الأربعاء، 8 فبراير 2017

بالقراءة نحيا ونرقى د/ أحمد عرفة



بالقراءة نحيا ونرقى
إن المتأمل والمتدبر لآيات القرآن الكريم يجد أن أول ما نزل قول الله تبارك وتعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)(الفلق:1-5)، وعلى الرُّغم من أنَّنا أمة اقرأ فإننا نجد الكثير من أبناء هذه الأمة لا يقرأ، وربَّما يقرأ لكنَّه لا يقرأ المفيد من الكتب، بل يقرأ روايات أو قصصًا لا فائدة منها؛ بدعوى تسلية الوقت، وغير ذلك ممَّا نراه ونشاهده في واقعنا، وهذا إن دّل فإنما يدّل على أنَّنا نعيش حالة جفاء وبُعد عن القراءة والكتب، وقد يكون السبب في ذلك كثرة الوسائل المضيعة للوقت من الانشغال بالتلفاز، والجلوس لأوقات طويلة أمام وسائل التواصل الاجتماعي التي أضاعت أوقات الكثير من شباب الأمة اليوم، وكذلك نفتقد برامج التوعية في مدارسنا وجامعاتنا بأهمية القراءة ومكانتها، وتغيب ثقافة القراءة داخل البيوت والمؤسسات التربوية التي تربي النشء منذ صغره على حبِّ القراءة، فقد قالوا: التعليم في الصِّغر كالنَّقش على الحَجَرِ.
ولأهمية القراءة ودورها في نهضة الأمم نجد العلماء قد اهتموا واعتنوا بالكتاب، ووضعوه في المكانة اللائقة به، وفي ذلك يقول الجاحظ –رحمه الله-:" الكتاب نِعْمَ الأنيس في ساعة الوحدة، ونعم القرين ببلاد الغربة، وهو وعاء مليء علمًا، وليس هناك قرين أحسن من الكتاب، ولا شجرة أطول عمرًا ولا أطيب ثمرة ولا أقرب مجتنى من كتاب مفيد، والكتاب هو الجليس الذي لا يمدحك والصديق الذي لا يذمُّك، والرفيق الذي لا يَملُّك ولا يخدعك، إذا نظرت فيه أمتعك وشحذ ذهنك وبسط لسانك وجوَّد بيانك، وغذَّى روحك، ونمَّى معلوماتك، وهو المعلم الذي إنْ افتقرت إليه لم يحقرك، وإن قطعت عنه المادة لم يقطع عنك الفائدة.
ولو لم يكن من فضله عليك إلا حفظه لأوقاتك فيما ينفعك وصونها عمَّا يضرُّك من فضول النظر والكلام والاستماع والمخالطة ومجالسة مَنْ لا خير فيهم، لكان في ذلك على صاحبه أسبغ نعمة وأعظم منَّة، فالكتاب صديق يقطع أوقات فراغك في مؤانسة تنجيك من الوحدة المملة، كما ينقل إليك أخبار البلاد النائية فتعرف أنباءها كما تعرف أنباء بلدتك".
والقراءة هي وسيلة المعرفة وتطوير المهارات وتوسيع مدارك الإنسان من خلال الاطلاع على مجالات العلم المختلفة في شتى المعارف، وقد قالوا: مَنْ قرأ تكلَّم، فبالقراءة يحصل الإنسان المعارف والمعلومات التي من خلالها يستطيع أن يبتكر ويطوِّر مهاراته، وبدون القراءة يظلُّ الإنسان على حاله كما هو بمعلوماته القديمة لا يطور من نفسه ومعارفه، وفي ذلك يقول الإمام علي –رضي الله عنه-: كفى بالعلم شرفاً أن يدَّعيه مَنْ لا يُحسنه، ويفرح إذا نُسب إليه، وكفى بالجهل ذلاً أن يتبرَّأ منه مَنْ هو فيه، ويحزن إذا نُسب إليه. فالقراءة ترفع عن صاحبها الجهل وتُنير له الطريق، وبالتَّخلُّف عن القراءة والمعرفة يعيش الإنسان في غياهب الجهل الذي ربَّما تُؤدِّي به إلى الهلاك، فأساس كل فتنة وشر هو الجهلُ.
ولأهمية القراءة ومكانتها نجد أنها كانت سبباً في فك الأسرى في معركة بدر، وذلك حيث كان الرسول صلى الله عليه وسلم يطلب من الأسير المشرك الذي يريد فداء نفسه من الأسر تعليم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة!! فلنتأمل في هذا جيداً لندرك مدى أهمية القراءة والكتابة، وأنَّها من الضَّروريات في تقدُّم ونهوض أي أمة من الأمم.
ولقد ضرب سلف الأمة أروع الأمثلة في القراءة والشغف بها، ومن ذلك حال الإمام ابن الجوزي –رحمه الله- في المطالعة حيث يقول عن نفسه:" وإنِّي أُخبر عن حالي: ما أشبع من مُطالعة الكتب، وإذا رأيت كتابًا لم أره، فكأنِّي وقعتُ على كنز. ولقد نظرتُ في ثَبَتِ الكتب الموقوفة في المدرسة النِّظَامية، فإذا به يحتوي على نحو ستة آلاف مجلَّد، وفي ثبت كتب أبي حنيفة، وكتب الحُمَيدي، وكتب شيخنا عبد الوهاب بن ناصر، وكتب أبي محمد بن الخشَّاب -وكانت أحمالاً- وغير ذلك من كلِّ كتاب أقدر عليه، ولو قلت: إني طالعتُ عشرين ألف مجلد كان أكثر، وأنا بعدُ في الطَّلب" ثم يقول موصياً العالمَ وطالبَ العلم: "ليكن لك مكان في بيتك تخلو فيه، وتحادث سطور كتبك، وتجري في حلبات فكرك".
ولننظر إلى الإمام أبي الوفاء ابن عقيل الحنبلي وحاله مع القراءة؛ حيث يقول عنه الإمام ابن الجوزي-رحمه الله-: " كان دائم التشاغُل بالعلم، حتى إني رأيتُ بخَطِّه: إني لا يحلّ لي أن أُضيع ساعةً من عمري، حتى إذا تعطَّل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مُطالعة، أعملتُ فِكري في حالة راحتى وأنا مُسْتَطرِحٌ، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره. وإني لأجد من حِرصي على العلم وأنا في عَشْر الثمانين أشدّ ممَّا كنت أجده وأنا ابن عشرين سنة"، ونقلَ ابنُ رجب من "الفنون" لابن عقيل أنه قال عن نفسِه:" أنا أقصر بغاية جهدي أوقات أكلي، حتى أختار سفَّ الكعك وتحسيه بالماء على الخبز، لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ، توفّرًا على مطالعةٍ، أو تسطير فائدة لم أدركها فيه".  
فبالقراءة تحيا الأمم وترتقى المجتمعات وتبنى الحضارات، فما أحوجنا إلى توعية الجيل عن طريق وسائل الإعلام المختلفة المرئية والمقروءة والمسموعة بأهمية القراءة ومكانتها لتسعد الأمة وتنهض.
د/ أحمد عرفة
باحث دكتوراه بجامعة الأزهر
عضو الجمعية الفقهية السعودية
Ahmedarafa11@yahoo.com
نشر هذا المقال بجريدة عقيدتي في العدد الصادر بتاريخ 7/2/2017م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق