الأربعاء، 23 ديسمبر 2020

الحفاظ على المال في الشريعة الإسلامية، ومواجهة الفساد د/ أحمد عرفة

 

الحفاظ على المال في الشريعة الإسلامية، ومواجهة الفساد

كان هذا هو موضوع خطبة الجمعة اليوم، وهو الموضوعات المهمة التي يجب التركيز عليها؛ وذلك لما للمال من أهمية عظمى في الحياة، فهو عصب الحياة كما يقولون بل قِوام الحياة، به تتحقق مصالح العباد ومعايش الناس في الدنيا، وهو أيضاً سبب من أسباب الخير والبركة، وتحصيل الحسنات من خلال الصدقة، وبذل الخير، وفعل المعروف، وكذلك فيه حق واجب وهو الزكاة، والنفقة على الأهل والعيال، وغير ذلك من الأمور الأخرى التي بينتها هذه الشريعة الإسلامية الغراء.

والمال نعمة من نعم الله تعالى على عباده، وهو من زينة الحياة الدنيا، وقد جاء ذلك في مواضع كثيرة منها قوله تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ (سورة آل عمران: 14)، وقوله تعالى : ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ سورة الكهف: 46).

كما أن المال قد يكون فتنة لصاحبه، وباب من أبواب الشر إذا اسُتعمل فيما يُغضب الله تعالى، وفيما حرم الله تبارك وتعالى، وفي ذلك يقول المولى سبحانه: "وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ (سورة الأنفال: 28).

وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن المال الصالح هو خير للرجل الصالح الذي يستعمله في طاعة الله تعالى، ويبذله في الخير ونفع الغير، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "نعم المال الصالح للرجل الصالح" (أخرجه ابن حبان في صحيحه).

ومن عِظم أهمية المال في الإسلام أن الإنسان سوف يُسأل عنه بين يدي الله تعالى في يوم القيامة من أين اكتسبه؟ وفيما أنفقه؟ وقد جاء ذلك في الحديث الذي أخرجه الترمذي في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ ".

ومن تعظيم الشريعة الإسلامية لحرمة المال أنها حرمت المال والاعتداء عليه، وجعلته كحرمة النفس، وحرمة العرض، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ" (أخرجه مسلم)، وفي خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع قال: " إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، بينكم حرام ، كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا" (أخرجه البخاري ومسلم).

وقد تجلت مظاهر عناية الشريعة الإسلامية بالمال والحفاظ عليه في العديد من الصور، والتي منها:

أولاً: تحريم أكل أموال الناس بالباطل، وفي ذلك يقول الحق سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}(سورة النساء:29)، وقال سبحانه:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}(سورة البقرة:188).

 ومن صور أكل أموال الناس بالباطل:

1-الربا، وهو الزيادة المشروطة على رأس المال، وهو كبيرة من الكبائر، وهو حرام بالكتاب، والسنة، وإجماع الأمة قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}( سورة البقرة:275)، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ*فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}(سورة البقرة:279،278).

2-الرشوة، وهي من صور أكل أموال الناس بالباطل، وهي كبيرة من الكبائر، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الراشي والمرتشي والرائش، واللعن هو الطرد من رحمة الله تعالى، وذلك فيما أخرجه الإمام أحمد في مسنده أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لَعَنَ اللهُ الرَّاشِيَ، وَالْمُرْتَشِيَ، وَالرَّائِشَ، وَهُوَ الَّذِي يَمْشِي بَيْنَهُمَا).

3-الغش في البيع والشراء: فالغش من صور أكل أموال الناس بالباطل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من غشنا فليس منا"، والغش يكون في البيع والشراء، وغيرهما.

 وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ على صبرة طعام فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللًا فقال: (مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟). قال أصابته السماء يا رسول الله. قال: (أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ، مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي).

4-ومن صور أكل أموال الناس بالباطل: الاعتداء على المال العام، فإن حرمة المال العام أشد من حرمة المال الخاص؛ لأن المال العام تتعلق به حقوق كثيرة، بخلاف المال الخاص، ومن ذلك الاعتداء على الأموال الموقوفة، والمعاهد، والجامعات، وغيرها من المرافق العامة للدولة كالكهرباء والمياه وغيرهما، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم لنا خطورة هذا الأمر بقوله فيما أخرجه مسلم في صحيحه "مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا (إبرة) فَمَا فَوْقَهُ كَانَ غُلُولًا (خيانة وسرقة) يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، والمقصود هنا الاعتداء على المال وإن كان صغيراً ولو إبرة، فإن هذا من الغلول وهو السرقة والخيانة.

5-احتكار السلع والأغذية والأدوية وغيرها مما يضر بالناس حبسه ومنعه، والاحتكار هو: حبس السلع وغيرها مما يتضرر الناس بحبسه لبيعه في زمن الغلاء، والاحتكار من الأمور المنهي عنها في الشريعة الإسلامية، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم المحتكر، وبيّن أنه خاطئ فقال: (لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ)(رواه مسلم).

ثانياً: من عناية الشريعة الإسلامية بالمال والحفاظ عليه تحريم الإسراف والتبذير، والأمر بالتوسط والاعتدال والاقتصاد في المأكل والمشرب والملبس، قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}(سورة الأعراف:31)، وقال تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا*إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا}(سورة الإسراء:27،26)، وقال صلى الله عليه وسلم: (كُلُوا، وَتَصَدَّقُوا، وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ، وَلَا مَخِيلَةٍ)(رواه النسائي).

ثالثاً: ومن الحفاظ على المال في الشريعة الإسلامية الأمر بكتابة الديون، والإشهاد عليها، وتوثيقها؛ وذلك لحماية أموال الناس، ولا سيما في هذه الأيام التي كثر فيها خراب الذمم، وضياع الأمانات والحقوق بين الناس، وجعلت الشريعة الإسلامية بعض العقود الخاصة بالتوثيق والتي منها الرهن، والكفالة، والضمان، وفي ذلك يقول الحق سبحانه: " قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ (سورة البقرة:282).

رابعاً: ومن عناية الشريعة الإسلامية بالمال والحفاظ عليه الحجر على السفيه المبذر لمال، ومنعه من التصرفات المالية قال تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا}[ سورة النساء:5).

خامساً: ومن صور الحفاظ على المال في الشريعة الإسلامية تحريم السرقة، وبيان العقوبة عليها، وجعلها حداً من الحدود الشرعية التي أوجبها شريعة الإسلام حفاظاً على أموال الناس من السرقة والضياع قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}( سورة المائدة:38).

سادساً: ومن عناية الشريعة بالمال والحفاظ عليه تحريم الغصب، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم عن أبي أمامة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة " فقال له رجل : وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله ؟ قال:"وإن قضيباً من أراك".

سابعاً: ومن الحفاظ على المال في الشريعة الإسلامية أنه لا يحل مال المسلم إلا بطيب نفسه، وهذا أصل عظيم من أصول التعاملات المالية في شريعتنا الغراء، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا ولا يحل لامرئ من مال أخيه شيء، إلا بطيب نفس منه" (أخرجه أحمد).

وأخرج البيهقي في السنن عن عمرو بن يثربي الضمري قال: شهدت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بمنى، فكان فيما خطب به قال: "ولا يحل لأحد من مال أخيه إلا ما طابت به نفسه".

هذا وغيره الكثير والكثير مما بينته الشريعة الإسلامية الغراء في العناية بالمال والحفاظ عليه، وكذلك أيضاً التدابير اللازمة لمواجهة الفساد المالي، وهذا يدعونا إلى أن نحافظ على أموالنا وأموال غيرنا، وأن نجتهد بشتى الوسائل والطرق في المحافظ على المال العام، وأن نحذر من الاعتداء والاستيلاء عليه، فإن حرمته أشد من حرمة المال الخاص.

ومن خلال ما تقدم: فإن على الإنسان المسلم أن يسعى في اكتساب المال بالطرق والوسائل المشروعة التي بينتها لنا شريعتنا الإسلامية الغراء، ومن ذلك قوله تعالى: "هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ" (سورة الملك: 15)، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (سورة الجمعة: 9، 10).

وأخرج ابن ماجه في سننه عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أيها الناس اتقوا الله وأجملوا في الطلب ، فإن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل، ودعوا ما حرم"، وقال صلى الله عليه وسلم: " إن روح القدس نفث في روعي أنه لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها، وإن أبطأ عليها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تأخذوه بمعصية الله فإن الله لا ينال ما عنده إلا بطاعته " (أخرجه البزار)، والإجمال في الطلب هو: أكل الحلال، وترك الحرام.

كما أن من أسباب إجابة الدعاء أكل الحلال والبعد عن الحرام، ومن عقوبات أكل المال الحرام عدم استجابة الدعاء، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام وملبسه حرام ومشربه حرام وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك".

والله من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل

كتبه

أحمد عرفة

عضو هيئة التدريس بقسم الفقه المقارن جامعة الأزهر


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق