الخميس، 7 أكتوبر 2021

من صور المواساة في الإسلام د: أحمد عرفة

من صور المواساة في الإسلام

د: أحمد عرفة

من الأخلاق الحميدة التي دعانا إليها ديننا الإسلامي خُلق المواساة، وتتمثل حقيقة هذا الخُلق الإسلامي في وقوف الإنسان بجوار أخيه الإنسان يواسيه بالأقوال والأموال، يواسيه في أحزانه، وشدائده، يقف بجواره في وقت حاجته، فيعمل على قضاء مصالحه، وسد حاجاتهم، ولذلك أعلى الإسلام من قيمة المواساة، ولو بكلمة طيبة، أو ابتسامة حانية، أو قضاء مصلحة من المصالح، أو حاجة من الحاجات، فالكلمة الطيبة صدقة، وتبسمك في وجه أخيك صدقة، والمواساة كما قال الإمام ابن حجر –رحمه الله- هي: " أن صاحب المال يجعل يده، ويد صاحبه في ماله، سواء" (فتح الباري: 7/25)

وعندما نتأمل في القرآن الكريم نجد هذه الدعوة واضحة إلى خُلق المواساة، ولو بكلمة طيبة، ومن ذلك قوله سبحانه: "قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ" (البقرة: 263)، "أي: الذي أمرتم به قول معروف. والقول المعروف هو الدعاء والتأنيس والترجية بما عند الله، خير من صدقة هي في ظاهرها صدقة وفي باطنها لا شيء، لأن ذكر القول المعروف فيه أجر وهذه لا أجر فيها. قال صلى الله عليه وسلم: "الكلمة الطيبة صدقة، وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق" (أخرجه مسلم). فيتلقى السائل بالبشر والترحيب، ويقابله بالطلاقة والتقريب، ليكون مشكورًا إن أعطى ومعذورًا إن منع، وقد قال بعض الحكماء: الق صاحب الحاجة بالبشر فإن عدمت شكره لم تعدم عذره. (تفسير القرطبي: 3/ 309).

وقال جل وعلا: "وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (الحشر: 9)، يعني: حاجة، أي: يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم، ويبدءون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك، وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أفضلُ الصدقة جَهدُ المقلّ". وهذا المقام أعلى من حال الذين وَصَف اللهُ بقوله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ}[الإنسان : 8]، وقوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة : 177] فإن هؤلاء يتصدقون وهم يحبون ما تصدقوا به، وقد لا يكون لهم حاجة إليه ولا ضرورة به، وهؤلاء آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم وحاجتهم إلى ما أنفقوه. ومن هذا المقام تصدق الصديق، رضي الله عنه، بجميع ماله..."(تفسير ابن كثير: 8/71).

إنه إيثار ومواساة في أعلى صورها، فقد يكون الإنسان في أشد الحاجة إلى المال، أو الوقت، وإذ به يبذل ماله ووقته لأخيه الإنسان، ويسعى في قضاء حاجاتهم، ومصالحهم.

ولننظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبين لنا فضل ومكانة خُلق المواساة، في أحاديث كثيرة في سنته المطهرة، ومن ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ، لاَ يَظْلِمُهُ، وَلاَ يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ، كَانَ الله فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِم كُرْبَةً، فَرَّجَ الله عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَر مُسْلِمًا، سَتَرَهُ الله يَوْمَ القِيَامَة»، وقوله: " وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ، كَانَ الله فِي حَاجَتِهِ" أي: من كان ساعيًا في قضاء حاجته، وفيه تنبيه نبيه على فضيلة عون الأخ على أموره، وإشارة إلى أن المكافأة عليها بجنسها من العناية الإلهية، سواء كان بقلبه، أو بدنه، أو بهما؛ لدفع المضار، أو جلب المنافع إذ الكل عون" (تحفة الأحوذي: 4/575).

كذلك بيّن أنه أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، في عون أخيه بالمواساة له والوقوف بجانبه في أفراحه، وأحزانه، يسعى إدخال السرور عليه، ونفعه بما يستطيع، وقد جاء ذلك فيما أخرجه مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَن نَفَّسَ عن مؤمن كُرْبة من كُرَب الدنيا نَفَّسَ اللهُ عنه كُربة من كُرَب يوم القيامة، ومن يَسَّرَ على مُعْسِر، يَسَّرَ اللهُ عليه في الدنيا والآخِرَةِ ، وَمَن سَتَرَ مُسلِما سَتَرَهُ اللهُ في الدُّنيا والآخِرَةِ، واللهُ في عَونِ العبدِ ما كانَ العبدُ في عَونِ أَخيهِ...». قال الإمام النووي –رحمه الله-: "وهو حديث عظيم جامع لأنواع من العلوم، والقواعد، والآداب، ... ومعنى نفس الكربة أزالها، وفيه فضل قضاء حوائج المسلمين، ونفعهم بما تيسر من علم، أو مال، أو معاونة، أو إشارة بمصلحة، أو نصيحة، وغير ذلك، وفضل الستر على المسلمين..."(شرح النووي على مسلم: 17/ 21).

وقال صلى الله عليه وسلم: "ومن أقال مسلماً أقال الله عثرتَه يومَ القيامة"(أخرجه أبو داود وابن ماجه).

وعندما نتأمل في صور الإيثار نجدها كثيرة لا تكاد أن تحصى في مقال مختصر كهذا، وقد جمعها الإمام ابن القيم –رحمه الله- بقوله: "المواساة للمؤمنين أنواع: مواساة بالمال, ومواساة بالجاه, ومواساة بالبدن والخدمة, ومواساة بالنصيحة والإرشاد, ومواساة بالدعاء والاستغفار لهم, ومواساة بالتوجع لهم، وعلى قدر الإيمان تكون هذه المواساة، فكلما ضعف الإيمان ضعفت المواساة, وكلما قوى قويت, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم مواساة لأصحابه بذلك كله, فلأتباعه من المواساة بحسب اتباعهم له"(الفوائد: ص 188).

وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - : أَنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قال : «المؤمنُ للمؤمنِ كالبنيان يَشُدُّ بعضُه بعضا». وشَبَّكَ بين أصابعه.(أخرجه البخاري ومسلم).

قال الإمام ابن بطال-رحمه الله-: "تعاون المؤمنين بعضهم بعضًا في أمور الدنيا والآخرة مندوب إليه بهذا الحديث، وذلك من مكارم الأخلاق، وقد جاء في حديث آخر عن النبي (صلى الله عليه وسلم): ( الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه) فينبغي للمؤمنين استعمال آداب نبيهم والاقتداء بما وصف المؤمنين بعضهم لبعض من الشفقة والنصيحة ، وتشبيكه بيه أصابعه تأكيدًا لقوله وتمثيلًا لهم كيف يكونون فيما خولهم من ذلك". (شرح صحيح البخاري: لابن بطال 9/277).

وقال الإمام ابن رجب –رحمه الله-: "ويفهم من تشبيكه: أن تعاضد المؤمنين بينهم كتشبيك الأصابع بعضها في بعض، فكما أن أصابع اليدين متعددة فهي ترجع إلى أصل واحد ورجل واحد، فكذلك المؤمنون وإن تعددت أشخاصهم فهم يرجعون إلى أصل واحد، وتجمعهم أخوة النسب إلى آدم ونوح، وأخوة الإيمان". (فتح الباري: لابن رجب 2/584).

وعن النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - : قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : « مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ، تَدَاعَى سَائِرُ الْجَسَدِ، بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» (أخرجه البخاري ومسلم).

قال الإمام النووي-رحمه الله-: " هذه الأحاديث صريحة في تعظيم حقوق المسلمين، بعضهم على بعض، وحثهم على التراحم، والملاطفة، والتعاضد في غير إثم، ولا مكروه، وفيه جواز التشبيه، وضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأفهام قوله صلى الله عليه و سلم (تَدَاعَى سَائِرُ الْجَسَدِ) أي: دعا بعضه بعضًا إلى المشاركة في ذلك..."(شرح النووي على مسلم: 16/140).

وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَةٍ لَهُ، قَالَ: فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ يَمِينًا وَشِمَالاً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: « مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ زَادَ لَهُ». قَالَ: فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لاَ حَقَّ لأَحَدٍ مِنَّا فِي فَضْلٍ.

قال الإمام النووي -رحمه الله-: "في هذا الحديث الحث على الصدقة، والجود، والمواساة، والإحسان إلى الرفقة والأصحاب، والاعتناء بمصالح الأصحاب، وأمر كبير القوم أصحابه بمواساة المحتاج، وأنه يكتفي في حاجة المحتاج بتعرضه للعطاء، وتعريضه من غير سؤال، وهذا معنى قوله: "فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ: أي: متعرضًا لشيء يدفع به حاجته، وفيه مواساة ابن السبيل، والصدقة عليه، إذا كان محتاجًا، وإن كان له راحلة، وعليه ثياب، أو كان موسرًا في وطنه، ولهذا يعطي من الزكاة في هذه الحال، والله أعلم). (شرح النووي على مسلم: 12/ 33).

"ولما كانت المواساة لا تقتصر على مشاركة المسلم لأخيه في المال والجاه أو الخدمة والنّصيحة .. أو غير ذلك فإنّ من المواساة مشاركة المسلم في مشاعره خاصّة في أوقات حزنه، وعند تعرّضه لما يعكّر صفوه، وهنا فإنّ إدخال السّرور عليه وتطييب خاطره بالكلمة الطّيّبة، أو المساعدة الممكنة بالمال أو الجاه، أو المشاركة الوجدانيّة هو من أعظم المواساة وأجلّ أنواعها" (نضرة النعيم: 8/3460).

وعليه فإن للمواساة صورًا عديدة منها:

1-المواساة في المرض، وهذه صورة عظيمة من صور ثوابها، فضلها عظيم، وثوابها جزيل، ولكننا نجد الكثير منا اليوم قد غفل عنها، وهذا الأمر لو علمنا ثوابه، والأجر المترتب عليه، ما تخلفنا عنه لحظة، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ عَادَ مَرِيضًا، لَمْ يَزَلْ فِي خُرْفَةِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يَرْجِعَ» فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا خُرْفَةِ الْجَنَّةِ؟ قَالَ:« جَنَاهَا» (أخرجه مسلم)، وقال: « مَنْ عَادَ مَرِيضًا لَمْ يَزَلْ يَخُوضُ فِي الرَّحْمَةِ حَتَّى يَجْلِسَ فَإِذَا جَلَسَ يُغْمَسُ فِيهَا» (أخرجه أحمد)، وقال: «مَنْ عاد مريضًا، أو زَارَ أخًا له في الله، ناداه مناد: أنْ طبتَ، وطابَ مَمْشاك، وتَبوَّأتَ من الجنة منزلا» (أخرجه الترمذي)، فما أحوجنا اليوم إلى مواساة المرضى في مرضهم، والدعاء لهم، وهذا فيه من التخفيف عنهم ما فيه، والموفق من وفقه الله تعالى.

2-المواساة بالمال، وذلك عن طريق القرض الحسن، والذي أصبح اليوم غائبًا عن مجمعاتنا الإسلامية إلا من رحم الله تعالى، ولو علم المسلم ثوابه ما تركه عند قدرته عليه، وفي ذلك يقول سبحانه: مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" (البقرة: 245)،

 "مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (الحديد: 11)، وقال: "إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ" (الحديد: 18)، وقال: "إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ" (التغابن: 17).

3-المواساة بالعفو عن المعسر عند عدم قدرته على السداد، وهذا عمل من الأعمال الصالحة، والتي يتضاعف أجرها وثوابها، كما بيّن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: « مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عَنْهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ » (أخرجه مسلم)، وقال: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَإِنَّ لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَهُ صَدَقَةً». قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةً ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: بِكُلِّ يَوْم مِثْلَهُ صَدَقَةً فَقَالَ لَهُ:«بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ مَا لَمْ يَحِلَّ الدَّيْنُ فَإِذَا حَلَّ الدَّيْنُ فَإِنْ أَنْظَرَهُ بَعْدَ الْحِلِّ فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَهُ صَدَقَةً» (أخرجه البيهقي).

4-المواساة في الأحزان عند الموت، فإذا مات لأخيك ميت ينبغي عليك أن تقف بجواره، وتواسيه بالعزاء، والكلمات التي تخفف عنه مصابه، وهذا من السنة كما علمنا النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ رَدُّ السَّلاَمِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ» (أخرجه البخاري ومسلم)، وقال: « مَنْ عَزَّى مُصَابًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ» (أخرجه الترمذي)، والمصاب: هو الذي عرضت له المصيبة.

وتعزية أهل الميت في مصابهم مشروع بالإجماع، وإنما الخلاف في كيفيته، وعلى أي حال ينبغي علينا ألا نترك المشاركة والمواساة للناس في أحزانهم ومصائبهم، فأجرها عظيم، وثوابها جزيل، كما بيّن النبي صلى الله عليه وسلم.

5-المواساة بالطعام والشراب؛ وسد حاجة الجوعى والمحتاجين، الذين ربما لا يجد أحدهم قوت يومه، أو ربما حسبه المرض، فلا يستطيع الخروج لقضاء حاجته من الطعام والشراب، لا سيما في وقت الوباء، منعًا لانتشار العدوى، فعلينا أن نواسيهم في شدتهم، وأن نكون معهم لسد حاجاتهم من الغذاء والدواء، وقد بيّن ربنا جل وعلا ثواب إطعام الطعام فقال: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا) (الإنسان: 8-12)، وقال صلى الله عليه وسلم: «أَيُّمَا مُسْلِمٍ كَسَا ثَوْبًا عَلَى عُرْىٍ كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ خَضِرِ الْجَنَّةِ، وَأَيُّمَا مُسْلِمٍ أَطْعَمَ مُسْلِمًا عَلَى جُوعٍ أَطْعَمَهُ اللَّهُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، وَأَيُّمَا مُسْلِمٍ سَقَى مُسْلِمًا عَلَى ظَمَإٍ سَقَاهُ اللَّهُ مِنَ الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ» (أخرجه أبو داود)، وقال: "أَحَبُّ الناس إلى اللَّهِ تَعَالَى أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إلى اللَّهِ تَعَالَى سُرُورٌ تُدْخِلُهُ على مُسْلِمٍ، أو تَكَشِفُ عنه كُرْبَةً، أو تَقْضِي عنه دَيْنًا، أو تَطْرُدُ عنه جُوعًا؛ وَلأَنْ أَمْشِيَ مع أَخِ في حَاجَةٍ، أَحَبُّ إلي من أَنْ أَعْتَكِفَ في هذا الْمَسْجِدِ يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ شَهْرًا، وَمَنَ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ، مَلأَ اللَّهُ قَلْبَهُ رَجَاءً يوم الْقِيَامَةِ، وَمَنْ مَشَى مع أَخِيهِ في حَاجَةٍ حتى يَتَهَيَّأَ له ،أَثْبَتَ اللَّهُ قَدَمَهُ يوم تَزُولُ الأَقْدَامِ" (أخرجه الطبراني).

ولننظر إلى هذه المواساة في أبهى وأجمل صورها في حديث الأشعريين حيث قال صلى الله عليه وسلم: « إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ، وَقَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ، جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ، فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ فَهُمْ مِنِّى وَأَنَا مِنْهُمْ» (أخرجه البخاري ومسلم).

قال الإمام ابن الجوزي –رحمه الله-: " فمدحهم بالإيثار والمواساة، وأضافهم إليه؛ لأنه غاية الكرم، فقال: "هم مني" يعني بأفعالهم، وإن لم يكونوا من أقاربه" (كشف المشكل من حديث الصحيحين: 1/267).

وقال الإمام ابن بطال-رحمه الله-: "للسلطان أن يأمر الناس بالمواساة ويجبرهم على ذلك ، ويشركهم فيما بقى من أزوادهم أحياء لإرماقهم وإبقاء لنفوسهم، وفيه أن للإمام أن يواسى بين الناس في لأقوات في الحضر بثمن وبغير ثمن، كما له فعل ذلك في السفر، وقد استدل بعض العلماء بهذا الحديث، وقال : إنه أصل في ألا يقطع سارق في مجاعة؛ لأن المواساة واجبة للمحتاجين" (شرح صحيح البخاري: 7/7).

ولننظر إلى سلفنا الصالح رضوان الله عليهم في مواساتهم للفقراء والمحتاجين، فها هو سيدنا علي بن الحسين رضي الله عنه: كان يحمل الخبز في الليل على ظهره، يتبع في المساكين، ويقول: إن الصدقة في سواد الليل تطفئ غضب، ولما مات رضي الله عنه وجدوا في ظهره أثرًا مما كان ينقل الجرب (جراب الدقيق) بالليل إلى منازل الأرامل، والفقراء بالمدينة".(حلية الأولياء: 3/ 383).

 وعن محمّد بن إسحاق- رضي اللّه عنه- قال: كان ناس من أهل المدينة يعيشون، لا يدرون من أين كان معاشهم، فلمّا مات عليّ بن الحسين، فقدوا ذلك الّذي كانوا يؤتون باللّيل". (سير أعلام النبلاء: 3/ 393).

  وقال إبراهيم بن أدهم –رحمه الله-: "المواساة من أخلاق المؤمنين" (حلية الأولياء: 7/ 370).

وقال ابن قتيبة -رحمه الله-: "لا حُصِّنت النعم بمثل المواساة" (عيون الأخبار: 1/388).

          وعندما نتأمل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم نجد العديد من المواقف على مواساته لأصحابه رضي الله عنهم، ومن ذلك ما جاء عن أنس رضي الله عنه قال: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- الْمَدِينَةَ أَتَاهُ الْمُهَاجِرُونَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا رَأَيْنَا قَوْمًا أَبْذَلَ مِنْ كَثِيرٍ، وَلاَ أَحْسَنَ مُوَاسَاةً مِنْ قَلِيلٍ مِنْ قَوْمٍ نَزَلْنَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ لَقَدْ كَفَوْنَا الْمُؤْنَةَ، وَأَشْرَكُونَا فِي الْمَهْنَإِ حَتَّى خِفْنَا أَنْ يَذْهَبُوا بِالأَجْرِ كُلِّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- «لاَ مَا دَعَوْتُمُ اللَّهَ لَهُمْ وَأَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ». (أخرجه الترمذي)

وعن عثمان بن عفّان- رضي اللّه عنه- أنّه قال وهو يخطب: «إِنَّا وَاللَّهِ قَدْ صَحِبْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، فكَانَ يَعُودُ مَرْضَانَا، وَيَتْبَعُ جَنَائِزَنَا وَيَغْزُو مَعَنَا، وَيُوَاسِينَا بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَإِنَّ نَاسًا يُعْلِمُونِي بِهِ عَسَى أَنْ لاَ يَكُونَ أَحَدُهُمْ رَآهُ قَطُّ» (أخرجه أحمد).

وللمواساة فوائد كثيرة منها:

(1) تورث حبّ اللّه- عزّ وجلّ- ثمّ حبّ الخلق.

(2) دليل حبّ الخير للآخرين.

(3) تشيع روح الأخوّة بين المسلمين.

(4) تقوّي العلاقات بين المسلمين.

(5) تساعد على قضاء حاجات المحتاجين وسدّ عوز المعوزين.

(6) تدخل السّرور على المسلم وترفع من معنويّاته فيقبل على الحياة مسرورا.

(7) المواساة تجعل صاحبها من المسرورين يوم القيامة.

(8) المواساة من أحبّ الأعمال إلى اللّه- عزّ وجلّ-.

(9) المواساة تدعو إلى الألفة وتؤكّد معنى الإخاء وتنشر المحبّة.

(10) المواساة تدفع الغيظ وتذهب الغلّ وتميت الأحقاد. ينظر: نضرة النعيم: (8/ 3469).

فما أحوجنا اليوم إلى تطبيق هذا الخُلق الإسلامي الرفيع، الذي دعانا إليه ديننا الإسلامي الحنيف، وعلمنا إياه نبينا صلى الله عليه وسلم؛ كي نسعد في الدنيا والآخرة، فلا سعادة ولا نجاة إلا من خلال طاعة الله تعالى، وامتثال ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم.

وفقنا الله تعالى وإياكم لما يحبه الله ويرضاه، اللهم آمين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق