وهو الران الذي ذكر الله تعالى: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) [المطففين: 14].
(السلسلة الذهبية: محمود المصري ج1، ص457 وما بعدها).
خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماشٍ فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة.. إن الجبال من الحصى

والله من وراء القصد
وهو حسبنا ونعم الوكيل
للتواصل مع الكاتب
0119133367
Ahmedarafa11@yahoo.com

وقفات مع مصدر العزة والكرامة


 وقفات مع مصدر العزة والكرامة
(القرآن الكريم)
د / أحمد عرفة
عناصر الخطبة:
1-    فضل القرآن في الكتاب والسنة.
2-    ما ورد عن سلفنا الصالح في فضل القرآن وأهله.
3-    الأدب مع القرآن الكريم.
4-    التحذير من هجر القرآن.
5-    حال سلفنا الصالح مع القرآن الكريم قراءة وتدبراً وفهماً وعملاً.
الموضوع وأدلته
أولاً: فضل القرآن في الكتاب والسنة:
إن المتأمل في القرآن الكريم يجد أن الله سبحانه وتعالى سماه نوراً لأن القلوب لا تضيء ولا تشرق إلا بالقرآن قال تعالى:
(وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) [الشورى: 52].
وقال عز وجل: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين. يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم) [المائدة: 15، 16].
القرآن الكريم شفاء قال ربنا تبارك وتعالى: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً) [الإسراء: 82].
في القرآن شفاء، وفي القرآن رحمة، لمن خالطت قلوبهم بشاشة الإيمان فأشرقت، وتفتحت لتلقى ما في القرآن من روح وطمأنينة وأمان.
في القرآن شفاء من الوسوسة والقلق والحيرة، فهو يصل القلب بالله، فيرضى ويستروح الرضا من الله والرضا عن الحياة، والقلق مرض، والحيرة نصب، والوسوسة داء، ومن ثم هو رحمة للمؤمنين.
وفي القرآن شفاء من الهوى والدنس والطمع والحسد ونزغات الشيطان.
وفي القرآن شفاء من الاتجاهات المختلة في الشعور والتفكير فهو يعصم العقل من الشطط.
وفي القرآن شفاء من العلل الاجتماعية التي تخلخل بناء المجتمعات.
(ري الظمآن ص166)
القرآن هداية قال المولى جل جلاله: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً) [الإسراء: 9].

وأخرج الإمام الترمذي والدارمي وغيرهما بسند فيه مقال عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ستكون فتن، قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله تعالى؛ فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل! من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم).
وأخرج ابن حبان بسند صحيح عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أوصني قال: (عليك بتلاوة القرآن فإنه نور لك في الأرض، وذخر لك في السماء).
وأخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه).
وأخرج الإمام مسلم في صحيحه عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران، تحاجان عن صاحبهما).
وأخرج البخاري في صحيحه عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه).
وأخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق فله أجران).
وأخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين).
وأخرج الإمام الترمذي في سننه، والحاكم في المستدرك بسند صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول (الم) حرف، ولكن: ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف).
صححه العلامة الألباني في صحيح الجامع (6469)
وأخرج الإمام الترمذي في سننه، والحاكم في المستدرك بسند حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يجيء القرآن يوم القيامة فيقول: يا رب حله، فيلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب زده، فيلبس حلة الكرامة، ثم يقول: يا رب ارض عنه، فيرضى عنه، فيقول: اقرأ وارق، ويزداد بكل آية حسنة).
حسنه الألباني في صحيح الجامع (8030)
وأخرج الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة بسند صحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لله تعالى أهلين من الناس، أهل القرآن هم أهل الله وخاصته).
صححه الألباني في صحيح الجامع (2165)
وأخرج أبو داود والترمذي بسند صحيح عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها).
وأخرج أبو نعيم في "الحلية" والبيهقي في "شعب الإيمان" عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سره أن يحب الله ورسوله فلينظر في المصحف).
حسنه الألباني في صحيح الجامع (6289)
وأخرج الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة يقول الصيام: أ] رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قيل: فيشفعان).
صححه العلامة الألباني في صحيح الجامع (3882)
ثانياً: آثار عن سلفنا الصالح في فضل القرآن وأهله:
قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: (لو طهرت قلوبكم ما شبعت من كلام ربكم سبحانه وتعالى).
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (من أراد أن يعلم أنه يحب الله فليعرض نفسه على القرآن فإن أحب القرآن فهو يحب الله فإنما القرآن كلام الله جل جلاله).
وقال خباب بن الأرت رضي الله عنه: (تقرب إلى الله ما استطعت فإنك لن تتقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه).
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: (كفى بالله محباً، وبالقرآن مؤنساً، وبالموت واعظاً، اتخذ الله صاحباً، ودع الناس جانباً، وقال: من لم يستأنس بالقرآن فلا آنس الله وحشته).
وعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: (ضمن الله عز وجل لمن قرأ القرآن، واتبع ما فيه، هداه الله من الضلالة، ووقاه سوء الحساب، ذلك بأن الله تعالى يقول: "فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى. ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى") [طه: 123-124]. (الوصايا المنبرية: ص2، ص180 وما بعدها)
وقال كعب الأحبار: (عليكم بالقرآن، فإنه فهم العقل، ونور الحكمة، وينابيع العلم، وأحدث الكتب عهداً بالرحمن).
وقال محمد بن واسع رحمه الله: (القرآن بستان العارفين، فأينما حلو منه، حلوا في نزهة).
وقال أحد الصالحين لتلميذه: (أتحفظ القرآن؟ قال: لا. فقال: واغوثاه، يا الله لمريد لا يحفظ القرآن، فبم يتنعم، فبم يترنم؟ فبم يناجي مولاه؟.
(الوصايا المنبرية: ج2، ص88)
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: (إن البيت ليتسع على أهله، وتحضره الملائكة، وتهجره الشياطين، ويكثر خيره أن يقرأ فيه القرآن، وإن البيت ليضيق على أهله، وتهجره الملائكة، وتحضره الشياطين، ويقل خيره أن لا يقرأ فيه القرآن).
وقال عبدالله بن عمير: (كان يقال أنقى الناس عقولاً قراء القرآن).
وقال قتادة: (لم يجالس هذا القرآن أحد إلا قام بزيادة أو نقصان، قضاء الله الذي قضى "شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً).
وقال أحمد بن أبي الحواري- رحمه الله-: (سمعت ابن عينية يقول: "لا تبلغون ذروة هذا الأمر حتى لا يكون شيء أحب إليكم من الله عز وجل، فمن أحب القرآن فقد أحب الله عز وجل).
وقال مالك بن دينار- رحمه الله-: (يا حملة القرآن ماذا غرس القرآن في قلوبكم، فإن القرآن ربيع المؤمن، كما أن الغيث ربيع الأرض، وقد ينزل الغيث من السماء إلى الأرض، فيصيب الحش فيكون فيه الحبة فلا يمنعها نتن موضعها أن تهتز وتخضر وتحسن، فيا حملة القرآن ماذا زرع القرآن في قلوبكم؟ أين أصحاب سورة، أين أصحاب سورتين، ماذا عملتم فيها؟؟).
ثالثاً: الأدب مع القرآن الكريم
1- الإخلاص لله عز وجل:
لأن الإخلاص هو روح الأعمال، وهو كمالها، وسبب قبولها، ولما سئل أحد الصالحين: ما غاية الإخلاص؟ قال: ألا تحب محمدة الناس.
وفي الحديث: (إن الله تعالى إذا كان يوم القيامة يقضي بين خلقه، فكل أمة جاثية، فأول من يدعى به رجل قد جمع القرآن، ورجل قتل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله تعالى للقارئ ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ فيقول: بلى يا رب، قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل والنهار، فيقول الله: كذبت، وتقول الملائكة كذبت، بل أردت أن يقال: فلان قارئ فقد قيل ذلك، فيؤمر به إلى النار). رواه الترمذي والحاكم وصححه.
2- أن يكون القارئ على طهارة:
فالطهارة من لوازم الأدب لقراءة القرآن الكريم قال تعالى: (إنه لقرآن كريم، في كتاب مكنون، لا يمسه إلا المطهرون) [الواقعة: 77-79].
3- أن يلبس القارئ أفضل الثياب:
قال تعالى: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد) [الأعراف: 31]. والمراد بالمسجد هنا قيل: كل صلاة، وقيل: المراد عند كل عبادة.. ولا شك أن قراءة القرآن من أعظم وأكرم العبادات وأفضلها.
4- أن يستعيذ القارئ بالله من الشيطان الرجيم:
قال سبحانه: (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) [النحل: 98].
أي إذا أردت قراءة القرآن والأمر هنا محمول على الندب وهو الأصح.
5- البسملة:
فيجب على القارئ أن يحافظ على قراءة البسملة عند ابتداء القراءة من أول السورة عدا سورة "براءة".
فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف انقضاء السورة، والشروع في غيرها بالبسملة، إلا في هذه السورة بالذات.
والسنة أن يقطع البسملة عما بعدها أي يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثم يتوقف ثم يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم يتوقف، ثم يبدأ بقراءة السورة التي يريد قراءتها، فإذا أردت أن تقرأ من وسط السورة مثلاً فيكتفي بالاستعاذة.
6- ترتيل القرآن:
قال تعالى: (ورتل القرآن ترتيلا) [المزمل: 4]، والترتيل هو قراءته على مهل مع تدبر وتفهم لحروفه، بحيث يتمكن السامع من عدها.
وقال تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته) [البقرة: 121].
قال الإمام الغزالي- رحمه الله-: (تلاوة القرآن حق تلاوته: أن يشترك فيها اللسان بتصحيح الحروف، والعقل بتفسير المعاني، والقلب بالاتعاظ، فاللسان يرتل، والعقل ينزمر، والقلب يتعظ).
7- تحسين الصوت عند تلاوة القرآن:
أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به).
وقال صلى الله عليه وسلم: (زينوا القرآن بأصواتكم) رواه أحمد في مسنده وابن ماجة في سننه وصححه الألباني في صحيح الجامع (3580).
وأخرج الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فسمع قراءة رجل فقال: "من هذا؟ فقيل: عبدالله بن قيس، فقال: لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود").
8- أن يعتني بالسور التي ورد لها فضل فيكثر من قراءتها:
كسورة الإخلاص مثلاً فقد ورد في فضلها أحاديث كثيرة منها:
ما أخرجه مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: (أيعجز أحدكم أن يقر ثلث القرآن في ليلة؟ فشق ذلك عليهم وقالوا: أينا يطيق ذلك يا رسول الله؟ فقال: من قرأ قل هو الله أحد في ليلته فقد قرأ ثلث القرآن).
قال بعض العلماء: إن القرآن أنزل أثلاثاً: ثلثاً منه وعد ووعيد، وثلثاً منه أسماء وصفات، وقد جمع قل هو الله أحد ثلثاً وهو الأسماء والصفات.
ومثل سورة الكهف: فقد ورد في فضلها أحاديث منها ما رواه مسلم عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حفظ عشر آيات من سورة الكهف عصم من الدجال) وفي بعض طرقه من آخر سورة الكهف.
ومثل آية الكرسي: كما أخرج مسلم في صحيحه عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا أبا المنذر أتدري أي آية في القرآن أعظم؟ قال: قلت: "الله لا إله إلا هو الحي القيوم" [البقرة: 255] قال: فضرب في صدري وقال: ليهنك العلم يا أبا المنذر).
ومثل سورة الفاتحة: كما أخرج الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده، ما أنزل في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في القرآن مثلها، إنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته).
9- استحباب طلب القراءة من حسن الصوت:
كما في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (اقرأ عليّ القرآن) فقلت: يا رسول الله، أقرأ وعليك أنزل؟ قال: (إني أحب أن أسمعه من غيري) قال: فقرأت عليه سورة النساء حتى قوله تعالى: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً) [النساء: 41] فقال: (حسبك الآن) فالتفت، فإذا عيناه تذرفان.
10- ومن آداب التلاوة: أن يمسك عن القراءة إذا تثاءب:
فإذا تثاءب أمسك عن القراءة حتى ينقضي التثاؤب ثم يقرأ.. قال مجاهد: وهو حسن ويدل عليه ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تثاءب أحدكم فليمسك بيده على فمه، فإن الشيطان يدخل).

11- ومن آداب التلاوة: أن يختار الأوقات المفضلة:
يقول الإمام النووي- رحمه الله-:
اعلم أن أفضل القراءة ما كان في الصلاة.. ومذهب الشافعي وغيره، أن تطويل القيام أفضل في الصلاة من تطويل السجود وغيره.
وأما القراءة في غير الصلاة: فأفضلها قراءة الليل.. والنصف الأخير من الليل أفضل من النصف الأول.
والقراءة بين المغرب والعشاء محبوبة.. وأما القراءة في النهار، فأفضلها بعد صلاة الصبح.. ولا كراهية في القراءة في وقت من الأوقات لمعنى فيه.
ويختار من الأيام: الجمعة والاثنين والخميس، ويوم عرفة، ومن الأعشار: العشر الأخير من رمضان، والعشر الأول من ذي الحجة، ومن الشهور رمضان.
12- ومن آداب التلاوة: أنه إذا مر بآية سجد سجدة:
جمهور العلماء على أن سجود التلاوة سنة وليس بواجب لما أخرجه البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه قرأ على المنبر يوم الجمعة بسورة (النحل) حتى إذا جاءت السجدة قال: يا أيها الناس، إنما نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه، ولم يسجد عمر. وهو المجمع عليه.
وثبت في الصحيحين عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: أنه قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم (النجم) فلم يسجد. وثبت في الصحيحين أيضاً أنه سجد في النجم، فدل على أنه ليس بواجب.
13- أن يتدبر القارئ في قراءته:
قيل لبعض السلف: إذا قرأت القرآن تحدث نفسك بأي شيء؟
فقال: أهناك شيء أحب إليَّ من كلام ربي حتى أحدث به نفسي.
(باختصار من كتاب: منهاج الصالحين في الآداب الإسلامية: ص64-79)
رابعاً: التحذير من هجر القرآن
قال تعالى: (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً. وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين وكفى بربك هادياً ونصيراً) [الفرقان: 30-31].
قال الإمام ابن القيم- رحمه الله-:
هجر القرآن أنواع: أحدها: هجر سماعه، والإيمان به، والإصغاء إليه، والثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه، وإن قرأه وأحسن به، والثالث: هجر تحكيمه، والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه، واعتقاد أنه لا يفيد اليقين، وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم، والرابع: هجر تدبره، وتفهمه، ومعرفة ما أراد المتكلم به منه، والخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب، وأدوائها، فيطلب شفاء دائه من غيره، ويهجر التداوي به، وكل هذا داخل في قوله تعالى: (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً) [الفرقان: 30] وإن كان بعض الهجر أهون من بعض.
(الفوائد لابن القيم ص94)
هجر سماع القرآن الكريم:
ورد في الأثر: (من استمع إلى آية من كتاب الله كتبت له حسنة مضاعفة، ومن تلاها كانت له نوراً يوم القيامة).
فأين نحن من سماع القرآن الكريم؟ انظر إلى المسلمين في هذه الأيام ما الذي يسمعونه؟ يسمعون الغناء الماجن الذي حرمه الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين. وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبراً كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم) [سورة لقمان: 6، 7).
قال أبو هريرة رضي الله عنه: (إن البيت الذي يقرأ فيه القرآن يتسع بأهله، وتحضره الملائكة وتهجره الشياطين، ويكثر خيره، وإن البيت الذي لا يقرأ فيه القرآن يضيق بأهله، وتهجره الملائكة، وتحضر الشياطين، ويقل خيره).
ومن هجر القرآن الكريم هجر تلاوته حق التلاوة وإتباع أحكامه قال الله عز وجل: (الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون) [البقرة: 131].
هجر تدبر القرآن الكريم:
قال تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) [محمد: 24].
وقال تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً) [النساء: 82].
وقال تعالى: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب) [ص: 29].
قال الحسن البصري- رحمه الله-: (والله ما تدبره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن أحدهم ليقول: قرأت القرآن كله، ما يرى له القرآن في خلق ولا عمل).
وعن ابن مسعود- رضي الله عنه- قال: (كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن).
وروى مالك عن نافع عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: (تعلم عمر رضي الله عنه البقرة في اثني عشرة سنة فلما ختمها نحر جزوراً لله، وطول هذه المدة ليس عجزاً من عمر ولا انشغالاً عن القرآن؛ فما بقي إلا أنه التدبر).
وعن مسروق قال: قال لي رجل من أهل مكة: هذا مقام أخيك تميم الداري صلى ليلة حتى أصبح أو كاد يقرأ آية يرددها ويبكي: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون) [الجاثية: 20].
وقال أبو سليمان الداري- رحمه الله-: (كان علي بن الفضيل لا يستطيع أن يقرأ سورة القارعة ولا تقرأ عليه).
وكان علي بن الفضيل بن عياض- رحمه الله- يقرأ في سورة الأنعام حتى بلغ قول الله عز وجل: (ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين) [الأنعام: 27]، وظل يرددها حتى مات فبكى عليه والده الفضيل وقال: أي ابناه والله ما قتل ابني إلا الخوف من عذاب الله وسمي قتيل القرآن.
هجر تحكيم القرآن الكريم والتحاكم إليه:
قال تعالى: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك...) [المائدة: 49].
وقال تعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر...) [النساء: 59].
هجر التداوي بالقرآن الكريم:
فالقرآن الكريم شفاء للقلوب وحياة للأبدان. قال تعالى: (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) [الرعد: 28].
وقال تعالى: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً) [الإسراء: 82].
قال علي بن أبي طالب- رضي الله عنه-: (لا خير في عبادة لا فقه فيها، ولا قراءة لا تدبر فيها) [الإحياء: 1/462 وما بعدها].
وقال الحسن البصري- رحمه الله-: (والله ما دون القرآن من غنى ولا بعد القرآن من فاقة) [الأحياء: 1/451].
خامساً: حال سلفنا الصالح- رضي الله عنهم- مع القرآن الكريم قراءة وتدبراً وفهماً:
عثمان بن عفان- رضي الله عنه-: أخرج ابن المبارك في الزهد وابن سعد في الطبقات وابن عساكر في تاريخه بسند صحيح عن سليمان بن يسار- رضي الله عنه- قال: قام عثمان بن عفان- رضي الله عنه- بعد العشاء فقرأ القرآن كله في ركعة لم يصل قبلها ولا بعدها.
أبو هريرة- رضي الله عنه-: عن عكرمة رضي الله عنه أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يسبح كل يوم اثنتي عشر ألف تسبيحة.
الإمام حمزة بن حبيب الزيات- رحمه الله- يقول: نظرت في المصحف حتى خشيت أن يذهب بصري.
الإمام أبو جعفر القارئ يزيد ابن القعقاع أحد القراء العشرة: عن نافع قال: لما غسل أبو جعفر القارئ، نظروا ما بين نحره إلى فؤاده مثل ورقة المصحف فما شك من حضره أنه نور القرآن.
شيخ الإسلام أبو بكر بن عياش يختم القرآن ثمانية عشر ألف ختمة:
قال الإمام الذهبي رحمه الله في كتابه "سير أعلام النبلاء": قد روي من وجوه متعددة أن أبا بكر بن عياش مكث نحواً من أربعين سنة يختم القرآن في كل يوم وليلة مرة.
قال يحيى اليماني: لما حضرت أبا بكر الوفاة بكت أخته، فقال لها: ما يبكيك؟ انظري إلى تلك الزاوية، فقد ختم أخوك فيها ثمانية عشر ألف ختمة.
قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم (1/79):
روينا عنه أنه قال لابنته عند موته، وقد بكت، يا بنيه، لا تبكي أتخافين أن يعذبني الله عز وجل وقد ختمت القرآن في هذه الزاوية أربعة وعشرين ألف ختمة.
ناصر السنة الإمام الشافعي رضي الله عنه يختم كل يوم ختمة، وفي رمضان ستين ختمة.
قال الإمام الذهبي رحمه الله: قال الربيع بن سليمان من طريقين عنه، بل أكثر، كان الشافعي يختم القرآن في شهر رمضان ستين ختمة.
وقال الحميدي: كان الشافعي يختم القرآن كل يوم ختمة.
الإمام عبدالرحمن ابن القاسم إمام مصر وصاحب الإمام مالك:
قال عنه أسد بن الفرات: كان ابن القاسم يختم كل يوم وليلة ختمتين، قال: فنزل بي حين جئت إليه عن ختمة؛ رغبة في إحياء العلم.
تميم الداري يقرأ القرآن في ركعة:
عن ابن سيرين: أن تميماً الداري كان يقرأ القرآن في ركعة.
وعن أبي المهلب: كان تميم الداري يختم القرآن في سبع.
وعن مسروق: قال لي رجل مسن أهل مكة: هذا مقام أخيك تميم الداري، صلى ليلة حتى أصبح، أو كاد- يقرأ آية، يرددها ويبكي (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون) [الجاثية: 21].
(انظر:  من يظلهم الله: للدكتور سيد حسين العفاني ج2، ص121- ص133)
والله من وراء القصد
وهو حسبنا ونعم الوكيل
للتواصل مع الكاتب
0119133367
Ahmedarafa11@yahoo.com