السبت، 8 أبريل 2017

ارجع فصل فإنك لم تصل للدكتور/ أحمد عرفة



ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ
بينما رجل يصلي إذ رآه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: " ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ"، فرجع الرجلُ فَعَادَ صلاتَهُ مرةً أخرى، ولمَّا انتهى قال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم " ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ" فَعَلَ ذلك مرتين أو ثلاثاً، فَلَمَّا كان في الثانية أو الثالثة قال له: يا رسولَ الله قد أَجْهَدْتُ نفسي فَعَلِّمْنِي؟ .
وقد اسْتَدَلَّ بهذا الحديثِ جَمَاعَةٌ مِن الفُقَهاءِ، فقالوا: الطُّمَأْنينَةُ في الرُّكُوعِ والسُّجُودِ فَرْضٌ، لا تُجْزِئُ صلاة مَنْ لَمْ يَرْفَع رَأْسَهُ، وَيَعْتَدِلُ في رُكُوعِهِ وسُجُودِهِ ثُمَّ يُقِيْمُ صُلْبَهُ، وقالوا: ألا ترى أنَّ الرسولَ قال له: (ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ)، ثم علَّمَه الصلاةَ وأَمَرَهُ بالطُّمَأنينة في الركوع والسجود.
والمُتَأمِّلُ في صَلاةِ كثيرٍ من الناسِ اليومَ يَجِدُ أنَّ حَالَهُمْ كَحَالِ هذا الرَّجُلِ الذي رَدَّهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أَكْثَرَ من مرةٍ بقوله: (ارجع فصل فإنك لم تصل)، فكيفَ لو رَآكَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم  اليومَ يا مَنْ تَسْرِقُ في صلاتِكَ، ولا تُتِمُّ رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا، يا مَنْ صَارتْ الصَّلاةُ عِنْدَكَ اليومَ عبارةً عن حَرَكَاتٍ وتَمَارينَ رِيَاضيَّةٍ، فَأَصبحتْ لا تُؤْتِي ثِمَارَهَا المَرْجُوَّةَ مِنها التي مِنْ أَجْلِهَا شُرِعَتْ، في كَوْنِها تَنْهَى عن الفَحْشَاءِ والمُنْكَرِ والبَغْي، وَكَوْنِهَا النُّورَ الذي أَخْبَرَ عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (الصلاةُ نُورٌ) فالْكَثيرُ مِنَّا قد افْتَقَدَ هذا النُّورَ، لأنَّه أصْبَحَ يُصلِّي وكَأَنَّهُ لا يُصَلِّي.  
وعن حَال النَّاسِ ومراتبهم في الصلاة يقولُ الإمامُ ابنُ القيّم -رحمه الله-: "والناسُ في الصلاة على مَرَاتِبَ خَمْسَةٍ: إحداها: مَرتبةُ الظالمِ لنفسه المُفْرط، وهو الذي انتقصَ من وُضُوئِهَا ومَواقيتِهَا وَحُدُودِهَا وَأَرْكَانِهَا. الثاني: مَنْ يُحافِظُ على مَواقيتِهَا وحُدودِهَا وأَرْكَانِهَا الظَّاهرةِ ووُضُوئِها لكنْ قد ضَيَّعَ مُجاهدةَ نفسه بالوسوسة فذهب مع الوساوس والأفكار. الثالثُ: مَنْ حَافظَ على حدودِهَا وأركانِهَا وجَاهَدَ نَفْسَهُ في دَفْعِ الوَسَاوِسِ والأَفْكَارِ، فهو مَشْغُولٌ في مُجَاهَدَةِ عَدُوِّهِ لئلا يَسْرِقَ مِن صلاتِهِ فهو في صلاةً وجِهَادٍ. الرابعُ: مَن إذا قَامَ إلى الصلاة أَكْمَلَ حُقُوقَهَا وأَرْكَانَهَا وحُدُودَهَا، واسْتَغْرَقَ قلبه مراعاة حُدودِهَا لئلا يَضيعَ منها شيءٌ بل همُّه كُلُّهُ مصروفٌ إلى إقامتِهَا كما ينبغي. الخامسُ: مَنْ إذا قام إلى الصلاة قامَ إليها كذلك ولكنْ مع هذا قد أَخَذَ قَلْبَهُ وَوَضَعَهُ بينَ يَدَي رَبِّهِ -سبحانه وتعالى- ناظرًا بقلبه إليه مراقبًا له ممتلئًا من محبته وتعظيمه كأنَّه يَراه ويُشَاهِدُهُ فهذا بينه وبين غيره في الصلاة أفضل وأعظم مما بين السماء والأرض.
فالقسمُ الأولُ: مُعَاقَبٌ، والثاني: مُحَاسَبٌ، والثالث: مُكَفَّرٌ عنه. والرابع: مُثَابٌ. والخامس: مُقَرَّبٌ من ربه؛ لأنَّ له نصبيًا مِمَّنْ جُعِلَتْ قُرَّةُ عَينِهِ في الصلاةِ، فاسْتَرَاحَ بها كما كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أّرِحْنَا يا بِلالُ بالصَّلاةِ»، ويقول: «جُعِلَتْ قُرَّةُ عيني في الصلَّاةِ»، ومن قرَّت عينه بالله قرَّت به كل عين، ومَنْ لَمْ تُقَرُّ عينُهُ بالله تَقَطَّعَتْ نَفْسُهُ على الدنيا حَسراتٍ. وإنما يقوى العبدُ على حضوره في الصلاة واشتغاله فيها بربه إذا قَهَرَ شَهوتَهُ وهَوَاه، وإلا فَقلبٌ قد قَهَرتْهُ الشَّهوةُ وأَسَرَه الهَوَى وَوَجَدَ الشَّيْطانُ فيه مقعدًا تمكن فيه كيف يخلص من الوساوس والأفكار"(الوابل الصيب من الكلم الطيب، صـ38 ط/ دار الكتاب العربي، بيروت).
وقد بيّن لنا النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ أَسْوَأَ النَّاسِ سَرِقَةً الذي يَسْرِقُ من صلاته، وذلك فيما أخرجه الدارمي في سننه عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أسوأُ الناسِ سَرِقَةً الذي يَسْرقُ صلاتِهِ " قالوا: يا رسول الله ، وكيف يسرقُ صَلاتَه ؟ قال: " لا يُتِّمُ رُكُوعَهَا ولا سُجُودَها"، وأيضًا: " نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن نَقْرَةِ الغُرابِ، وافْتِرَاشِ السَّبْعِ، وأنْ يُوَطِّنَ الرجُلُ المكانَ في المسجد كما يُوطِّنُ البَعيرَ"(أخرجه أبو داود)، ونهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الالتفاتِ في الصلاة، ولما سُئل عن ذلك؟ قال:"هو اختلاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشيطانُ من صلاة العبد"(أخرجه البخاري)، والالتفاتُ المَنْهِيُّ عنه في الصلاة قسمان: أحدهما: التفاتُ القلبِ عن الله عز و جل إلى غير الله تعالى،  والثاني: التفاتُ البصرِ وكلاهُمَا منهيٌّ عنه، ولا يَزالُ اللهُ مقبلاً على عبده ما دام العبدُ مُقبلاً على صلاته فإذا التفتْ بقلبه أو بصره أَعْرَضَ الله تعالى عنه. (الوابل الصيب، صـ34).
من أجل ذلك أَمَرَنَا صلى الله عليه وسلم بالسُّكُونِ في الصلاةِ في أحاديثَ كثيرةٍ، منها ما أخرجه مسلمٌ في صحيحه عن جابر بن سمرة، قال: خَرَجَ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس ؟ اسكنوا في الصلاة " قال: ثم خرج علينا فرآنا حلقاً فقال: " مالي أراكم عزين" (أي متفرقين) قال: ثم خرج علينا فقال: " ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ " فقلنا يا رسول الله، وكيف تصف الملائكة عند ربها ؟ قال:" يتمون الصفوف الأول ويتراصون في الصف".
وليعلمَ المُصليُّ الذي رُبَّمَا يُصلي ولكنَّهُ لا يتمُّ الصلاةَ بركوعِهَا وسُجُودِهَا، ولا يدري هل اطمئن في صلاتِه أم لا؟ أَنَّه إذا ماتَ على حاله هذه فهو على خطرٍ عظيمٍ حَذَّرَ منه النبيُّ صلى الله عليه وسلم لما رأى الرَّجُلَ يُصلي ويَنْقُرُ في صلاتِهِ ولا يُتِمُّهَا، قال: لو ماتَ لمات على خير ملةِ محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك فيما أخرجه الطبراني في الكبير بإسناد حسن عن أبي عبد الله الأشعري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً لا يتم ركوعه ينقر في سجوده وهو يصلي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو مات هذا على حاله هذه مات على غير ملة محمد صلى الله عليه وسلم "، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" مثل الذي لا يتم ركوعه وينقر في سجوده، مثل الجائع يأكل التمرة والتمرتان لا يغنيان عنه شيئا".

وهذا يدعونا إلى أنْ نتأَمَّلَ في هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة حيثُ كانت الصلاةُ قُرَّةَ عينهِ، وكان إذا أَحْزَنَهُ أمرُهُ أو أَحْزَنَهُ شيءٌ فزعَ إلى الصلاة، وكان يقولُ: "أرحنا بها يا بلال"، فالصلاةُ سرٌ بين العبدِ وربِّهِ، وقَسَّمَهَا اللهُ –تعالى- بينَهُ وبينَ عَبْدِهِ نِصْفَينِ كما أَخْبَرَ بذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وذلك لِمَا لَهَا مِن منزلةٍ رفيعةٍ ومكانةٍ عظيمةٍ في دِيْنِنَا الإسلاميِّ الحنيفِ. من أجل ذلك كانت أَوَّلَ ما يُحَاسَبُ عليهِ العَبْدُ يومَ القيامة فإنْ صَلَحَتْ صَلَحَ سائرُ عمله، وإنْ فَسَدَتْ فَسَدَ سائرُ عمله، وكانت آخر وصايا النبي صلى الله عليه وسلم.
فما أحوجنا اليوم إلى أنْ نُعيدَ النَّظَرَ في صلاتنا بِتَعَلُّمِ فقه الصلاة وأحكامها من طهارة ووضوء، وكيفية الصلاة بأركانها وسننها كما كان يصلي النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أمرنا بذلك فقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" حتى تَكونَ الصلاةُ قرةَ أعيننا ونحققَ بها السعادة والطمأنينةَ والراحةَ في الدنيا، وفي الآخرة بالفوز برحمة الله تعالى وعفوه وغفرانه. واللهُ من وراء القصدِ وهو حَسْبُنا ونعم الوكيلُ.
د/ أحمد عرفة
باحث دكتوراه بجامعة الأزهر
عضو الجمعية الفقهية السعودية


نشر هذا المقال بجريدة عقيدتي في العدد الصادر بتاريخ 28/3/ 2017م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق