الخميس، 11 نوفمبر 2021

الإنسان بين الصحة والمرض (2)

 

الإنسان بين الصحة والمرض (2)
عندما نتأمل في الحكمة التي خلق الله تعالى العباد من أجلها، نجدها في عبوديته سبحانه وتعالى، حيث قال: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ" (الذاريات: 56)، والإنسان في هذه الحياة ممتحن بالخير والشر، والصحة والمرض، والغنى والفقر، وغير ذلك، قال جل وعلا: "الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ" (الملك: 2).
وجعل الله عز وجل الابتلاء بشتى أنواعه وصوره؛ للاختبار والامتحان في هذه الدنيا، حيث قال سبحانه: " وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ" (محمد:31).
اختبار وامتحان بالصحة والمرض، والغنى والفقر، والفرح والضيق، واليسر والعسر، وما ذاك إلا ليرى سبحانه وتعالى حال العباد في هذه الأحوال كلها، وكيف سيكون حالهم في وقت الرخاء، وحالهم في وقت الشدة.
فإذا كانت الصحة والعافية نعمة، فإن المرض أيضًا نعمة، ولعل الخير يكمن في الشر، الذي ربما يعده بعض الناس شرًا، في حين أنه هو الخير، لكن الإنسان ربما لا يدرك ذلك في بداية الأمر، ولو تأمل هؤلاء فضل المرض، لعلموا أن فيه الخير الكثير لصاحبه في الدنيا، وفي الآخرة، فالمسلم الحق عليه أن يؤمن بقضاء الله وقدره، ويعلم أن فيه الخير كل الخير، في الدنيا، وفي الآخرة، وقد جاء ذلك واضحًا في قول النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما: « يَا غُلاَمُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ ٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ، قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ» (أخرجه الترمذي). فالأمور تجري بمقادير الله تعالى، فالله عز وجل أعطى لحكمة، ومنع لحكمة، قال سبحانه: "إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ" (القمر: 45).
ولننظر إلى هذا الأثر العظيم من الحسن البصري رضي الله عنه، والذي يبين فيه أن بالابتلاء يتمايز الناس حيث قال: "استوى الناس في العافية، فإذا نزل البلاء تباينوا" أي أن حال الناس سواء في وقت العافية، وعند الابتلاء يكون الاختلاف، فمنهم من يصبر ويرضى، ومنهم من يسخط ويجزع.
وكما أن الصحة والعافية فضل، فكذلك المرض، والصبر عليه، والرضا والاحتساب، والتسليم بقضائه الله تعالى، له أجره وثوابه، فمن فضل المرض أنه يُذهب خطايا بني آدم، ويطهر صاحبه ويغسله من الذنوب والخطايا، ويرفعه في الدرجات عند الله تعالى، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «لاَ يَزَالُ الْبَلاَءُ بِالْمُؤْمِنِ، وَالْمَؤْمِنَةِ، فِي نَفْسِهِ، وَمَالِهِ، وَفي وَلَدِهِ، حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ» (أخرجه أحمد)، وأخرج مسلم في صحيحه عن جابر-رضي الله عنه- أن رسولَ الله-صلى الله عليه وسلم- «دخل على أمِّ السائب- أو أمِّ المسيَّب- فقال: ما لَكِ تُزَفْزِفين ؟ قالت: الحُمَّى، لا بارك الله فيها، فقال: لا تَسُبِّي الحُمَّى، فإنها تُذْهِبُ خطايا بني آدم، كما يُذْهِبُ الكِيرُ خَبَثَ الحديد».
وقال: «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ، وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حُزْنٍ، وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ» (أخرجه البخاري ومسلم).
وكذلك حال هذه المرأة التي كانت تصرع على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح البخاري وغيره عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَلاَ أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ؟ قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: هذِهِ المَرْأَةُ السَّوْدَاءُ، أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَلَتْ: إِنِّي أُصْرَعُ، وَإِنِّي أَتكَشَّفُ، فَادْعُ الله لِي. قَالَ: «إِنْ شِئْتِ، صَبَرْتِ؛ وَلَكِ الجَنَّةُ. وَإِنْ شِئْتِ، دَعَوْتُ الله أَنْ يُعَافِيكِ» فَقَالَتْ: أَصْبِرُ. فَقَالَتْ: إِنِّي أَتكَشَّفُ: فَادْعُ الله أَنْ لاَ أَتكَشَّفَ. فَدَعَا لَهَا.
ومن فضل المرض أن يعلم المسلم أن أمر الله تعالى كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، كما جاء في الحديث: « عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ! إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ». فحال المؤمن يصبر عند البلاء، ويرضى بالقضاء، ويشكر عند النعماء، فهذا هو المؤمن حقًا كما أخبرنا بذلك صلى الله عليه وسلم.
كذلك المرض دليل على محبة الله تعالى، وأنه فيه الخير كل الخير لصاحبه، لكن عليه أن يتحلى بالصبر والرضا، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: « إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاَءِ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ». (أخرجه الترمذي)، وقوله: « إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ، أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَفَّى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ». (أخرجه الترمذي)، فالابتلاء بالمرض إما أن يكون رفعة للدرجات، وإما أن يكون تكفيرًا للسيئات.
ومما يجعلنا ندرك فضل المرض، والابتلاء، أن أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، وقد جاء فيما أخرجه أحمد في مسنده عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً ؟ قَالَ: الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الصَّالِحُونَ، ثُمَّ الأَمْثَلُ، فَالأَمْثَلُ مِنَ النَّاسِ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلابَةٌ زِيدَ فِي بَلائِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ خُفِّفَ عَنْهُ، وَمَا يَزَالُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ لَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ"، وعَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِى ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَإِذَا هُوَ يُوعَكُ، فَمَسِسْتُهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، قَالَ:« أَجَلْ، إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلاَنِ مِنْكُمْ». قَالَ: قُلْتُ: لأَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ. قَالَ: «نَعَمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا عَلَى الأَرْضِ مُسْلِمٌ يُصِيبُهُ أَذًى، مِنْ مَرَضٍ فَمَا سِوَاهُ، إِلاَّ حَطَّ اللَّهُ عَنْهُ خَطَايَاهُ، كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا». (أخرجه البخاري ومسلم).
وليعلم أصحاب الأمراض، أن من فضل المرض، تعظيم ثواب وجزاء أهل البلاء، وأن أهل العافية، يودون يوم القيامة، أن يكونوا مثل أهل البلاء، لما يرون من ثوابهم عند ربهم، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: « يَوَدُّ أَهْلُ الْعَافِيَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَنَّ جُلُودَهُمْ قُرِضَتْ بِالْمَقَارِيضِ؛ مِمَّا يَرَوْنَ مِنْ ثَوَابِ أَهْلِ الْبَلاَءِ».(أخرجه الترمذي)
قال وهب بن منبه: "لا يكون الرجل فقيهًا كامل الفقه، حتى يعد البلاء نعمة، ويعد الرخاء مصيبة، وذلك أن صاحب البلاء ينتظر الرخاء، وصاحب الرخاء ينتظر البلاء". قال تعالى: "فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا" (الشرح: 5، 6).
وقال معروف الكرخي: "إن الله ليبتلي عبده المؤمن بالأسقام والأوجاع، فيشكو إلى أصحابه، فيقول الله تعالى: وعزتي وجلالي ما ابتليتك بهذه الأوجاع والأسقام إلا لأغلك من الذنوب فلا تشكني".
فعلى المريض أن يحسن الظن بربه، فإن حسن الظن من علامات الإيمان، قال صلى الله عليه وسلم: « لاَ يَمُوتَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ، إِلاَّ وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» (متفق عليه)، فهما اشتد المرض، والبلاء، أحسن الظن بربك، وإياك أن تجزع وتسخط، في الشدة والمرض، واعلم أن أمر المؤمن كله خير، وأن مع العسر يسرا.
والله من وراء القصد، وهو حسبنا ونعم الوكيل
كتبه
د: أحمد عرفة
عضو هيئة التدريس بقسم الفقه المقارن جامعة الأزهر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق