الخميس، 7 أكتوبر 2021

علمني الابتلاء د: أحمد عرفة

 

علمني الابتـــــــــــــــــــــــــــــلاء

د/ أحمد عرفة

يقول الله تعالى: "وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ" (البقرة: 155-157).

إِنَّ المتأمل في أحوال الناس اليوم مع الابتلاءات والمحن والشدائد التي تمر بهم، يجد أن منهم من يستقبلها بالصبر والاحتساب، ومنهم من يستقبلها بالجزع والتسخط، وربما قال كلامًا يغضب الله تعالى، وقد تعلمت من البلاء الكثير والكثير، ومما علمني الابتلاء أن عظم الجزاء من عظم البلاء، وأن الله تعالى إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي الله فله الرضا، ومن سخط فله السخط، وقد جاء ذلك فيما أخرجه الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ عِظَم الجزاءِ مع عِظَم البلاء، وإنَّ الله تعالى إذا أحبَّ قوما ابْتلاهُم، فَمَن رَضيَ فله الرِّضى، ومن سَخِطَ فله السَّخَطُ» وقوله: (إنَّ عِظَم الجزاءِ) أي: كثرته (مع عِظَم البلاء) فمن ابتلاؤه أعظم فجزاؤه أعظم (ابْتلاهُم) أي: اختبرهم بالمحن والرزايا (فَمَن رَضيَ) بما ابتلاه به (فله الرِّضى) منه تعالى وجزيل الثواب (ومن سَخِطَ) أي: كره بلاء الله، وفزع، ولم يرض بقضائه (فله السَّخَطُ) منه تعالى، وأليم العذاب، ومن يعمل سوءا يجز به، والمقصود الحث على الصبر على البلاء بعد وقوعه، لا الترغيب في طلبه؛ للنهي عنه"(تحفة الأحوذي: 7/65-66).

كما علمني الابتلاء: أن قضاء الله عز وجل خير كله، ولعل الخير يكمن في الشر، والله يعلم وأنتم لا تعلمون، قال تعالى: "وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ" (البقرة: 216)، وقال صلى الله عليه وسلم: «عَجَبا لأمر المؤمن! إنَّ أمْرَه كُلَّه له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابتْهُ سَرَّاءُ شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابتْهُ ضرَّاءُ صَبَر، فكان خيرًا له» (أخرجه مسلم)، ومن هذا الحديث أخذ الإمام ابن القيم-رحمه الله- قاعدة عظيمة في بيان حال المؤمن في السراء والضراء، وأن في كل منهما عبودية لله تعالى، ففي حال السراء تكون عبادة الشكر، وفي حال الضراء تكون عبادة الصبر حيث قال –رحمه الله-: "محن من الله تعالى يبتليه بها ففرضه فيها (الصبر) والتسلي، ... فإذا قام به العبد كما ينبغي انقلبت المحنة في حقه منحة، واستحالت البلية عطية، وصار المكروه محبوبًا، فإن الله سبحانه وتعالى لم يبتله ليهلكه، وإنما ابتلاه ليمتحن صبره وعبوديته، فإن لله تعالى على العبد عبودية الضراء، وله عبودية عليه فيما يكره، كما له عبودية فيما يحب، وأكثر الخلق يعطون العبودية فيما يحبون، والشأن في إعطاء العبودية في المكاره، ففيه تفاوت مراتب العباد، وبحسبه كانت منازلهم عند الله تعالى" (الوابل الصيب: 11).

وعلمني الابتلاء: الصبر والاحتساب في الشدائد والمصائب، وعدم الجزع والتسخط في حال الشدة والكرب، وإنما التحلي بالصبر والرضا، وذلك لما أعده الله عز وجل من جزاء عظيم، وثواب جزيل لأهل البلاء، وأن أهل العافية ربما تمنوا ذلك لما يرون من ثواب وجزاء أهل البلاء، وقد بيّن لنا النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فيما أخرجه الترمذي عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-« يَوَدُّ أَهْلُ الْعَافِيَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حِينَ يُعْطَى أَهْلُ الْبَلاَءِ الثَّوَابَ، لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بِالْمَقَارِيضِ».

وعلمني الابتلاء: أن هذه الابتلاءات والشدائد، إما أن تكون رفعة في الدرجات، وإما أن تكون تكفيرًا للسيئات، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَزَالُ الْبَلاَءُ بِالْمُؤْمِنِ أَوِ الْمُؤْمِنَةِ، فِي جَسَدِهِ، وَفِي مَالِهِ، وَفِي وَلَدِهِ، حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ"(أخرجه أحمد والترمذي). "قال القاري: أي: وليس عليه سيئة؛ لأنها زالت بسبب البلاء. وقال الباجي: يحتمل أن يريد أنه يحط لذلك عنه خطاياه حتى لا يبقى له خطيئة، ويحتمل أن يريد أنه يحصل له على ذلك من الأجر ما يزن جميع ذنوبه فيلقي الله تعالى وليس له ذنب يزيد على حسناته فهو بمنزلة من لا ذنب له وإنما هذا لمن صبر واحتسب، وأما من سخط ولم يرض بقدر الله تعالى فإنه أقرب إلى أن يأثم لتسخطه فيكثر بذلك سائر آثامه"(مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: 5/ 261).

ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم المرأة التي كانت تبكي عند القبر قال لها: « اتَّقِى اللَّهَ وَاصْبِرِي». قَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّى، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتي، وَلَمْ تَعْرِفْهُ. فَقِيلَ لَهَا إِنَّهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم-: فَأَتَتْ بَابَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم- فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ فَقَالَتْ: لَمْ أَعْرِفْكَ. فَقَالَ: « إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى» (أخرجه البخاري). فبيّن النبي صلى الله عليه وسلم جزاء الصبر والاحتساب عند الشدائد والمصائب في أول المصيبة والمحنة، وقال: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى".

وعلمني الابتلاء أن الأمور تجري بمقادير الله تعالى، وأن ما يقدره الله تعالى هو الخير للعبد، فعليه أن يرضى ويسلم بكل ما يفعله الله تعالى به، وفي ذلك يقول سبحانه: "مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" (التغابن: 11)، قال الإمام الطبري-رحمه الله-: "يقول تعالى ذكره: لم يصب أحدًا من الخلق مصيبة إلا بإذن الله، يقول: إلا بقضاء الله وتقدير ذلك عليه( وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) يقول: ومن يصدّق بالله فيعلم أنه لا أحد تصيبه مصيبة إلا بإذن الله بذلك يهد قلبه: يقول: يوفِّق الله قلبه بالتسليم لأمره والرضا بقضائه" (تفسير الطبري: 23/421).

وقال السعدي-رحمه الله:"هذا عام لجميع المصائب، في النفس، والمال، والولد، والأحباب، ونحوهم، فجميع ما أصاب العباد، فبقضاء الله وقدره، قد سبق بذلك علم الله تعالى، وجرى به قلمه، ونفذت به مشيئته، واقتضته حكمته...فإذا آمن أنها من عند الله، فرضي بذلك، وسلم لأمره، هدى الله قلبه، فاطمأن ولم ينزعج عند المصائب، كما يجري لمن لم يهد الله قلبه، بل يرزقه الثبات عند ورودها، والقيام بموجب الصبر، فيحصل له بذلك ثواب عاجل، مع ما يدخر الله له يوم الجزاء من الثواب" (تفسير السعدي: 1/867).

 وقال جل وعلا: "مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ" (الحديد: 22، 23)، "وهذا شامل لعموم المصائب التي تصيب الخلق، من خير وشر، فكلها قد كتبت في اللوح المحفوظ، صغيرها وكبيرها، وهذا أمر عظيم لا تحيط به العقول، بل تذهل عنده أفئدة أولي الألباب، ولكنه على الله يسير، وأخبر الله عباده بذلك لأجل أن تتقرر هذه القاعدة عندهم، ويبنوا عليها ما أصابهم من الخير والشر، فلا يأسوا ويحزنوا على ما فاتهم... ولا يفرحوا بما آتاهم الله فرح بطر وأشر، لعلمهم أنهم ما أدركوه بحولهم وقوتهم، وإنما أدركوه بفضل الله ومنه، فيشتغلوا بشكر من أولى النعم ودفع النقم"(تفسير السعدي: 1/ 842).

كما علمني الابتلاء: أن النظر والتأمل في مصائب الغير وأحوالهم في الابتلاءات التي يمرون بها، مما يخفف أثر البلاء على الإنسان نفسه، فمن تأمل في مصيبة غيره هانت عليه مصيبته كما يقولون، وعلم بذلك أن مصيبته أهون بكثير من مصاب غيره، وهذا مما يخفف أثر البلاء على أهله.

وعلمني الابتلاء: أن الرجال معادن، وأن معدن الرجل الأصيل يظهر في وقت الشدائد والمحن، فكما قالوا: "ربما يكون لك أصدقاء بعدد شعر الرأس، لكن في وقت الشدة تجد نفسك أصلع"، وكما قال الإمام الشافعي-رحمه الله-: "جزى الله الشدائد عني كل خيرًا...عرفت بها صديقي من عدوي"، ففي وقت البلاء والشدة تعرف مكانة الصديق الصدوق الذي يقف بجوارك، فهذا هو الصديق حقًا، وقد ظهر ذلك واضحًا جليًا في الهجرة النبوية من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فكان نعم الصديق والرفيق مع النبي صلى الله عليه وسلم.

وعلمني الابتلاء: شكر النعم التي ربما يغفل كثير من الناس عنها، وربما لا يعرف أحدهم قيمة النعمة إلا إذا ذهبت منه، وأن ألف الإنسان للنعم ربما يكون سببًا في نسيان الشكر بل ربما جحود هذه النعم، ومعصية الله تعالى بها، لذلك قالوا: "الصحة تاج على رؤؤس الأصحاء لا يراه إلا المرضى"، فعلينا أن نشكر نعم الله تعالى، ولعل في الابتلاء تذكير بهذه النعم، والقيام بشكرها كما أمر الله عز وجل فقال: "لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ" (إبراهيم: 7)، فبالشكر تحفظ النعم وتدوم.

كما علمني الابتلاء: أن التعرف إلى الله تعالى في الرخاء يكون سببًا في معرفة الله تعالى للعبد عند وقوعه في الشدائد والمحن والمصائب، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم في وصيته لابن عباس رضي الله عنهما: " تَعَرَّف إِلى الله في الرَّخاء يَعْرِفْكَ في الشدة" (أخرجه الترمذي). قال المناوي-رحمه الله-:" بتفريجها عنك، وجعله لك من كل ضيق مخرجا، ومن كل هم فرجا، فإذا تعرفت إليه في الاختيار جازاك به عند الاضطرار بمدد توفيقه، وخفي لطفه" (التيسير بشرح أحاديث الجامع الصغير: 1/914).

وعلمني الابتلاء: أن من كرم الله تعالى للصالحين، أنهم إذا مرضوا يكتب الله تعالى لهم أجر ما كانوا يقومون به في حال صحتهم، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري في صحيحه: « إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ، كُتِبَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلَ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا»، قال الإمام ابن بطال –رحمه الله-: "من كانت له عادة من عمل صالح ومنعه الله منه بالمرض أو السفر وكانت نيته لو كان صحيحًا أو مقيمًا أن يدوم عليه ولايقطعه، فإن الله تعالى يتفضل عليه بأن يكتب له ثوابه، فأما من لم له تنفل ولا عمل صالح فلا يدخل في معنى الحديث لأنه لم يكن يعمل في صحته أو لإقامته ما يكتب له في مرضه وسفره" (شرح صحيح البخاري: 9/ 372)، وهذا من عظيم فضل الله تعالى الكريم سبحانه لأهل البلاء في حال مرضهم، وفي هذا من الخير العظيم، والثواب الجزيل ما فيه من بشريات طيبة لأهل البلاء.

فاللهم اجعل هذه الابتلاءات رفعة لنا في الدرجات، وتكفيراً للسيئات، وارزقنا حسن الأدب في التعامل معها، ووفقنا للصبر والرضا والتسليم، وخفف عنا يا أرحم الراحمين، اللهم آمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق