الخميس، 10 أغسطس 2017

الجمود الفقهي والحاجة للتجديد د/ أحمد عرفة



الجمود الفقهي والحاجة للتجديد
إنَّ الناظرَ على الساحة الفقهية -اليوم بين المشتغلين بالفقه الإسلامي والمتصدرين للفتوى- يجدُ أنَّ حالَ الكثير من هؤلاء: إما الجمودُ على مجرد المنقول في الكتب وعلى النصوص الشرعية نقلاً حرفياً، دون إعمال للعقل في فهم النص، ومراعاة تغير الفتوى وتغير الاجتهاد حسب مقتضيات العصر، وقد سماهم بعضُ المعاصرين بالظاهرية الجدد؛ لأنهم يأخذون بظواهر النصوص دون التأمل في معانيها وعللها ومقاصدها، ويَتَّهَمُون الرأي، ولا يرَون استخدامَه في فَهْمِ النصوص وتعليلها، وقد حَذَّر من ذلك الإمامُ ابن القيم –رحمه الله- فقال: "لا تجمد على المنقول في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك فلا تجره على عرف بلدك، وسله عن عرف بلده فأجره عليه وأفته به، دون عرف بلدك والمذكور في كتبك، قالوا: فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين"، وقال أيضاً: "ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل أضر ما على أديان الناس وأبدانهم والله المستعان" (إعلام الموقعين 3/78).
وعلى الجانب الآخر تجدُ على النقيض من هؤلاء فريقًا آخرَ يزعم بدعوى التجديد والتيسير على الناس أنَّه يريدُ الأنفعَ والأصلحَ لهم فتجدُه يجتهد دون ضوابط وفَهْمٍ صحيح للنص الشرعي وآليات علمية؛ فيفسد من حيث يريد الإصلاح، ويحدث من جراء تسيب وانفلات في الفتوى وربما يخرج بعضهم بكثير من الفتوى الشاذة والنقول غير المعتمدة في المذاهب الفقهية، أو بفهم معوج للأدلة الشرعية، وهذا ما نرفضه ولا نؤيده؛ لأنه ربما ترتب عليه جناية على النص الشرعي والطعن في ثوابت الشرع.
 وما نريده هنا ونؤكد عليه هو: أننا في حاجة إلى اجتهادٍ فقهي يناسبُ العصر بالفهم المنضبط للأدلة الشرعية وكيفية التعامل معها حسب ما قرره الأئمة المجتهدون في علم أصول الفقه ومقاصد الشريعة يراعي مقاصد الشريعة والنظر في علل الأحكام، والخروج باجتهاد فقهي منضبط يناسب العصر والواقع فالفتوى تتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والعرف والعادة، فيراعي عرف وعادة كل بلد، وأيضاً طبيعة السائل وأنَّ لكل سائل سؤاله وفتواه الخاصة به، وكذلك في الفتاوى المؤسسية كمؤسسات الزكاة مثلاً، وبين الفتاوى الفردية لفرد أو لشخص بعينه. وقد جاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام المادة (39): "إن الأحكام التي تتغير بتغير الأزمان هي الأحكام المستندة على العرف والعادة; لأنه بتغير الأزمان تتغير احتياجات الناس، وبناء على هذا التغير يتبدل أيضا العرف والعادة وبتغير العرف والعادة تتغير الأحكام".
ومن روائع الكتابات المتخصصة التي تناولت هذا الجانب بالتفصيل والبيان كتاب العلامة ابن القيم –رحمه الله- إعلام الموقعين عن رب العالمين الذي يحتاج أن يقرأه ويتأمله جيداً كل متخصص في العلوم الشرعية بصفة عامة والفقيه والمتصدر للفتوى بصفة خاصة، وانظر وتأمل ما قاله-رحمه الله- بعد أن ذكر أن الفتوى تختلف باختلاف الزمان والمكان والعوائد والأحوال، ما نصه: "هذا فصل عظيم النفع جداً، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة، أوجب من الحرج والمشقة، وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها". ثم يقول: " فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه وظله في أرضه وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله ص - أتم دلالة وأصدقها وهي نوره الذي به أبصر المبصرون وهداه الذي به اهتدى المهتدون..."(إعلام الموقعين 3/3).
فما أحوجنا إلى فقهٍ يُكتبُ بلغةٍ تناسبُ العصر، يَفهمه العامي والمتعلم، لا أنْ نجمد على مجرد المنقول في الكتب من سنين، وهذه مسئولية كبرى على عاتق المتخصصين في الفقه الإسلامي فهناك مسائل كثيرة في أبواب الفقه تحتاج إلى اجتهاد جديد يناسب العصر. والله من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل.
د/ أحمد عرفة
باحث دكتوراه بجامعة الأزهر
عضو الجمعية الفقهية السعودية

نشر هذا المقال بجريدة عقيدتي في العدد الصادر بتاريخ 18/7/2017م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق