الأربعاء، 25 يناير 2017

الاحتكار في ميزان الفقه الإسلامي- (الجزء الأول) د/ أحمد عرفة


الاحتكار في ميزان الفقه الإسلامي (1)

إن الناظر في الشريعة الإسلامية يجد أنها قد يسرت للناس سبل التعامل بالحلال لكي تكون أجواء المحبة سائدة بين الأفراد ، ولكي تبقى الحياة سعيدة نقية ، لا يعكر صفوها كدر ولا ضغينة، ومن أجل هذه الأهداف السامية حرم الإسلام الربا بقوله عز وجل:(وأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) (البقرة: 175)، وحرم أكل أموال الناس بالباطل قال سبحانه:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)(النساء:29).

وحرم الاحتكار لما فيه من تضييق على عباد الله بقوله صلى الله عليه وسلم:( لا يحتكر إلا خاطئ)(رواه مسلم)، ولما كان الاحتكار ركيزة من ركائز النظام الرأسمالي الحديث، وسمة من سمات التعامل الاقتصادي في معظم الشركات إن لم يكن في كلها، رغم أنه يحمل في طياته بذور الهلاك والدمار لما يسببه في ظلم وعنت وغلاء وبلاء، ولما فيه من إهدار لحرية التجارة والصناعة، وسد لمنافذ العمل وأبواب الرزق أمام غير المحتكرين.

والاحتكار هو: حبس مال أو منفعة أو عمل، والامتناع عن بيعه وبذله حتى يغلو سعره غلاءً فاحشاً غير معتاد، بسبب قلته، أو انعدام وجوده في مظانه، مع شدة حاجة الناس أو الدولة أو الحيوان إليه (بحوث مقارنه في الفقه، للدريني 1/411)، ويستفاد من هذا التعريف ما يلي:

 أولاً: أن الاحتكار هو حبس ما يحتاج إليه الناس، سواء ما يحتاج إليه الناس، سواء كان طعاماً أو غيره مما يكون في احتباسه إضرار بالناس، وتضييق الحياة عليهم، وهذا بإطلاقه شامل لكل شيء من المواد الغذائية، والثياب، ومنافع الدواء، والأرضين، والأدوية، وآلات ومواد الإنتاج الرزاعي والصناعي، كالمحاريث والأسمدة، كما يشمل منافع وخبرات العمال، وأهل المهن والحرف والصناعات، والفنيين، وأصحاب الكفاءات العلمية، إذا احتاجت الأمة إلى مثل تلك السلع والمنافع والخدمات، إذ (المناط) هو حقيقة الضرر من حيث هو بقطع النظر عن نوع الشيء المحتكر، فيجبر هؤلاء على بذل ما لديهم، رعاية لحق الأمة، ودفعاً للضرر عنها في مثل هذه الظروف، بالثمن أو أجر المثل العادل، إذا امتنعوا عن ذلك، وأساس هذا الأمر: أن كل ما لا تقوم مصالح الأمة أو الدولة إلا به، فهو واجب تحصيله.

ثانياً: لم يقيد التعريف كما ترى بما إذا كانت الأموال المتحكرة مجلوبة (مستوردة) من الخارج، أو كانت موجودة في سوق المدينة فاشتريت وحبست، أو كانت مستغلة من أرض المحتكر نفسه.

ثالثاً: شمل التعريف كل ما أضر بالإنسان والدولة والحيوان حبسه، وذلك من مميزات الشريعة الإسلامية التي شملت أحكام الرفق بالحيوان،(في كل ذات كبد رطبة أجر) (رواه البخاري).

رابعاً: أظهر التعريف ظاهرة (الحاجة) التي هي على تحريم الاحتكار فليس كل ظرف من الظروف يكون فيه حبس هذه الأشياء احتكاراً، وإنما يكون احتكاراً في ظرف الحاجة الذي يقع فيه الضرر، فإذا لم يوجد مثل هذا الظرف كان الادخار احتباساً مباحاً، لأنه تصرف في حق الملكية بل قد يكون واجباً إذا كان اختزاناً احتياطياً(بحوث مقارنة، للدريني 1/411).

خامساً: أبرز التعريف ظاهرة (الحاجة) التي هي مناط تحريم الاحتكار، وتشريع أحكامه، إذ ليس كل ظرف يعتبر فيه حبس هذه الأشياء احتكاراً محرماً، بل ظرف الحاجة التي يوقع في الضرر، (هو المناط) حتى إذا لم يتحقق هذا المناط كان اختزاناً، أو ادخاراً مباحاً ، لأنه تصرف في حق الملكية، بل قد يكون واجباً إذا كان اختزاناً احتياطياً، ومبنى التقييد بالحاجة هو أن دفعها، أو الوفاء بها من مقاصد التشريع العامة (الحاجيات) فيشرع لها من الحكم ما يناسبها، إيجاباً أو سلباً، استثناء من قواعد الشرع .

وذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية وغيرهم إلى أن الاحتكار، واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة منها قوله تعالى: ]إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ[(الحج:25), والاحتكار من الظلم وداخل تحت في هذا الوعيد الوارد في هذه الآية الكريمة، وما أخرجه مسلم في صحيحه ما روى عن سعيد بن المسيب عن معمر بن عبد الله العدوى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( لا يحتكر إلا خاطئ)، والتصريح بأن المحتكر خاطئ كاف في إفادة عدم الجواز، لأن الخاطئ هو المذنب العاصي وهو فاعل من خطئ من باب علم إذا أثم في فعله. قال الإمام الكاساني رحمه الله: ولأن الاحتكار من باب الظلم لأن ما بيع في المصر فقد تعلق به حق العامة، فإذا امتنع المشترى عن بيعه عند شدة حاجتهم إليه فقد منعهم حقهم، ومنع الحق عن المستحق ظلم وحرام، يستوي في ذلك قليل المدة وكثيرها، لتحقق الظلم(بدائع الصنائع 3/129).

واتفق الفقهاء على أن الحكمة في تحريم الاحتكار رفع الضرر عن عامة الناس، ولذا فقد أجمع العلماء على أنه لو احتكر  إنسان شيئاً، واضطر الناس إليه، ولم يجدوا غيره، أجبر على بيعه، دفعاً لضرر الناس، وتعاوناً حصول العيش (الموسوعة الفقهية الكويتية 2/91)، وفى هذا المعنى يقول الإمام مالك رحمه الله: " الحكرة في كل شيء في السوق من الطعام والزيت والكتان وجميع الأشياء والصوف، وكل ما أضر بالسوق ... فإن كان لا يضر بالسوق فلا بأس بذلك " (المدونة 10/123)، وقال الإمام النووي رحمه الله في (شرح صحيح مسلم11/43): قال العلماء: والحكمة في تحريم الاحتكار دفع الضرر عن عامة الناس كما أجمع العلماء على أنه لو كان عند إنسان طعام واضطر الناس إليه ولم يجدوا غيره أجبر على بيعه دفعاً للضرر عن الناس.

وللحديث بقية إن شاء الله

د/ أحمد عرفة

باحث دكتوراه بجامعة الأزهر

عضو الجمعية الفقهية السعودية

Ahmedarafa11@yahoo.com



نشر هذا المقال بجريدة صوت الأزهر في العدد الصادر بتاريخ 12/8/2016م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق