الخميس، 7 ديسمبر 2023

دور القيم الأخلاقية في مواجهة الأزمات الاقتصادية وتحقيق التنمية، د/ أحمد عرفة

 



دور القيم الأخلاقية في مواجهة الأزمات الاقتصادية وتحقيق التنمية

لقد جاءت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم من أجل إصلاح الأخلاق وتهذيب النفوس؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ"(أخرجه البيهقي)، ولذلك أولت الشريعة الإسلامية القيم والأخلاق عناية كبيرة، وبينت أنها سبب في إصلاح الأفراد والمجتمعات والدول.

وعندما نتأمل في واقعنا الاقتصادي، وما تمر به كثير من الدول من مشكلات وأزمات اقتصادية، نجد أن من أهم أسباب تلك المشكلات والأزمات هو غياب دور القيم والأخلاق الإسلامية؛ حيث انتشر الاحتكار، والغش، والتدليس، وخيانة الأمانة، والكذب، ورفع الأسعار بصورة مبالغ فيها مما يؤدي إلى الإضرار بالمستهلكين الذين ربما لا يجد أحدهم قوت يومه إلا بصعوبة بالغة، وإذ بالبائع يحتكر السلع ويمنعها من الأسواق، حتى إذا غلا سعرها وارتفع طرحها للناس مرة أخرى، وهذه الأمور وغيرها، من البيوع التي نهت عنها الشريعة الإسلامية وحذرت منها.

ولذلك نجد النبي صلى الله عليه وسلم قد بيَّن لنا دور الأخلاق والقيم الإسلامية الفاضلة في علاج الأزمات الاقتصادية، حيث حث التجار على الصدق والأمانة في البيع والشراء، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا أَوْ قَالَ: حَتَّى يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا". وفي هذا الحديث بيَّن صلى الله عليه وسلم أن بيان السلعة وما بها من عيوب، والصدق في ذلك كله وبيانه للمشتري، سبب في البركة في المال والكسب، وأن الغش والكذب والتدليس كما نرى اليوم = وللأسف الشديد= من كثير من التجار في الأسواق، سبب في محق البركة من الكسب، فالصدق قيمة أخلاقية نحتاجها في مواجهة الأزمات والمشكلات الاقتصادية.

كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغش والكذب في كل المعاملات وخاصة المالية منها؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ غَشَّنا، فَلَيسَ مِنّا، والمّكْرُ والخّديعةُ في النَّارِ" (أخرجه ابن حبان)، وفي صحيح مسلم أَنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرَّ في السوق على صُبْرَةِ طعامٍ، فأَدْخَلَ يده فيها، فنالتْ أَصابعه بَلَلاً، فقال: «ما هذا يا صاحب الطعام؟»، قال: يا رسول الله أَصابته السماء، قال: «أَفلا جعلتَه فوقَ الطعام حتى يراهُ الناسُ؟!»، وقال: «مَن غَشَّنا فليس منا».

وعندما ننظر إلى معظم الأسواق اليوم نجد انتشار الاحتكار، وهو: "حبس كل ما يضر بالناس ومنعه عنهم؛ لانتظار بيعه في زمن الغلاء"، سواء كان هذا من الغذاء أو الدواء للإنسان والحيوان وغير ذلك مما يتضرر الناس بحبسه ومنعه عنهم، وهذا الاحتكار سبب من أسباب الأزمات والمشاكل الاقتصادية التي نراها كل يوم، ومن يفعل هذا فهو مذنب آثم، واقع في نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الاحتكار الوارد في أحاديث كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنِ احْتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ» (أخرجه مسلم).

كما أن من صور القيم الأخلاقية في مواجهة الأزمات الاقتصادية تحريم الإسلام لأكل أموال الناس بالباطل، حيث قال سبحانه:: "وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ" (البقرة: 188)، وقال: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا" (النساء: 29).

وقد سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَيُّ الْكَسْبِ أَطْيَبُ أَوْ أَفْضَلُ قَالَ:« عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ» (أخرجه أحمد)، والبيع المبرور: هو الذي لا غش فيه ولا خيانة، وجعلت الشريعة الإسلامية الرضا مبدأ أساسي من مبادئ العقود حيث قال صلى الله عليه وسلم: « إِنَّمَا الْبَيْعُ عَنْ تَرَاضٍ» (أخرجه ابن ماجه).

وبالتأمل في الشريعة الإسلامية نجد أن هناك العديد من الحلول لتفعيل الدور الأخلاقي لمواجهة الأزمات الاقتصادية، ومن ذلك مدح التاجر الصدوق الأمين، وبيان منزلته؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: « التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ» (أخرجه الترمذي)، "أي: من تحرى الصدق والأمانة كان في زمرة الأبرار من النبيين والصديقين، ومن توخى خلافهما، كان في قرن الفجار من الفسقة، والعاصين" (تحفة الأحوذي: 4/ 335)،  وعن رفاعة بن رافع - رضي الله عنه - قال: خرجت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المصلى، فرأى الناس يَتبايَعُونَ، فقال:«يا مَعْشرَ التُّجَّار»، فاستجابوا، ورفَعُوا أعناقَهم وأبصارهم إليه، فقال: «إنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يوم القيامة فُجَّارًا إلا مَنِ اتَّقَى الله، وبَرَّ وصَدَقَ» (أخرجه الترمذي).

ومن ذلك أيضًا الحث على السماحة والتيسير في البيع والشراء والقضاء والاقتضاء؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى» (أخرجه البخاري).

قال الإمام ابن بطال –رحمه الله-: "فيه: "الحضُ على السماحة وحسن المعاملة، واستعمال معالي الأخلاق ومكارمها، وترك المشاحة، والرقة في البيع، وذلك سبب في وجود البركة فيه؛ لأن النبي عليه الصلاة السلام لا يحض أمته إلا على ما فيه النفع لهم في الدنيا والآخرة، فأما فضل ذلك في الآخرة فقد دعا عليه السلام بالرحمة لمن فعل ذلك، فمن أحب أن تناله بركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم فليقتد بهذا الحديث ويعمل به. وفى قوله عليه الصلاة السلام: (وَإِذَا اقْتَضَى) حض على ترك التضييق على الناس عند طلب الحقوق وأخذ العفو منهم"(شرح صحيح البخاري: 6/ 211).

كذلك أيضًا على الدولة دور كبير في مواجهة الأزمات الاقتصادية والحد منها عن طريق حماية المستهلك من جشع التجار المحتكرين، وذلك عن طريق اتخاذ التدابير اللازمة للحد من الاحتكار، ومنها: جبر المحتكر على البيع بالسعر المناسب الذي ليس فيه ظلم ولا إجحاف بالبائع أو المشتري، فإن لم يستجب لذلك سَعَّر عليهم المنتجات لحماية المستهلك وضبط الأسواق.

كما أن على الفقهاء بيان الأحكام الشرعية المتعلقة بالمعاملات المالية للناس، وربطها بالجانب الأخلاقي، وأن لها دوراً كبيراً في حل المشاكل والأزمات الاقتصادية، وقد بيَّن ذلك سلفنا الصالح رضوان الله عليهم؛ حيث قال عمر رضي الله عنه: "لا يبيعُ في سوقِنا هذا إلَّا مَن تفقَّهَ في الدِّينِ"، وفي إشارة إلى أهمية إلمام التاجر بفقه المعاملات المالية وآداب الأسواق، حتى لا يقع في محرم أو شيء نهت عن الشريعة الإسلامية، و"لا ينبغي للرجل أن يشتغل بالتجارة ما لم يعلم أحكام البيع والشراء؛ ما يجوز وما لا يجوز... وكان التجار في القديم إذا سافروا استصحبوا معهم فقيهًا يرجعون إليه في أمورهم، وعن أئمة خوارزم أنه: لا بد للتاجر من فقيه صديق"(التراتيب الإدارية: 2/18).

وكذلك على الدعاة أيضًا دور كبير في إبراز الجانب الأخلاقي وأثره في المعاملات المالية، والحد من المشكلات والأزمات الاقتصادية من خلال الخطب والدروس اليومية في المساجد، وكذلك على مواقع التواصل الاجتماعي، وسائر المنصات والمنتديات التي يمكن من خلالها توعية التجار بالدور الأخلاقي وأثره في مواجهة المشاكل والأزمات الاقتصادية.

فإذا كنا نريد التقدم الحقيقي والخروج من الأزمات الاقتصادية وغيرها علينا أن نعمل جميعًا على إحياء الدور الأخلاقي والقيم النبيلة التي أرشدنا إليها ديننا الإسلامي الحنيف، فلا نجاة ولا خروج مما نعانيه من أزمات إلا من خلال الالتزام بهذه الأخلاق الإسلامية الفاضلة.

والله من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل

د: أحمد عرفة

عضو هيئة التدريس بقسم الفقه المقارن

كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنين بالديدامون- شرقية

جامعة الأزهر الشريف

هذه الدراسة منشورة بمجلة التمويل الإسلامي التي تصدرها الجمعية المصرية للتمويل الإسلامي بالقاهرة، العدد السابع، يوليو 2023م. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق