الأربعاء، 23 ديسمبر 2020

الوقاية خير من العلاج د/ أحمد عرفة

 

الوقاية خير من العلاج

إن المتأمل في نعم الله تعالى على عباده يجد أنه سبحانه وتعالى قد أنعم علينا بنعم كثيرة لا تُعد ولا تحصى، نعم ظاهرة، ونعم باطنة، ومن أجلّ هذه النّعم نعمة الصحة، فالصحة كما يقولون: تاج على رؤؤس الأصحاء لا يراه إلا المرضى، فالصحة كنز لا تعادله كنوز الدنيا كلها، ولا يعلم قدرها إلا من حُرم منها، وأقعده المرض، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، الصِّحَّةُ، وَالْفَرَاغُ» (أخرجه البخاري).

أي صحة البدن، وفراغ الخاطر بحصول الأمن، ووصول كفاية الأمنية، والمعنى لا يعرف قدر هاتين النعمتين كثير من الناس، حيث لا يكسبون فيهما من الأعمال كفاية ما يحتاجون إليه في معادهم، فيندمون على تضييع أعمارهم عند زوالها، ولا ينفعهم الندم... وفي حاشية السيوطي -رحمه الله- قال العلماء: معناه أن الإنسان لا يتفرغ للطاعة إلا إذا كان مكفياً صحيح البدن، فقد يكون مستغنياً ولا يكون صحيحاً، وقد يكون صحيحاً ولا يكون مستغنياً، فلا يكون متفرغا للعلم والعمل؛ لشغله بالكسب، فمن حصل له الأمران، وكسل عن الطاعة فهو المغبون أي: الخاسر في التجارة مأخوذ من الغبن في البيع.(تحفة الأحوذي 6/485).

قال الإمام ابن بطال-رحمه الله-: "قال بعض العلماء: إنما أراد (صلى الله عليه وسلم) بقوله: (الصحة والفراغ نعمتان)، تنبيه أمته على مقدار عظيم نعمة الله على عباده في الصحة والكفاية؛ لأن المرء لا يكون فارغًا حتى يكون مكيفًا مؤنة العيش في الدنيا، فمن أنعم الله عليه بهما فليحذر أن يغبنهما، ومما يستعان به على دفع الغبن أن يعلم العبد أن الله تعالى خلق الخلق من غير ضرورة إليهم، وبدأهم بالنعم الجليلة من غير استحقاق منهم لها، فمنّ عليهم بصحة الأجسام وسلامة العقول، وتضمن أرزاقهم وضاعف لهم الحسنات ولم يضاعف عليهم السيئات وأمرهم أن يعبدوه ويعتبروا بما ابتدأهم به من النعم الظاهرة والباطنة، ويشكروه عليها بأحرفٍ يسيرة، وجعل مدة طاعتهم في الدنيا منقضية بانقضاء أعمارهم، وجعل جزاءهم على ذلك خلودًا دائمًا في جنات لا انقضاء لها مع ما ذخر لمن أطاعه مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فمن أنعم النظر في هذا كان حريًا ألا يذهب عنه وقت من صحته وفراغه إلا وينفقه في طاعة ربه، ويشكره على عظيم مواهبه والاعتراف بالتقصير عن بلوغ كنه تأدية ذلك، فمن لم يكن هكذا وغفل وسها عن التزام ما ذكرنا، ومرت أيامه عنه في سهو ولهو وعجز عن القيام بما لزمه لربه تعالى فقد غبن أيامه، وسوف يندم حيث لا ينفعه الندم" (شرح صحيح البخاري: 10/146-147).

كما أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصانا باغتنام هذه النعمة في طاعة الله تعالى، وفيما يعود على الإنسان بالنفع في الدنيا والآخرة، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ لِرَجُلٍ: اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: حَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ، وَفَرَاغَك قَبْلَ شَغْلِكَ، وَغِنَاك قَبْلَ فَقْرِكَ، وَشَبَابَك قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِك"(أخرجه النسائي والحاكم).

فقوله: "وصحتك قبل سقمك" دليل على أن الإنسان أن يغتنم صحته وقوته في طاعة الله تعالى قبل أن يأتي وقت السقم والمرض، والذي لا يستطيع معه أن يفعل كما يفعل الصحيح.

قال الإمام المناوي-رحمه الله-: "قوله(اغتنم خمساً قبل خمس): أي: افعل خمسة أشياء قبل حصول خمسة أشياء: (حياتك قبل موتك) يعني اغتنم ما تلقى نفعه بعد موتك فإن من مات انقطع عمله، وفاته أمله وحق ندمه وتوالى همه فاقترض منك لك (وصحتك قبل سقمك)أي اغتنم العمل، حال الصحة فقد يمنع مانع كمرض فتقدم المعاد بغير زاد (وفراغك قبل شغلك) أي اغتنم فراغك في هذه الدار قبل شغلك بأهوال القيامة التي أول منازلها القبر فاغتنم فرصة الإمكان لعلك تسلم من العذاب والهوان (وشبابك قبل هرمك) أي اغتنم الطاعة حال قدرتك قبل هجوم عجز الكبر عليك فتندم على ما فرطت في جنب الله.(فيض القدير: 2/21).

وهذه الصحة أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان سوف يسأل عنها بين يدي الله تعالى في يوم القيامة فقال فيما أخرجه الترمذي في سننه عَنْ أَبِى بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-:«لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَا فَعَلَ بِهِ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَا أَبْلاَهُ».

وفي حالة المرض شرع لنا الإسلام التداوي، وطلب الدواء الناجع للشفاء من الأمراض والأسقام، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «تَدَاوَوْا عِبَادَ اللهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلاَّ وَضَعَ مَعَهُ شِفَاءً، إِلاَّ الْهِرَمَ.».(أخرجه أبو داود وابن ماجه)، وعَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ، وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً، فَتَدَاوَوْا، وَلاَ تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ».(أخرجه أبو داود)، وعَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ قَالَ قَالَتِ الأَعْرَابُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ نَتَدَاوَى قَالَ: « نَعَمْ يَا عِبَادَ اللَّهِ تَدَاوَوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلاَّ وَضَعَ لَهُ شِفَاءً، أَوْ قَالَ: دَوَاءً، إِلاَّ دَاءً وَاحِدًا». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُوَ؟ قَالَ: «الْهَرِم»(أخرجه الترمذي).

قال الإمام المناوي –رحمه الله-: " قوله (تداووا عباد الله): وصفهم بالعبودية إيذاناً بأن التداوي لا يخرجهم عن التوكل الذي هو من شرطها يعني تداووا ولا تعتمدوا في الشفاء على التداوي بل كونوا عباد الله متوكلين عليه (فإن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء) وهو سبحانه لو شاء لم يخلق دواء، وإذا خلقه لو شاء لم يأذن في استعماله لكنه أذن، ومن تداوى فعليه أن يعتقد حقاً، ويؤمن يقيناً بأن الدواء لا يحدث شفاء ولا يولده كما أن الداء لا يحدث سقما ولا يولده لكن الباري تعالى يخلق الموجودات واحداً عقب آخر على ترتيب هو أعلم بحكمته (غير داء واحد الهرم) أي الكبر جعل داء تشبيهاً به؛ لأن الموت يعقبه كالداء.(فيض القدير: 3/312).

وهذا من باب الأخذ بالأسباب المشروعة التي أرشدنا إليها ديننا الإسلامي الحنيف، فالتداوي من الأمراض والأوبئة، وطلب الدواء والعلاج الناجع لهذه الأمراض من الأخذ بالأسباب، لا أن يترك الإنسان التداوي، ويرفض العلاج، وكذلك الالتزام بالتدابير الوقائية لا ينافي التوكل على الله سبحانه وتعالى، فالتوكل الحقيقي هو اعتماد القلب على الله تعالى مع الأخذ بالأسباب، فهذا أيضاً أمر من الأمور المهمة التي يجب التأكيد عليها قبل الكلام عن التدابير الوقائية، فهذه التدابير هي من الأسباب المشروعة للحفاظ على الصحة، وهي من التوكل على الله تعالى.

ومع أمر الإسلام بالتداوي في حالة نزول الداء إلا أنه وقبل كل ذلك اتخذ الوسائل والتدابير اللازمة للوقاية من الأمراض، وهذا من باب الوقاية خير من العلاج، وهذا ما يُعرف الطب الوقائي في الإسلام، ومن هذه الوسائل والتدابير الوقائية:

1-التحذير من الإسراف في الطعام والشراب، فإن الإسراف في تناول الأطعمة والأشربة ربما أدى إلى نزول الداء بالجسد، وقد قالوا: إن الشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده، وفي هذا يقول الحق سبحانه: "وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ" (سورة الأعراف: الآية:31).

وعن يَحْيَى بْنُ جَابِرٍ الطَّائِيُّ، قَالَ:الْمِقْدَامَ بْنَ مَعْدِي كَرِبَ الْكِنْدِيَّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَا مَلَأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، حَسْبُ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ، فَثُلُثُ طَعَامٍ، وَثُلُثُ شَرَابٍ، وَثُلُثٌ لِنَفْسِهِ" (أخرجه أحمد).

قال الإمام الصنعاني-رحمه الله-: "والحديث دليل على ذم التوسع في المأكول والشبع، والامتلاء، والإخبار عنه بأنه شر؛ لما فيه من المفاسد الدينية والبدنية، فإن فضول الطعام مجلبة للسقام، ومثبطة عن القيام بالأحكام، وهذا الإرشاد إلى جعل الأكل ثلث ما يدخل المعدة من أفضل ما أرشد إليه سيد الأنام صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يخف على المعدة، ويستمد من البدن الغذاء، وتنتفع به القوى، ولا يتولد عنه شيء من الأدواء، وقد ورد من الكلام النبوي شيء كثير في ذم الشبع..."(سبل السلام: 4/179).

2-النهي عن نزول البلد إذا تفشي فيه الوباء أو الخروج منه، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ قَالَ سَمِعْتُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ يُحَدِّثُ سَعْدًا عَنِ النَّبِيذِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ:« إِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَدْخُلُوهَا، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا». فَقُلْتُ: أَنْتَ سَمِعْتَهُ يُحَدِّثُ بِهِ سَعْدًا وَلاَ يُنْكِرُهُ قَالَ: نَعَمْ. (أخرجه البخاري).

وعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ وَخُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالُوا: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-:« إِنَّ هَذَا الطَّاعُونَ رِجْزٌ وَبَقِيَّةُ عَذَابٍ عُذِّبَ بِهِ قَوْمٌ، فَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ فِيهَا فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا فِرَارًا مِنْهُ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَلَسْتُمْ بِهَا فَلاَ تَدْخُلُوهَا»(أخرجه مسلم).

قال الطبري في حديث سعد: فيه الدلالة على أن على المرء توقي المكاره قبل وقوعها وتجنب الأشياء المخوفه قبل هجومها، وأن عليه الصبر وترك الجزع بعد نزولها، وذلك أنه عليه السلام نهى من لم يكن في أرض الوباء عن دخولها إذا وقع فيها، ونهى من هو فيها عن الخروج منها بعد وقوعه فيها فرارًا منه، فكذلك الواجب أن يكون حكم كل متق من الأمور سبيله في ذلك سبيل الطاعون"(شرح صحيح البخاري: لابن بطال 9/423).

وقوله: (وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرار منه) دليل أنه يجوز الخروج من بلدة الطاعون على غير سبيل الفرار منه إذا اعتقد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وكذلك حكم الداخل في بلدة الطاعون إذا أيقن أن دخوله لا يجلب إليه قدرًا لم يكن قدره الله عليه، فمباح له الدخول إليه.(شرح صحيح البخاري: لابن بطال 9/426).

وقال الإمام ابن القيم-رحمه الله-: "وفي المنع من الدخول إلى الأرض التي قد وقع بها الطاعون عدة حكم: إحداها: تجنب الأسباب المؤذية، والبعد منها، والثانية: الأخذ بالعافية التي هي مادة المعاش والمعاد، والثالثة: أن لا يستنشقوا الهواء الذي عفن وفسد فيصيبهم المرض، والرابعة: أن لا يجاوروا المرضى الذين قد مرضوا بذلك، فيحصل لهم بمجاورتهم من جنس أمراضهم، وهذا الذي ذكره ابن القيم هو ما يسمى العدوى في زماننا، والخامسة: حماية النفوس عن الطيرة والعدوى؛ فإنها تتأثر بهما، فإن الطيرة على من تطير بها، وبالجملة ففي النهي عن الدخول إلى أرضه الأمر بالحذر والحمية، والنهي عن التعرض لأسباب التلف، وفي النهي عن الفرار منه الأمر بالتوكل والتسليم والتفويض، فالأول: تأديب وتعليم، والثاني: تفويض وتسليم.(زاد المعاد: 4-44-45).

3-النهي عن دخول المريض على الصحيح؛ وهو ما يُعرف بالحجر الصحي أو العزل المنزلي، وذلك تجنباً لانتشار العدوى فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ:«لا يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ». نهي منه الممرض أن يورد ماشيته المرضى على ماشية أخيه الصحيحة لئلا يتوهم المصح إن مرضت ماشيته الصحيحة أن مرضها حدث من أجل ورود المرضى عليها فيكون داخلاً بتوهمه ذلك في تصحيح ما قد أبطله النبي عليه السلام من أمر العدوى. والممرض: ذو الماشية المريضة، والمصح: ذو الماشية الصحيحة. (شرح صحيح البخاري: لابن بطال 9/450).

وهذا الحديث لا يتعارض مع قوله صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى، ولا صفر، ولا هامة"، وفي ذلك يقول الإمام النووي-رحمه الله-: "قال جمهور العلماء: يجب الجمع بين هذين الحديثين، وهما صحيحان، قالوا: وطريق الجمع أن حديث "لا عدوى" المراد به نفي ما كانت الجاهلية تزعمه وتعتقده أن المرض والعاهة تعدي بطبعها لا بفعل الله تعالى، وأما حديث "لا يورد ممرض على مصح" فأرشد فيه إلى مجانبة ما يحصل الضرر عنده في العادة بفعل الله تعالى وقدره، فنفى في الحديث الأول العدوى بطبعها، ولم ينف حصول الضرر عند ذلك بقدر الله تعالى وفعله، وأرشد في الثاني إلى الاحتراز مما يحصل عنده الضرر بفعل الله وإرادته وقدره، فهذا الذي ذكرناه من تصحيح الحديثين والجمع بينهما هو الصواب" (شرح النووي على مسلم: 14/213-214).

وبناء على هذا الحديث وغيره من الأحاديث الأخرى التي تبين لنا أنه يجب على الإنسان المصاب بالعدوى أو بهذا الوباء الخطير (فيروس كورونا) أن يعزل نفسه في مكان مخصص لهذا بعيداً عن الناس الأصحاء؛ وذلك من أجل الحفاظ عليهم، وعدم تفشي المرض لعدد كبير من الناس، وكذلك عليه أن يُعلم أهله وجيرانه والمخالطين له بهذا كي يأخذوا بالأسباب الوقائية والحيطة والحذر حفاظاً على أنفسهم وغيرهم.

4-الصبر عند نزول الوباء وتفشي الطاعون، وأن الصابر في هذا الوقت له مثل أجر شهيد، وقد ورد في ذلك عدة أحاديث منها: ما أخرجه البخاري في صحيحه عن عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّهَا سَأَلت النَّبِيّ عليه السلام عَنِ الطَّاعُونِ، فَأَخْبَرَهَا أَنَّهُ كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاء، فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ، فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ إِلا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ".

قال الإمام ابن بطال-رحمه الله-: "هذا الحديث مثل قوله : (الطاعون شهادة)، (والمطعون شهيد) أنه الصابر عليه المحتسب أجره على الله، العالم أنه لم يصيبه إلا ما كتب الله عليه، ولذلك تمنى معاذ بن جبل أن يموت فيه لعله إن مات فيه فهو شهيد، وأما من جزع من الطاعون وكرهه وفر منه فليس بداخل في معنى الحديث"(شرح صحيح البخاري: 9/427).

ومن خلال هذا الحديث وغيره يتبين لنا أن الابتلاء بهذا المرض والصبر عليه له مثل أجر شهيد كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وأن على الإنسان إذا ابتلي بشيء من هذا أن يصبر ويحتسب الأجر من الله تعالى، فالابتلاء إما رفعة في الدرجات، وإما تكفير للسيئات، وكذلك علينا جميعاً أن نعلم أن المرض ليس عيباً أو عاراً كما يتصور بعض الناس، لكنه ابتلاء واختبار وامتحان من الله تعالى وتبارك، فعلينا أن نصبر ونحتسب، وكذلك علينا أن نُحسن للمريض الذي ابتلي بهذا الوباء، وذلك من خلال الدعاء له بالشفاء، وإرسال الرسائل الطيبة التي ترفع وتحسن من حالته النفسية، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو للمريض بقوله: "لا بأس طهور إن شاء الله" (أخرجه البخاري)، "وأسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك سبع مرات"(صحيح ابن حبان)، وهكذا.

5-النظافة: فالإسلام دين النظافة، والله عز وجل جميل يحب الجمال، نظيف يحب النظافة، وقد جعلت الشريعة الإسلامية الطهارة شرطاً من شروط صحة الصلاة، وتشمل طهارة الثوب، والمكان، والبدن، وكذلك الوضوء، والأغسال الواجبة كالغسل من الجنابة، وغسل الميت، والأغسال المسنونة، كغسل الجمعة، والعيدين، وغير ذلك، ومن ذلك أيضاً:

أ- الأمر بغسل اليدين ثلاثاً عند الاستيقاظ من النوم، وذلك وقاية له من أن تكون اليد علقت بشيء أثناء النوم، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ :«إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ، فَلاَ يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلاَثًا، فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِى أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ»(أخرجه مسلم).

ب- النهي عن التخلي في طريق الناس أو ظلهم: فعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-:« اتَّقُوا الْمَلاَعِنَ الثَّلاَثَ: الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالظِّلِّ» (أخرجه أبو داود وابن ماجه).

جـ-النهي عن البول في الماء الراكد: فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه"(أخرجه مسلم).

د-سنن الفطرة: فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الْفِطْرَةُ خَمْسٌ، أَوْ خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ: الْخِتَانُ وَالاِسْتِحْدَادُ، وَنَتْفُ الإِبْطِ وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ».

هـ- العناية بنظافة الفم والأسنان، وذلك من خلال استعمال السواك الذي هو سنة من سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم حيث قال: "السِّواكُ مَطْهَرةٌ للفم، مَرْضاةٌ للربّ"(أخرجه البخاري)، وقوله: "لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاَةٍ "(أخرجه مسلم)، فاستعمال السواك أو غيره مما يؤدي إلى نظافة الفم وإزالة الرائحة الكريهة من العناية بالنظافة، والحفاظ على الصحة العامة.

و-ومن ذلك أيضاً الحث على نظافة البيوت والطرقات، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِن الله طَيِّبٌ يحِبُّ الطِّيب، نظِيفٌ يحب النظافة، كريمٌ يحب الكرم، جوادٌ يحب الجُودَ، فَنَظِّفُوا أَفْنِيَتَكُم، ولا تَشَبَّهُوا باليهود»(أخرجه الترمذي).

قال الإمام المناوي-رحمه الله-: " قوله(إنّ الله تعالى طيب): بالتثقيل أي منزه عن النفائص مقدس عن الآفات والعيوب...(يحب الطيب) أي الحلال الذي يعلم أصله وجريانه على الوجه الشرعي (نظيف يحب النظافة) الظاهرة والباطنة من خلوص العقيدة، ونفي الشرك، ومجانبة الهوى، والأمراض القلبية ( فنظفوا) ندباً ( أفنيتكم) جمع فناء وهو الفضاء أمام الدار (ولا تشبهوا) بحذف إحدى التاءين للتخفيف (باليهود) في قذارتهم وقذارة أفنيتهم ولهذا كان للمصطفى وأصحابه مزيد حرص على نظافة الملبس والأفنية، وكان يتعاهد نفسه، ولا تفارقه المرآة والسواك.(التيسير بشرح أحاديث الجامع الصغير: 1/513).

6-الأخذ بالتعليمات والتوجيهات التي تصدرها الجهات المختصة في هذا الشأن، وهذا أيضاً من التدابير الوقائية، ومن ذلك الالتزام بارتداء الكمامة خاصة في أماكن التجمعات، والمحافظة على مسافة بينك وبين الآخرين، وعدم مخالطة المصاب بالعدوى، والمحافظة على غسل اليدين بالماء والصابون أو المطهرات المخصصة لذلك، وأي مريض تظهر عليه أي أعراض يعزل نفسه، ولا يخالط الآخرين، هذا وغيره من القرارات حفاظاً على نفسك وعلى الآخرين، وهذا مقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية وهو الحفاظ على النفس، وكما يجب عليك أن تحافظ على نفسك، فإنه يجب عليك أيضاً أن تحافظ على الآخرين.

7-التضرع إلى الله تعالى والإكثار من الدعاء، فالدعاء سلاح المؤمن، ونور السماوات والأرض، والله عز وجل يغضب إن ترك العبد سؤاله، قال تعالى: "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ" (سورة البقرة: 186)، وقال تعالى: "وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ" (سورة غافر: 60)، وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-: أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ لَمْ يَسْألِ اللهَ يَغضَبْ عليه».أخرجه الترمذي.

 فعلينا أن نتضرع إلى الله تعالى برفع هذا الوباء، وكشف هذه الغمة عن الأمة، فاللهم ارفع الغمة عن الأمة يارب العالمين، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، ونسألك يارب أن ترزقنا العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة يارب العالمين. اللهم آمين.

والحمد لله رب العالمين

كتبه

أحمد عرفة

عضو هيئة التدريس بقسم الفقه المقارن جامعة الأزهر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق