الاثنين، 16 نوفمبر 2015

ميراث الأنبيـــــــــــــــاء



ميراث الأنبياء
بينما الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه يمر ذات يوم بسوق المدينة، فوقف عليها، فقال: "يا أهل السوق، ما أعجزكم" قالوا: وما ذاك يا أبا هريرة ؟ قال: " ذاك ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم، وأنتم هاهنا لا تذهبون فتأخذون نصيبكم منه " قالوا : وأين هو؟ قال: " في المسجد" فخرجوا سراعاً إلى المسجد، ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعوا، فقال لهم: "ما لكم؟ " قالوا : يا أبا هريرة فقد أتينا المسجد ، فدخلنا، فلم نر فيه شيئا يقسم. فقال لهم أبو هريرة: " أما رأيتم في المسجد أحدا؟ " قالوا: بلى ، رأينا قوماً يصلون، وقوما يقرءون القرآن ، وقوما يتذاكرون الحلال والحرام ، فقال لهم أبو هريرة:" ويحكم، فذاك ميراث محمد صلى الله عليه وسلم "أخرجه الطبراني بسند حسن.
فالعلم ميراث الأنبياء كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه أبو داود والترمذي بسند صحيح عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:((من سلك طريقاً يبتغي فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)). قال الإمام ابن القيم رحمه الله: هذا من أعظم المناقب لأهل العلم فإن الأنبياء خير خلق الله فورثتهم خير الخلق بعدهم، ولما كان كل موروث ينتقل ميراثه إلى ورثته إذ هم الذين يقومون مقامه من بعده ولم يكن بعد الرسل من يقوم مقامهم في تبليغ ما أرسلوا به إلا العلماء كانوا أحق الناس بميراثهم.(مفتاح دار السعادة صـ73).
 فما أحوج الأمة الآن لمعرفة منزلة العلم ومكانته في الإسلام، فالعلم هو سبيل الرقي والتقدم، وبه تنهض الأمم، وتبنى الحضارات، فالعلم شرف، ومن ذاق عرف، ومن عرف اغترف، ومن فضله وشرفه أن الله عز وجل نفي التسوية بين أهله وبين غيرهم كما نفى التسوية بين أصحاب النار وأصحاب الجنة فقال تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) [الزمر: 9]، وقال سبحانه:( لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ) [الحشر: 20]، وهذا يدل على غاية فضلهم وشرفهم.
والعلم حياة ونور والجهل موت وظلمة، والشر كله سببه عدم الحياة، والنور والخير كله سببه النور والحياة فإن النور يكشف عن حقائق الأشياء ويبين مراتبها. قال تعالى:(أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا) [الأنعام: 122]. كان ميتاً بالجهل قلبه فأحياه بالعلم وجعل له من الإيمان نوراً يمشي به في الناس، وذم الله تعالى أهل الجهل في مواضع كثيرة من كتابه فقال تعالى: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) [الأنعام: 111] وقال: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) [الأنعام: 37]. وقال - تعالى-: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) [الفرقان: 44]، وما ذاك إلا دليل على عظم وشرف العلم وأهله.
وأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأله المزيد من العلم فقال تعالى:(فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) [طه: 114]. قال الإمام القرطبي رحمه الله: فلو كان شيء أشرف من العلم لأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأله المزيد منه كما أمر أن يستزيده من العلم.(تفسير القرطبي 4/40).
ولأهمية العلم ومنزلته دعا ربنا تبارك وتعالى للنفرة في سبيل تعلمه وتعليمه فقال تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)]التوبة: 122]، وأخرج البخاري ومسلم عن معاوية - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)).
وأخرج البخاري ومسلم عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعلي - رضي الله عنه -: ((لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم))، وهذا يدل على فضل العلم والتعليم ومنزلة أهله بحيث إذا اهتدى رجل واحد بالعلم كان ذلك خيراً له من حمر النعم وهي خيارها وأشرفها عند أهلها فما الظن بمن يهتدي به كل يوم طوائف من الناس، وأخرج الترمذي بسند صحيح عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان أحدهما عالم والآخر عابد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم))، ثم قال رسول الله: ((إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في حجرها وحتى الحوت في البحر ليصلون على معلمي الناس الخير)).
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض يصلون على معلم الناس الخير)): لما كان تعليمه للناس الخير سبباً لنجاتهم وسعادتهم وزكاة نفوسهم جازاه الله من جنس عمله بأن جعل عليه من صلاته وصلاة ملائكته وأهل الأرض ما يكون سبباً لنجاته وسعادته وفلاحه، وأيضاً فإن معلم الناس الخير لما كان مظهراً لدين الرب وأحكامه ومعرفاً لهم بأسمائه وصفاته جعل الله من صلاة أهل سمواته عليه ما يكون تنويهاً به وتشريفاً له وإظهاراً للثناء عليه بين وصلاة أهل السموات والأرض.(مفتاح دار السعادة صـ72).
والعلم هو الصدقة الجارية التي تنفع صاحبها بعد الموت، ويظل ثوابها له في قبره بعد موته، وذلك لما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له))، وأخرج البزار في مسنده بسند حسن عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( سبع يجري للعبد أجرهن وهو في قبره بعد موته :من عَلّم علماً, أو أجرى نهراً, أو حفر بئراً, أو غرس نخلاً, أو بنى مسجداً , أو ورّث مصحفاً , أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته).
وما أعظم وصايا لقمان الحكيم لابنه يحثه على طلب العلم وتوقير أهله في وصية عظيمة نحتاج أن نتعلمها ونعلمها أبنائنا اليوم يقول رحمه الله: " يا بني لا تعلم العلم لتباهي به العلماء أو لتماري به السفهاء أو ترائي به في المجالس، ولا تترك العلم زهداً فيه ورغبة في الجهالة، يا بني اختر المجالس على عينك، وإذا رأيت قوماً يذكرون الله فاجلس معهم، فإنك إن تكن عالماً ينفعك علمك، وإن تكن جاهلاً يعلموك، ولعل الله أن يطلع عليهم برحمة فيصيبك بها معهم، وإذا رأيت قوماً لا يذكرون الله فلا تجلس معهم، فإنك إن تكن عالماً لا ينفعك علمك، وإن تكن جاهلاً زادوك غياً أو عياً، ولعل الله يطلع عليهم بعذاب فيصيبك معهم".
وما أروع ما سطره الإمام أبو هلال العسكري رحمه الله في عبارات جميلة ما أحوجنا لتدبرها وفهمها والعمل بها إذ يقول: (ولعمري أن شيئاً ينزل المملوك منزلة الملوك، ويحل التابع محل المتبوع، ويحكم به السوقة على الملك العظيم ، لحقيق أن ينافس فيه، ويحسد صاحبه عليه، ويجتهد في طلبه أشد الاجتهاد ، وأمراً يخدم فيه عبد الله بن عمر مجاهداً، ومجاهد هو ابن جبر، أحد مماليك مكة ، وعبد الله عبد الله في فضله وزهده وورعه وشهرة اسمه، أبوه في شرفه ومكانه من الصحية ، ثم من رتبة الخلافة، وملكه الأرض شرفا وغربا ، وطاعة أهل الإسلام والكفر له طوعاً وكرهاً ، لحري أن يرغب فيه العاقل ويحافظ عليه اللبيب).(الحث على طلب العلم صـ53).
فمن أحوجنا جميعاً ونحن على أعتاب بداية عام دراسي جديد أن نقدر قيمة العلم وأهله، وأن يضرب كل منا بسهم في خدمة وطنه في نشر العلم وتعليمه والإخلاص في العمل لله تعالى في التوعية الدينية الصحيحة، ويعلم كل منا أن عليه مسئولية تجاه وطنه، وأن الإصلاح والتغيير الحقيقي لا يكون إلا بالعلم عن طريق النهضة بالمعلم والطلاب والمؤسسات التعليمية والمراكز البحثية، وأن يعلم كل منا أنه مسئول أمام الله عز وجل غداً عن عمله وعلمه فماذا نحن قائلون لربنا غداً.
هدانا الله وإياكم ووفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه، وتقبل منا ومنكم صالح الأعمال اللهم آمين. 

د/ أحمد عرفة
باحث دكتوراه بجامعة الأزهر
عضو الجمعية الفقهية السعودية
Ahmedarafa11@yahoo.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق